ترجمة: د. عصام حجاوي

الموسيقى والثقافة ومحاربة الاعتقال السياسي

zhwTa.jpeg
المصدر / بوابة الهدف الإخبارية

مركز حنظلة_فلسطين المحتلة 

د. لوِس برهوني

"السجنُ هو فنُّ استخدام الاحتمالات؛ إنّه مدرسةٌ تُدرّبك على مواجهة التحدّيات اليوميّة باستخدام أبسط الوسائل وأكثرها إبداعًا". خالدة جرار

في 17 أبريل، أصدرت المطربة والفلكلوريّة الفلسطينيّة سناء موسى نسختها من "يا نقب كوني إرادة"، داخل معسكر اعتقال النقب عام 1987 من ألحان صالح عبد ربه، وغنّاها ثلة من النزلاء المقاومين. نشأت الأغنية في أوقات القمع الصهيوني الشديد والاحتجاجات المتزايدة المناهضة للاحتلال، ومنذ ذلك الحين أصبحت الأغنية نشيدًا للصمود والثورة، غنّاها عازف العود إبراهيم صالح أبو لبن، وعادت للظهور عام 2022 على لافتات في برلين، وغنّتها مؤخّرًا الجماهيرُ دفاعًا عن قرية (الشيخ مونّس) من التطهير العرقي العنصري. وجاء غناؤها بصنعاء مع تصاعد إضراب الشيخ خضر عدنان عن الطعام. كما في الكفاح من أجل التحرّر الأيرلندي في السبعينات والثمانينات، أصبح السجناء السياسيّون الفلسطينيّون حاملي بوصلة الحركة المناهضة للاستعمار. كما هو الحال في أيرلندا، فإنّ الموسيقى هي مقاومة، حيث تصبح الأغاني وسيلةً للنقد والمطالب والمستقبل الذي تتخيّله الجماهير الصاعدة.

في مقابلةٍ مع السجين السياسي عاصم الكعبي في تشرين الأول (أكتوبر) 2021، توصلت إلى إدراك مدى دمج الأنشطة الثقافيّة في الروتين اليومي للسجين، وهي نفسها لا تنفصل عن التنظيم السياسي والاحتجاج داخل السجون. وكان الرفيق عاصم قد أفرج عنه في 17 مايو بعد 18 عامًا داخل زنازين الاحتلال، وأعيد سجنه إداريًا "دون تهمة" وتحرر بتاريخ 22/6 المنصرم. في نقاشنا، وصف أيامًا لنشاط السجناء، ولكل منه مخزونه الخاص من الأغاني والأنشطة الثقافية:

"في يوم الأسير نغني دائمًا "يا ظلام السجن خيم"، وعندما يطلق سراح سجين نغني "طلعنا وقهرنا السجان". كل مناسبة لها أغانيها الخاصّة. هناك أغانٍ جديدةٌ نتعلمها بعد سنوات في السجن، قادمة عبر سجناء جدد، ونحفظها ونضيفها إلى قوائم الأغاني التي نغنيها في أيّامٍ محدّدة".

ووصف عاصم الكعبي تجربة الانتماء السياسي المرتبطة بهذه الأنشطة بأنها "تخرج من مدرسة الثورة". وأوضح: "يدخل الكثير منا السجن دون تعليم أو فهم ثقافي، لكن طريقتنا في التنظيم تعطينا ثقافةً سياسيّةً جديدةً لفهم العالم من حولنا".

من خلال هذه النقاشات مع معتقلين سياسيين سابقين سمعت لأول مرة قصة فداء الشاعر، موسيقي سوري من الجولان المحتل، مسجون لدى السلطات الصهيونية في جلبوع. بعد أن صادر السجانون عوده، قرر فداء بناء آلته الموسيقية داخل السجن، في عمليةٍ منسّقةٍ شارك فيها العديد من السجناء الفلسطينيين الآخرين. وأوضح رؤيته: "تخيّلت أن هذه النغمات ستصرخ بجمال ولحن، وتحطم جدران السجن حتى يسمعها الناس.

صرخة من أجل الحرية والأمل... لقهر السجان". أنشطة تحررية كهذه من خلال التنظيم الجماعي، باستخدام خردة الخشب من مجموعات الشطرنج القديمة، ومقابض المكانس والملاعق الخشبية لصياغة الأجزاء المختلفة من الآلة الموسيقيّة، بينما تم العثور على تقنية لإنتاج الغراء من المنتج الثانوي للأرز المغلي. إلى حدٍّ بعيد، كان من الصعب الحصول على أوتار العود التي تم تهريبها إلى السجن داخل الملابس.

نظم الرفاق العملية أثناء صنع العود، حيث كان هناك سجين يحرس باب الزنزانة ويحذر فداء وفريق الإنتاج إذا تم رصد الحراس. في الفترة القصيرة التي سبقت العثور على العود من قبل الحراس، قاد فداء رفاقه المسجونين في جلسات كتابة الأغاني والغناء وقام بتأليف 13 مقطوعة خاصة به.

كان أحد الرفاق ينتج أعمالًا فنية ملتزمة من تراث السجون الممتد لعقود، وعمل مع فداء على سلسلةٍ من الأغاني. عندما كشف السجانون أخيرًا عن العملية السرية الجارية في الزنزانة وصادروا العود، أظهر ذلك السجين المخضرم تضامنًا كبيرًا من خلال ادّعاء أن العود هو عمله الخاص مخاطرًا بمواجهة العواقب الوحشيّة لنظام السجن الانتقامي؛ اسم ذلك الأسير هو وليد دقة.

تاريخ شعر السجون في المنطقة:

يتذكر الفلسطينيون الذين نشأوا في عصور الانتفاضة وأوسلو أغاني السجون باعتبارها جزءًا مهمًّا من التراث المكتسب من فعاليّات الغناء الجماعي. وبتعاونٍ مع الجالية الفلسطينيّة في القاهرة، قامت جوقة عباد الشمس (كورال عباد الشمس) في أوائل التسعينات بتعليم الأطفال الصراع المحتدم في الوطن، مستخدمة الغناء جسرًا للنضال المستمرّ في الوطن. ومن الأمثلة التي غنّاها تامر أبو غزالة وغيره من أعضاء الكورال الشباب "يا ظلام السجن خيّم": أيّها الحُراس عفوًا.. واسمعوا منّا الكلاما.. متعونا بهواءٍ منعه كانَ حرامًا.. لستُ والله نسيًّا ما تقاسيه بلادي

على الرغم من أنه تم غناؤها في القاعات المجتمعية من قبل شباب فلسطينيين يرتدون الكوفية، فقد تم كتابتها عام 1922 داخل زنزانة سجن نجيب الريس، الذي سجنه المحتلون الفرنسيون لسوريا في السنوات التي تلت اتفاقية سايكس بيكو. في استهدافه لقطاع جماهيري أوسع لحشد القوى الإقليمية لمواجهة الإمبريالية والصهيونية، كان عمل الريس معاصرًا لكتابة الأغاني الهادفة لسيد درويش، الذي ترك وراءه الموشحات الكلاسيكية لمواجهة المحتلين لمصر والسخرية منهم من خلال الموسيقى، وقد تبع المطربون الفلسطينيون مثل نمر الناصر مسارات مماثلة في التحول من الطرب إلى الغناء السياسي.

ولدت ونشأت في مخيم البريج بغزة لأسرة نازحة من قرية القبيبة، تتذكر أم علي غناء "دروس التاريخ" في فترة سابقة من النضال الفلسطيني، عندما كانت تبلغ من العمر 10 سنوات وقت انتفاضة عام 1987، كانت تعدّ الغناء بمثابة "جسر" للانخراط للنضال في الشوارع: "يذكرني بالمقاومة الأولى. عندما بدأ إخوتي العمل مع الجبهة الشعبيّة. عندما غطّوا وجوههم وخرجوا... لقد وحّدت الانتفاضة الناس".

من بين الأغاني التي تذكرتها أم علي وآخرون أغنية من سجن عكا، التي تدور أحداثها حول فؤاد حجازي وعطا الزير ومحمد خليل جمجوم، الذين أعدمهم السجانون البريطانيون في عكا في 17 يونيو 1930. تعلمت أم علي الكلمات من شريطٍ سجّلته فرقة العاشقين في سوريا: يا ثلاث نجوم.. فوق أرض بلادي بتحوم.. وطلعت من عكا جنازة لثلاث.. طيور تتدلى من قلب العتمة وتفرش.. وطني بحزمة نور

إظهارًا لقدرة الموسيقى على نقل إرث دائم من المقاومة، يتذكر محمد عساف أيضًا تعلُّم أغاني فرقة العاشقين عندما كان طفلًا وقال لي الموسيقى متجذرة في مشاعرنا نحن الفلسطينيين. قصيدة من سجن عكا كتبها الشاعر نوح إبراهيم في أعقاب المذبحة، وانتشرت كلماتها كالنار في الهشيم أثناء المواجهات الثورية بين عامي 1936 و 1939. القصة خلدها كذلك الشاعر إبراهيم طوقان. وأفادت الأنباء أن الثلاثة قضوا ليلتهم الأخيرة وهم يغنون "يا ظلام السجن خيّم" من زنزانتهم.

استمرت الأشعار والأغاني تروي اعتقال مقاتلي الحرية الفلسطينيين حتى بعد نكبة عام 1948.

معتقلًا في سجن الرملة، أصبح حنا أبو حنا شخصية مؤثرة وأشاد بها غسان كنفاني ممثّلًا رئيسيًّا لحركة المقاومة الشعرية الجديدة. في أحد الأمثلة، بعنوان "طفل من شعبي" المنشور في عمل غسان، أدب المقاومة الفلسطينية في ظل الاحتلال 1948-1968، يلقي حنا تصوّرًا شعريًّا؛ نداء طفل صغير من خارج نافذة سجنه:

خلف القضبان، من الشباك يطل جبين كهلال طفل [هلَّ] عليّ وضاحِ الاشراق فيّ كالنعنع غض، كالريحان شذاه حنونْ

“تخفش منهم… كن شجاعًا “ من سجن “عكا الأيرلندي” روح الحرية تطفو في الأثير.. أرواح أبطالنا تسير إلى جانبنا

• من ترنيمة المعركة لجيش المواطن الأيرلندي، تأليف: كونستانس ماركيفيتش (1913-1914).

في عهد "من سجن عكا"، جلب القمع البريطاني في فلسطين "الانتدابية" الدروس المستفادة من حملات مكافحة التمرد الدامية الأخيرة في احتلالاتها الاستعمارية الأخرى، ومن بين تلك كانت أقدم مستعمرة بريطانية، أيرلندا. ففي عام 1916، شهد الشعب الأيرلندي أحداثًا تنبئ بقتل حجازي والزير وجمجوم. في انتفاضة عيد الفصح في دبلن، نشأت حركة المقاومة المسلحة الأيرلندية للتخلص من الوجود الإمبريالي البريطاني، معلنةً قيام جمهورية إيرلندية في 24 أبريل. التي ووجهت بقمعٍ شديد، حيث قتلت القوات البريطانية أكثر من 300 وسجنت أكثر من 3500 إيرلندي، بقيادة الاشتراكي الأيرلندي العظيم جيمس كونولي، وتم إعدام 16 من قادة الانتفاضة في سجون الاحتلال في غضون أسابيع.

بينما كان منخرطًا بشدة في نضالات الطبقة العاملة، كتب كونولي نفسه الأغاني والقصائد، وكتب في عام 1907 أنه "لا توجد حركة ثورية كاملة دون تعبيرها الشعري". أثار إعدام كونولي رميًا بالرصاص في سجن كيلمينهام جول في 12 مايو 1916 قهقهة وتصفيق من السياسيين البريطانيين في وستمنستر، بقيادة نواب حزب العمال الانتهازيين. كان ردّ فعلهم، ولا التقسيم القادم لأيرلندا، من شأنه أن يسكت أصوات الشعر الاحتجاجي الذي غنّى على شرف كونولي: من سيرفع عاليا الراية المحترقة؟.. من سيرفع عاليا الراية المحترقة؟.. من غير جيمس كونولي.. يمكن أن يحمل عاليًا العلم المحترق.. حملوه إلى السجن.. حملوه إلى السجن.. وأطلقوا عليه النار في صباح يوم مشرق من شهر مايو.. وسرعان ما وضعوه في قبره

كتب هذا المثال من الأشعار باتريك جالفين بعد عقود من الحدث، حيث استمرت اتجاهات كتابة الأغاني الثورية وجمعها على النوتات الموسيقية ومن خلال النقل الشفهي لفترة طويلة بعد قمع الانتفاضة. كانت تصورات السجون الاستعمارية موضوعًا رئيسيًّا. وكتب بيدار مكونا ميهي Peadar Mac Conna Midhe في "إيرين (أيرلندا) تذكر 1916": سبعة أيام كاملة يلعلع المدفع.. تنهار البيوت.. وسط الحريق يقول القائد.. "نضحي لإنقاذ المدينة".. كما استمر التمرد، تم إطلاق النار على الشجعان.. في ساحة السجن يكذبون.. تلك البقعة المقدسة، لن تنتسى.. موتاها لن يموتوا أبدًا

كما هو الحال في الحركة الثورية الفلسطينية في ثلاثينات القرن الماضي، ازدهرت الأغنية والشعر الإيرلنديان خلال هذه الفترة، واشتعلت من جديد في المعارك المستقبلية مع الإمبريالية. تجدد النضال بعد الغزو العسكري للشمال الأيرلندي عام 1969، واستخدمت أشكال الاعتقال الإداري والتعذيب من قبل المحافظين البريطانيين والحكومات العمالية لمحاولة سحق الحركة الجمهورية الأيرلندية. كان بوبي ساندز، الذي ربما يكون أشهر سجين سياسي وشهيد في أيرلندا، "شاعرًا ومقاتلًا" كما غنى في جوقة انشدت أغنية كتبها بروس سكوت.

كتب ساندز أيضًا أغاني وشعرًا خلف قضبان سجون H-Block قبل وفاته مضربًا رئيسيًّا عن الطعام في 5 مايو 1981. كانت الأغنية الشعبية Joe McDonnell قد كرستها فرقة Wolfe Tones لرفيق آخر لبوب ساندس Sands وسردت قصة المقاومة والاعتقال على يد المحتل البريطاني المتعنت: وأنت تجرؤ على مناداتي بإرهابي بينما تنظر إلى أسفل بندقيتك.. عندما أفكر في كل الأعمال التي قمت بها.. لقد نهبتم أممًا كثيرة، وقسمتم أراضيَ كثيرة.. أرهبت شعوبهم وحكمت بيد من حديد.. وأحضرت عهد الرعب هذا إلى أرضي

في الوقت الذي احتدم فيه إضراب عام 1981 عن الطعام في شمال أيرلندا المحتل، كانت هناك تحركات دولية للتضامن مع نضالهم. ومن بينهم، قام عدد من السجناء الفلسطينيين في سجن نفحة بتهريب رسالةٍ تحيي فيها بوبي ساندز والمقاتلين الأيرلنديين.

عبقرية الشعب: ثقافات النضال في السجون

الأمثلة الفلسطينية والأيرلندية التي نوقشت بإيجازٍ هنا تتحدّث عن تاريخ أوسع لنضال السجون المصاحب للحركات الثورية على الصعيد الدولي. كان الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، الذي سُجن من قبل دكتاتوريّة باتيستا المدعومة من الولايات المتحدة عام 1953، يلقي بيانًا حماسيًّا من وراء القضبان، يعلن فيه: "لا يهم أن تدينني، فسوف يبرئني التاريخ". من هو شي من إلى روزا لوكسمبورغ، ومن جورج جاكسون إلى أحمد سعدات، سعى الاستعمار والإمبريالية عبثًا إلى إسكات الأصوات الرائدة في النضال الشعبي.

إن كون هذا القمع هو أيضًا منتج للثقافة المادية والسياسية الثورية هو نتيجة ديالكتيكية للمواجهة نفسها. في فلسطين، الموسيقيون والفنانون جزءًا لا يتجزأ من الجماهير لدرجة أن العديد منهم قد تعرض للاعتقال والاعتداء العنيف على حقهم في الغناء. بالنسبة لمغنيي المقاومة المقدسيين مصطفى الكرد وجورج قرمز في السبعينات، يمكن أن نقرأ الموسيقي الأوركسترالية لمريم عفيفي وللعضو البارز في فرقة الفنون عطا خطاب في العصر الحديث.

الموسيقى والأغنية مجرد بُعدٍ واحدٍ من الوسائل الثقافية والإبداعية التي يستخدمها السجناء السياسيون لمقاومة أوضاعهم.

تشمل حملاتهم اليومية الشعر والقصة والمسرح والمذكرات والرسم والنحت والعديد من الأشكال الفنية الأخرى. قد تشير أنشطة فداء الشاعر ورفاقه في الواقع إلى نوعٍ فرعي من النشاط الموسيقي: صناعة الآلات الموسيقية.

في زنزانات أيرلندا المحتلّة، تم نحت القيثارات التقليدية من الخشب، بينما قامت مجموعة واحدة أيضًا بتهريب المعدات لتحويل زنزانتهم إلى أستوديو تسجيلٍ سري.

في ماركسية الراحل فيدل، أشارت الخطب المتتالية إلى خلق "شعب عبقري" ولد في الكفاح من أجل الاشتراكية، هذه العبقرية الجماعية، المنفصلة تمامًا عن الدوافع الفردية للإنتاج الرأسمالي، ستؤدي إلى ظهور أشكالٍ من المعرفة الجماعيّة والثروة الشعبيّة لم يشهدها التاريخ البشري.