بقلم الأسير: منذر خلف مفلح

مقال بعنوان: التطبيع كخيانة للذات

منذر خلف.jpg

خاص_مركز حنظلة

لطالما حارب العرب المشروع الصهيوني باعتباره مشروعًا يستهدف الأمة العربية، وباعتباره مشروعًا عدائيًا يستهدف كل ما هو عربي. 

واصلت القوى الثورية التي تَمكنّت من استلام الحكم في أكثر من دولة محاربة هذا الكيان، ولكنها انهزمت نتيجة لعوامل داخلية وخارجية، ليس هنا محل نقاشها، إلا أن تكرار الهزائم، أدى لتبلور تيار سياسي واقعي عربي - فلسطيني يدعو للتعاطي مع هذا الكيان؛ بل والذهاب أكثر للتطبيع والتعامل معه "كسيد" اقتصادي، و"قلعة" عسكرية "حامية" ضد الأعداء "إيران وغيرها"، بل ومصدر للسياسات في المنطقة، متناسين منطق التاريخ.

وهو المنطق الذي يفيد باندحار كل الاحتلالات، وتفكك المشاريع الاستعمارية، ورفض الشعوب للذل والخضوع، وهذا المنطق قد بدأت مفاعيله، تفعل فعلها في الكيان الصهيوني،  فالمتابعون والمهتمون منذ سنوات يتحدثون حول بداية انهيار القلعة المحصنة من الداخل، والحديث أكثر تفصيلاً حول أزمات المشروع الاستعماري الصهيوني، باعتبارها مدخلاً لبداية تفككه أو مدخلًا لمحاربته.

 ولكن للأسف رواد التطبيع والتعامل والواقعيين أخذ بالاتساع والتكاثر كالفطر، رغم اتجاه التاريخ نحو بداية اندثار هذا المشروع، معتبرين أن الكيان قلعة حصينة عسكريًا وأمنيًا، فلقد أشار رئيس وزراء الكيان عبر شبكة الـ CNN إلى "أن الدولة قوية" وكررها في إشارة إلى الخوف الذي يستبطنه، والضعف، وانهيار منظومة الردع، كرد على سؤال المقدم الاخباري عن "قوة" الكيان أمام أعدائها إثر المظاهرات ومشاركة الجيش بها، وانهيار الثقة بالمشروع الصهيوني إثر اتجاهه نحو الفاشية، فما يقصده "نتنياهو" هو محاولة ترميم سمعة دولة الكيان وشرعيته، وللدفاع عنه أمام محاولات تخفيض تصنيفه وشرعيته، وللدفاع عنه أمام محاولات تخفيض تصنيفه الائتماني، وضعف الثقة بهذا الكيان.

رغم أن هذه القلعة حصينة عسكريًا، لكن هذا لا يمنع أن نشهد الارهاصات لتفككه وانهياره، بشكل أسرع مما نعتقد، وهو بحاجة لمشروع نقيض يعجل في تأثيرات تفككه، بحيث تلعب المقاومة دوراً في هذا المجال، وخاصة مقاومة الشعب الفلسطيني، وصموده، إضافة لمحور المقاومة، ولكن أي مقاومة بحاجة لعمق استراتيجي عربي، وفي هذا الوقت بالذات التطبيع خيانة للذات.

المعطيات تعزز قراءتنا لهذا المستوى من التفكك  الداخلي الصهيوني، فما يقارب 50% من الشباب الصهيوني يبحث عن دولة أخرى للرحيل عن الكيان، ونسبة عالية بدأت بالفعل اجراءات الرحيل بنقل الأموال والممتلكات وشراء المنازل، وتأسيس الأعمال في دولٍ أخرى، وازدياد الهجرة العكسية، فمجتمع الكيان يتفكك اجتماعيًا، ويبدو أن لا طريق للعودة عن ذلك في ظل تَحّول هذا، ويبدو أن لا طريق للعودة عن ذلك في ظل تَحّول هذا الانقسام الاجتماعي لسياسي، وتمأسسه بفعل الحكومة الحالية في الأحزاب والمؤسسات السياسية (الكنيست)، وفي النظام السياسي برمته، وصولاً للنظام القضائي، بعد أن وصل الانقسام؛ بل التشكيك بالجيش والقضاء والاقتصاد الصهيوني كثلاث أساطير بنى الاحتلال عليها دولته:

فالأسطورة العسكرية الأمنية، نشهد بوادر انهيارها السريع، خاصة انضمام قائد الجيش وعدد كبير من الجنرالات، ورؤساء الأجهزة الأمنية للمعارضة، وانضمام أكثر من 500 طيار لحملة رفض الخدمة، وعدد من ضباط المخابرات والاستخبارات والوحدة 8200 .

وثانيًا وهو أهم مؤشر انهيار منظومة الردع الصهيونية في الكيان، فقوته العسكرية الهائلة أصبحت نمرًا من ورق عسكرياً أمام قوى كحزب الله، حماس، بل وبعض المجموعات الصغيرة في الضفة.

الأسطورة الثالثة هي المعجزة الاقتصادية والتي بدأت هي الأخرى تترنح بعدم ثقة واشنطن بالكيان وتردد أوروبا بعد (خطة الاصلاحات القضائية)، وانخفاض أو تخفيض المستوى الائتماني لدولة الكيان بحسب معايير مؤسسة "موديز" وغيرها مما يعني انهيار "الصمغ اللاصق" الذ ي لا يزال يعطي لهذا الكيان تماسكاً، يترافق ذلك مع سمعة هذا الكيان وشرعيته التي بدأت تنهار.

كل ذلك يعني تفكك عناصر القوة الشاملة للكيان (الحليف الدولي، القوة والردع العسكري، المعجزة الاقتصادية، وانهيار منظومة القيم والأخلاق كالديمقراطية وحقوق الإنسان.. وغيرها).

إذن نحن أمام مرحلة تاريخية من الضعف وعوامل التفكك التي تنهش المشروع بفعل تقادم المشروع واصطدامه بحقيقته الداخلية، التي طالما سعى الفلسطينيون لإبرازها للعالم، باعتبار الكيان منظومة إرهاب، وعنصرية، وفاشية، ارتدت للداخل نتيجة لعدم تجانس مجتمع الكيان اجتماعيًا واثنيًا ودينيًا وقيميًا وثقافيًا وطبقيًا أيضًا، لتنفجر من الداخل.

هذا الكيان هو ضد نفسه، قبل أن يكون ضد منطق التاريخ، وموجه ضد الأمة العربية مهما تناسبت بعض الأطراف والقوى والدول أن هذا المشروع نقيضها، بل أن هذا المشروع لا يخفي أنه مشروع نقيض لأي مشروع عربي رفضوي، ويعترف بأحسن الأحوال بضرورة الحاق الدول الغنية والممتلكات العربية بجزء من خطة اقتصادية شاملة يكون هو فيها السيد، وقائد الربان، وهو للأسف ما وحد بعض التعاون في ظل غياب الرؤية الاستراتيجية العربية، والبحث عن أعداء آخرين "ايران"، والانغماس بالهزيمة بقبول الكيان وتطبيعه في المحيط، بل وتشكيل شبكة حماية أمانة لشرعيته من دول العالم، من خلال "الاتفاقيات الابراهيمية"، والسعي لتوسيعها، وضم دول أخرى إلى هذا المشروع الخياني للذات.

فالأحرى الآن بكل الدول العربية وأمام تَغّول الإجرام الصهيوني رفع مستوى مقاطعة الكيان، وكشف جرائمه ومحاصرته، والعمل ضده؛ فالمشروع وهو يتفكك بحاجة لمطارق ومعاول لهدمه، وليس خدمات وهبات اقتصادية، وحفلات علاقات عامة لتحسين صورته أو حمايته، فالخليج العربي وخاصة الإمارات والبحرين والسعودية إذا ما أعلنوا عن مقاطعة الكيان، بل ورفع مستوى المقاطعة والدعوة لسحب الاستثمار منه بدلًا من تأسيس المشاريع الاستثمارية، سيعتبر ذلك معولًا بل مطرقة ثقيلة ستفقد الكيان توازنه، وتذهب به إلى حيث يسير التفكك والهاوية التاريخية.

إن القوى السياسية الصهيونية تدعو دول إلى مقاطعة الحكومة وعدم التعاطي معها، بل تدعو للمقاطعة الاجتماعية والسياسية والحزبية، فليس أقل من الدعوة للعودة لمقاطعة الكيان وسحب الاستثمارات منه، فالشركات الكبرى قد انسحبت أو سحبت جزءاً كبيراً من أموالها، والإدارة الأمريكية لا زالت تقاطع رئيس حكومة الكيان، وتعتبر الحكومة الصهيونية الحالية الأكثر تطرفًا، وهي ذات الإدارة التي رعت الاتفاقيات الابراهيمية.

وأخيرًا، نحن لا ندعو لحرب، ولا لتجريد حملات عسكرية، بل لمواقف سياسية واقتصادية، لحماية الذات العربية والدفاع عن فلسطين، والمساهمة في تحطيم المشروع الاستعماري الذي يستهدف العرب

بقلم عضو اللجنة المركزية العامة للجبهة الشعبية، مسؤول لجنتها الإعلامية والثقافية في فرع السجون، مدير مكتب حنظلة للأسرى والمحررين