تاريخ الحركة الأسيرة

تجربـة لم يعرف لها التاريخ مثيل

لا يعرف الزمان ولم يسجل التاريخ في سفره، ولم تشهد المعتقلات والسجون بطولها وعرضها، حركة كالحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة، التي استطاعت أن تصنع نبراس البطولة والتضحية، وتسطر تاريخاً رائعاً ومشرقاً، مميزاً، كتبت حروفه بالدم والمعاناة، بالصمود والإرادة الفولاذية، تاريخاً يتواصل عطاء، ويزداد إشراقاً مع فجر كل يوم جديد…تاريخاً حافلاً بالمفاخر الوطنية، ويحوي الكثير من المعاني اللامعة والمدلولات التي تنبض بإرادة الخلاص … تاريخاً  كتبت حروفه بالدماء، بالعرق والمعاناة، بالأمعاء الخاوية (الاضرابات عن الطعام)، بالصبر والإرادة، تاريخاً يضيء عقوداً من الزمن، ليبقى محط اعتزاز لمن كتبوه وصاغوه… لمن ساهموا في صنعه وساندوه، لمن وزعوا نشراته، ولمن أنجبوا أبطاله… إنه تاريخنا، تاريخ الثورة وإرادة الخلاص، تاريخ أكثر من ستمائة ألف ثائر، سطروا تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة، جنوده كل الشعب الفلسطيني؛ لهذا سيبقى محفوراً بالذاكرة، تتناقلته الأجيال بكل فخر، ليصوغ إكليل الرفعة والقداسة على جبين كل من اعتقل وعانى عذابات  قيد السجان، سيبقى رعوداً من تجارب وذكريات مريرة ومفاخر تدوي بذاكرة ذوى الأسرى وأحبائهم وأصدقائهم… 

 من حقنا أن نفخر بهذا التاريخ، ومن واجبنا أن نسعى لتوثيقه ليبقى منارة للأجيال القادمة، بكل جزيئاته وصوره المختلفة… فمن الواجب علينا أن نوثق التاريخ الرائع والمشرق من شهداء وبطولات وتضحيات، ومن الجانب الآخر، يجب علينا أن نوثق الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان الفلسطيني الأسير، وما تعرض ويتعرض له من ممارسات لا إنسانية، ومعاملة وحشية قاسية، فاقت في لا إنسانيتها ووحشيتها ما يتخيله ويتصوره العقل البشري.

وخلال انتفاضة الأقصى تعرض شعبنا لحملات اعتقال واسعة، بأساليب أكثر همجية ووحشية، فاقت في وحشيتها تلك التي اعتاد الاحتلال على ممارستها، وأعيد افتتاح العديد من المعتقلات؛ لاستيعاب تلك الأعداد الهائلة، كما وتعرض أسرانا ومعتقلونا في كافة السجون والمعتقلات الإسرائيلية إلى أبشع الأساليب اللاإنسانية والتي فاقت كل المراحل السابقة من عمر الاحتلال، وتجاوزت أدنى وأبسط القيم والأعراف الإنسانية في العالم، يشهد عليها ما تنقله وسائل الإعلام المرئية والمقروءة، من أخبار وأحاديث تقشعر لها الأبدان.

الحركـة الوطنيـة الأسـيرة:

شكلّت الحركة الوطنية الأسيرة تجربةً رائدةً ومسيرةً حافلةً في العطاء على مدار سني الصراع مع العدو الصهيوني، هذه التجربة التي ضاهت في مستوى أدائها وبرامجها، عدة مدارس فكرية متعددة، رغم قسوة الحياة الاعتقالية، ووحشية السجان، إلا أن صدق الانتماء وتطور التجربة، حوّل المعتقلات إلى قلاع ثورية تَخرّج منها آلاف الكوادر الحزبية المنظمة التي استطاعت أن ترسم ساحتنا الفلسطينية، تلك الطاقات الخلاّقة التي عكست تجربتها النوعية في المضمون والأداء، وفي مجالات كثيرة في ساحة العمل الأوسع، ووسط الجماهير في الميدان.

تميزت الحركة الأسيرة في السنوات الأولى لانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، بالتركيزعلى البعد التوعوي والتربوي؛ الأمر الذي أسهم في صقل الطاقات وتهذيبها، بشكل أتاح الفرصة لبناء الكادر القادر على القيادة وتحمل المسؤوليات، في ظل ظروف اعتقالية قاسية، كان طابعها العام المواجهة الدائمة والمستمرة مع إدارة السجون، وهذا بطبيعة الحال كان له استحقاقات سددها أسرانا الأبطال بالمعاناة والتحدي لأبشع قوة احتلالية إحلالية، حتى أرسوا دعائم وأسس الحركة الفلسطينية الأسيرة، في ظل غياب الإعلام القادر على رفع صوت الحركة الأسيرة في وجه الغطرسة الصهيونية.

ولم يكن هذا التطور في واقع هذه الحركة بلا ثمن، بل كان ثمنه عشرات الشهداء... كان ثمنه تعرض الأسرى الأبطال لشتى الإجراءات القمعية كالعزل والحرمان والمحاكمات الإضافية، التي لم تثن الحركة الأسيرة عن مواصلة المسيرة بعزيمةٍ لا تلين.

 للأجيال الفلسطينية القادمة أن تفخر بهذه التجربة الرائدة، والتي أثمرت كوادر شكلت قيادات خرجت إلى ميدان المواجهة بعد عملية تبادل الأسرى، فانصهرت مع أبناء هذا الشعب في ميدان المواجهة المستمرة والمباشرة مع الاحتلال. ولما بزغ فجر الانتفاضة الأولى (1987-1994)، تقدمها أبناء الحركة الأسيرة من مختلف التنظيمات، وظهرت الحنكة في الأداء، فأظهرت القيادة انضباطية عالية تجاوزت كل اشكاليات الحركة الوطنية، بعيداً عن الحساسيات اللامسؤولة، وفي كافة المواقع .

إن الحديث عن الحركة الأسيرة، يدفع دائماً باتجاه ربط مسيرة هذه الحركة، سواء في زمن المواجهة المفتوحة مع الاحتلال، أو في زمن تراجع بعض القوى عن المواجهة؛ لأن الحركة الأسيرة ،حتى في ظل ما يسمى بالسلام، اشتد عودها وتعمقت تجاربها؛ لأن حالة القمع الاحتلالي لشرائح عدة في مجتمعنا بقيت مستمرة، وإن أخذت أشكالاً متعددة، وهذا ما كنا نلمسه فعلاً، حيث استمر زج المناضلين في المعتقلات، واستمرت عمليات القمع تمارس ضد أبناء شعبنا عامةً، وأبناء الحركة الأسيرة خاصةً؛ الأمر الذي حتم على المنظمات والمؤسسات الحقوقية خاصةً- أن ترعى شؤون الأسرى، وأن تبقى في حالة اتصال وتواصل معهم بغض النظر عن الظرف السياسي المعاش، وعن إفرازاته المتعددة.

إلا أننا؛ ولموضوعية النظرة والقراءة لواقع الحركة الأسيرة، لا يمكننا ولا بأي شكل من الأشكال، أن نفصل ما بين الحركة الأسيرة قبل اتفاقيات أوسلو، وما بعدها بالمعنى القطعي؛ لأن الجسم الفلسطيني وبكل أطيافه السياسية كان وما زال يكتوي بنار الاحتلال والاعتقال. وفي السياق ذاته لا نستطيع أن نغفل مجموعة من الارباكات التي طرأت على واقع الحركة الأسيرة بعد اتفاق أوسلو، والتي يقف في مقدمتها غياب المنهجية التربوية، والإعداد الحقيقي للمناضل عند معظم القوى الفلسطينية داخل قلاع الأسر، حتى غدت الحركة الأسيرة في طريقها إلى الإفراغ من المحتوى السياسي.
وغدا الاعتقال وظروفه عبئاً على المعتقل نفسه وعلى التنظيمات، وهذا ما لمسناه ليس على صعيد ما حمله المعتقلون من أفكار ورؤى لواقع الاعتقال، وإنما تجاوز ذلك لما يحمله هذا المعتقل، من تصورات عن طبيعة الصراع الدائر مع العدو، والحلول الممكنة في ظل اختلال موازين القوى، التي بات فيها الطرف الفلسطيني محاصراً ومجرداً في كل شيء إلاّ من إرادته وعزيمته التي تشكل سلاحه في هذا الزمن المختل لصالح العدو، وأصبح هَم الغالبية العظمى من المعتقلين، هو التحرر وانتظار قوائم ودفعات جديدة.

ورغم اختلاف رؤى وبرامج الأسرى، إلا أن العلاقات الداخلية لم تتأثر، وبقي الكل يشكل جسداً واحداً في وجه إدارة مصلحة السجون وسياساتها القمعية… وبالمقابل (وحتى تكتمل الصورة)، رافق ذلك، حملات الإفراجات السياسية ضمن استحقاقات عملية السلام، وتحرر في هذا السياق العديد من المعتقلين، ذوي الأحكام العالية وأسرى الدوريات… الخ.
 وهذا أمر إيجابي جداً يحسب للسلطة الوطنية الفلسطينية؛ لإيلائها قضية الأسرى اهتماماً عظيماً ومناداتها بضرورة الإفراج عنهم جميعاً، بالرغم مما يمكن تسجيله هنا من ملاحظات سلبية على حملات الإفراج من قبل سلطات الاحتلال، مثل: تصنيف المعتقلين إلى فئات بحسب مواقفهم ومواقف منظماتهم من اتفاق أوسلو، وكذلك التمييز بين الأسرى الذين اشتركوا في عمليات قتل فيها إسرائيليون، واتهامهم بأن "أياديهم ملطخة بدماء اليهود"..! وكأن هؤلاء الأسرى كانوا في رحلة كشافة ولم يكونوا يخوضوا معركة التحرر الوطني! كما وتناست الحكومة الإسرائيلية أن أيدي كل قياداتها السياسية والعسكرية وكل الرؤساء وأعضاء لجان المفاوضات الإسرائيليين، بل وكل إسرائيلي -ملطخة بدماء الشعب الفلسطيني.

 وأصبحت قضية الأسرى والمعتقلين ورقة ضغط قوية في يد "إسرائيل" تستخدمها  للابتزاز، ومساومة الطرف الفلسطيني وإجباره على تقديم التنازلات، وربطت الإفراج عن الأسرى بالتقدم في مسيرة المفاوضات.

ومع اندلاع انتفاضة الأقصى 28/ سبتمبر 2000م، (كان في السجون 1150 أسيراً)، اشتدت الهجمة الإسرائيلية القمعية والدموية على الشعب الفلسطيني، واشتدت حملات المقاومة المشروعة أيضاً لطرد الاحتلال، فعادت إسرائيل إلى سياستها القديمة الجديدة، وشنت حملة اعتقالات واسعة جداً، طالت كل المدن والقرى الفلسطينية، بما فيها المناطق التي تخضع للسيطرة الفلسطينية الكاملة، وتنوعت أشكال الاعتقال وزج بالآلاف الفلسطينيين في السجون والمعتقلات حتى وصل عدد حالات الاعتقال إلى أكثر من 35 ألفاً خلال انتفاضة الأقصى، وأقدمت على إعادة افتتاح العديد من المعتقلات، كالنقب وعوفر... واكتظت السجون بالمعتقلين.

 ويمارسها الجلادون الإسرائيليون ضد أسرانا ومعتقلينا، شتى صنوف العذاب والقهر التي شملت من معاقبتهم جماعيـاً، ورشهم بالغاز، والتكسير، والتعرية، وإخضاعهم لكل صنوف الإهانة والتحقير، وتقييد أيديهم، وشبحهم لأيام عديدة في زنازين ضيقة مغمورة أرضياتها بالمياه النتـنة، أو حتى في المراحيض، وتدهور الأوضاع الصحية وانتشار الأمراض والحشرات، ورداءة الطعام، وقلته، وحرمانهم من تلقي العلاج، خاصة مصابي وجرحى الانتفاضة، والحرمان من النوم، وحرمانهم من زيارة ذويهم منذ بداية انتفاضة الأقصى، والازدحام الشديد واستمرار العزل في زنازين انفرادية، في عملية قتل للأسير الفلسطيني قتلاً بطيئـاً منظماً  ومدروساً بعناية فائقة، وإحالة الأطفال الأسرى إلى محاكمات صورية جائرة، واستصدار عقوبات بالسجن لسنوات طويلة ضدهم، ووضعهم مع السجناء الجنائيين الإسرائيليين.

فـخلال انتفاضة الأقصى، توجه الفعل الانتقامي الإسرائيلي العاجز، نحو قمع واضطهاد الأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية؛ في محاولة يائسة لكسر شوكتهم وإذلالهم، مترافقة مع حملة شرسة لسحب إنجازاتها التاريخية، والتي تحققت عبر عقود من الزمن، من خلال دماء العشرات من الشهداء وتضحيات عشرات الآلاف من الأسرى ومعاناة مئات الآلاف، وأخذت صرخات الاستغاثة تخترق جدران السجون وأسلاكها الشائكة، وتجاوزت حدود السجون، لكنها فشلت في الوصول إلى آذان العالم؛ الأمر الذي دفع بالأسرى، ومنذ بداية انتفاضة الأقصى، إلى ترتيب أوضاعهم الداخلية من جديد، وفق ما تقتضيه المرحلة من إعداد ومواجهة، واستقبال لآلاف المعتقلين الجدد، وغدى الاهتمام  بالأسس البنيوية والتعبوية الأخلاقية والتربوية والثورية، أكثر؛ للانطلاق بها لصنع الإنسان الفلسطيني المناضل الثوري الحقيقي، وهذا الحال أعاد الاعتبار من جديد وبقوة لقضية الأسرى، وأصبحت قضيةً أساسيةً على أجندة الحكومات الفلسطينية المتعاقبة، ودفع بالعديد من المؤسسات الحقوقية والإنسانية، لأن تلعب دوراً إيجابياً وداعماً للأسرى وقضاياهم العادلة، فازدادت حملات الدعم والمساندة، واتسعت رقعة فعاليات التضامن الجماهيري.

فالأسرى والمعتقلون جزءٌ لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، وقطاع أساسي من قطاعات الحركة الوطنية الفلسطينية، فهم من حملوا  لواء النضال، وأثبتوا حضوراً منقطع النظير، جنباً إلى جنب مع بقية المناضلين من أبناء الشعب الفلسطيني في كل ساحات العمل ، وتقدموا الصفوف، غير آبهين لشيء إلا لاستمرار النضال ودعم مسيرة شعبهم التحررية، وقدموا الغالي والنفيس دفاعاً عن كرامة وشرف الشعب الفلسطيني وحقوقه العادلة، و لم يعرفوا إلاّ الثورة وطنـاً وهويةً في السراء والضراء، وانخرطوا في صفوف النضال في أصعب مراحله، وتركوا عائلاتهم وأطفالهم، وقادوا معارك المقاومة والشرف، وفي الأسر خاضوا معارك الاعتقال بإباء وصمود أسطوريين، وخاضوا عشرات الإضرابات عن الطعام، فكان الألم زادهم والمعاناة شرابهم، حيث سقط العشرات منهم شهداءً من أجل كرامة الإنسان الفلسطيني وحقوقه. ومن مواقع الألم والمعاناة العميقة، ومن قلب جدران القهر والحرمان طوال سنوات الاعتقال الرهيبة كتبوا بصمودهم فصلاً جديداً في ملحمة الحركة الوطنية الفلسطينية، وسطروا صفحات مشرقة في تاريخ سجناء الحرية في العالم، وأذهلوا قلوب جلاديهم بصلابتهم الوطنية التي يتسلحون بها.

فمنذ وعد بلفور الذي أعطى اليهود وطناً في فلسطين، عرف الشعب الفلسطيني السجن، وذاق اشد أنواع القهر والحرمان في صراعه المتواصل ضد الاحتلال، وضد اقتلاعه من أرضه وهويته على أيدي سجانيه منذ الانتداب البريطاني، مروراً بالحكم الأردني وانتهاء بالاحتلال الإسرائيلي، الذين تفننوا في بناء السجون والزنازين التي اعتقل فيها الآلاف من الفلسطينيين.

وعندما نتحدث عن قضية الأسير الفلسطيني، فإننا إنما نطرق أبواب سيرة شعبٍ يكافح ويقاوم ضد الاحتلال والإبادة، حكاية شعب ذاق شتى صنوف القهر والمؤامرات، حكاية شعب يسدد فواتير أخطاء العالم الذين جعلوا منه قربانا يتقربون به إلى هواة الاستعباد والجريمة، حكاية شعب وقع ضحية سادية الثقافة الصهيونية والاستعمار العالمي، حكاية شعب يسطر ملحمة الشرف بكفاحه الدؤوب في سبيل حريته واستقلاله.

إنه تاريخ مشحون بالمعاناة والقهر، مجبولٌ بالبطولات والدماء، أسماء شعبٍ حفرت على جدران الزنازين وأرواح زهقت في حلكة الظلام...فارتبط السجن بالنشيد وبالأغنية وبالمقاومة منذ قصيدة إبراهيم طوقان (الثلاثاء الحمراء) عندما أعدم الانجليز في سجن عكا الشهداء الثلاثة فؤاد حجازي وعطا الزير ومحمد جمجوم عام 1929، حتى ملحمة (فضاء الأغنيات) الشعرية للشاعر المتوكل طه في سجن النقب الصحراوي أنصار 3 عام 1988 عندما أعدم قائد معسكر النقب الشهيدين بسام صمودي وأسعد الشوا بإطلاق الرصاص عليهما.. مروراً بحنين محمود درويش إلى خبز أمه وقهوة أمه في السجن الإسرائيلي بعد نكبة 1948م. ولا غرابة أن تكون ثقافة الثورة قد استمدت من انصهار الحلم الفلسطيني بحديد وقيود السجن، لتنطلق المقاومة الفلسطينية حاملة كل هذه التضحيات المصهورة بالوجع والغضب ضد الجلادين والمستعمرين... ولا غرابة أيضاً أن تخرّج السجون معظم قيادات الثورة الفلسطينية المعاصرة.

إن يوم الأسير الفلسطيني الذي يحيه الشعب الفلسطيني كل عام في 17/ نيسان، هو يوم نضالي ووطني، يجسد تمسك هذا الشعب بالحرية وتحطيم القيود، ومن خلاله يتم التأكيد أن هذا الشعب لا ينسى أبنائه المعتقلين بل يقف إلى جانبهم وإلى جانب حريتهم وحقوقهم الإنسانية.

وقد بدأ الشعب الفلسطيني بإحياء يوم الأسير منذ عام 1974م، وهو العام الذي تمت فيه وبتاريخ 17/4/1974 أول عملية تبادل للأسرى، حيث استبدل الأسير الفلسطيني الأول محمود بكر حجازي بأحد المستوطنين الذي تم اختطافه خصيصاً لإجراء عملية التبادل، وقد اعتمد المجلس الوطني الفلسطيني في دورته في نفس العام يوم 17/ نيسان يوماً من أجل حرية الأسير الفلسطيني.

 البدايات:

لقد تجرع المعتقلون الأوائل بعد احتلال باقي فلسطين عام 1967 مرارة سياسة استهدفتهم من أبواب كثيرة وطنية ونفسية واجتماعية وفكرية، فقد اتبعت حكومة إسرائيل في هذه المرحلة كل الأساليب الممكنة لأجل تحقيق هدفها في تطويع المناضل الأسير لاخضاعه تمهيداً لشطبه وطنياً وإنسانياً، فسياسة الاستنزاف العصبي المرهق وسياسة التجويع النفسي والمادي والحرمان المطلق من كل الضرورات الأولية لحياة بشرية معقولة، وسياسة الاسقاط الوطني والاستهداف الأمني، وسياسة التجهيل الثقافي وغيرها دل كل هذا على أن السجن في المفهوم الإسرائيلي هو أداة لقمع ومواصلة قمع مقاومة الشعب الفلسطيني المحروم من حقوقه الإنسانية والسياسية.

وعبر القادة الإسرائيليون عن هذه السياسة، فغولدا مائير، التي يقض مضجعها ميلاد طفل فلسطيني، تساءلت أكثر من مرة أين هو الشعب الفلسطيني...
لقد تحولت السجون التي ورث معظمها الإسرائيليون عن الانتداب البريطاني بعد حرب حزيران عام 1967 إلى مراكز لشن العنف ضد الشعب الفلسطيني وقواه المناضلة، بهدف إبادته عبر وسيلة أخرى غير حبل المشنقة... هي وسيلة الاعتقال وسياسة الموت البطيء التدريجي للأسرى..

وهذا ما وعد به موشي ديان بتحويل المعتقلين في السجون إلى حطام وكائنات، لا تمت للبشرية بأية صلة، كائنات مفرغة من كل مظهر إنساني، تشكل عبئاً على نفسها وشعبها..
برز السجن في الكيان الإسرائيلي كمؤسسة توفرت لها كافة الشروط المناسبة، وتجهزت بكامل المقومات الضرورية لأجل تحقيق هذا الهدف اللاإنساني بحق المناضلين الفلسطينيين.

 تركزصراع الأسرى داخل السجون الإسرائيلية ومنذ البدايات، حول دفاعهم عن ذاتهم الوطنية التي استهدفتها سياسات الإبادة الإسرائيلية. ومنذ عام 1967 زج الاحتلال بالآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني في السجون، وعملت حكومة إسرائيل على ترميم السجون القديمة، التي ورثتها عن أسلافها المحتلين؛ لزيادة قدرتها الاستيعابية، وأقامت العديد من مراكز ومعسكرات الاعتقال الجديدة كأنصار 3 في النقب، وعوفر في بيتونيا، وسالم وحوارة في نابلس، وقادوميم في طولكرم وغيرها، حتى أنها حولت سجن الفارعة خلال الانتفاضة الأولى عام 1987 من اصطبل للخيل في العهد البريطاني، إلى مركز للتحقيق... وحولت سجن الدامون، الذي كان يستخدم كمستودع للدخان في العهد البريطاني، إلى سجن.
وشهدت السجون حرباً بكل معنى الكلمة بين الإنسان الأسير المدافع عن إنسانيته وذاته الوطنية، وبين سياسة الجلادين الرامية إلى تفريغ هذه الذات وقتلها؛ فنجد أنه في كل سجن بل في كل غرفة سجن وزنزانة، تجربة جماعية وفردية متنوعة ومتعددة، تشكل بمجملها تجربة الإنسان الفلسطيني الأسير... إنها الرحلة الطويلة التي لم تصل إلى نهايتها، رحلة المقاومة والتصدي والسير في طريق الحرية.

وحسب إحصائيات مؤسسات حقوق الإنسان، قدر عدد حالات الاعتقال ما بين عامي 1967- 1987 بـ (535000) أسير فلسطيني، بمعدل 27 ألف حالة أسر سنوياً، في حين يقدر عدد الفلسطينيين الذين تم أسرهم منذ بداية الانتفاضة الأولى في 8/12/1987 وحتى نهاية عام 1994 بحوالي 275 ألف مواطن فلسطيني، فيكاد لا يكون هناك بيت فلسطيني إلا واعتقل أحد أبنائه.
ويمكن القول: إن السنوات الأولى من التجربة الاعتقالية قد حفرت علامات دامغة في أذهان وعلى أجساد المعتقلين؛ لأنها كانت مسرحاً مفتوحاً يمارس على خشبته كل أنواع التعذيب الجسدي والنفسي؛ فقد كان استخدام العنف والاعتداء على الأسرى والأسيرات منذ بداية الاعتقال بمثابة قانون روتيني يتعرض له الأسرى وبأشكال مختلفة، ونورد هنا عدداً من الإحصاءات تظهر عدد الأسرى وفئاتهم على :الشكل الآتي:

 

م .

المنطقة

العدد

1 -

القدس

49

2 -

الضفة الغربية

139

3 -

قطاع غزة

136

4 -

فلسطينيي الداخل (الـ 48)

21

5 -

الأسرى العرب

سوريا

4

لبنان

1

المجموع الكلي

350

 

 

 

ولم يقتصر الأمر على الاعتداء الجسدي، فأساليب الإذلال التي نفذها السجانون كانت أشد وقعاً من الاعتداء؛ بهدف كسر روح السجين، وتحطيم نفسيته وتحويله مجرد عبد لا قيمة له، وعلى سبيل المثال كان الأسرى يجبرون على مخاطبة السجان بكلمة (سيدي)، ويمنعون من إطلاق شعر الرأس والشارب، ويجبرون على حلاقة ذقونهم مرتين أسبوعياً بشفرة حلاقة واحدة، توزع على خمسة أسرى. إضافة إلى الإذلال المتبع في طريقة استحمام الأسرى بإجبارهم على الخروج عراة من غرفهم إلى حمام خارجي، وإلزامهم إحناء الرأس أثناء قيام شرطة السجن بإجراء العدّ اليومي، وشملت سياسة الإذلال إخراج الأسرى في ساحة الفورة (النزهة) والأيدي متشابكة، منتصف الظهيرة، والجلوس قرفصاء في الساحة.

لا ينسى الأسرى الأوائل أبداً ما أطلقوا عليه (أسطورة البرش المقدس)، والتي تتمثل بإجبار الأسير على ترتيب الأربع بطانيات التي يملكها بشكل معين منذ الصباح حتى المساء ويمنع الاقتراب منها وإلا سيناله العقاب.

لقد أجبر الأسرى على العمل في مرافق الإنتاج الإسرائيلي، التي تعود عائداتها لصالح المؤسسات العسكرية والاقتصادية في إسرائيل مقابل أجرٍ زهيد.

 كما حوصر الأسرى ثقافياً: بمنعهم من الحصول على القلم والدفتر والكتاب، وإجبارهم على سماع الإذاعة الإسرائيلية في أوقات محددة، ولم يسمح لهم بقراءة الصحف سوى صحيفة الأنباء التي تصدرها أجهزة المخابرات الإسرائيلية، وكان الأسير الذي يتم ضبط قلم أو ورقة معه يعاقب في زنزانة انفرادية، وكان أشدّ الأساليب خطورة هي سياسة الإفراغ الثقافي والفكري، من خلال ترويج كتب ثقافية فارغة المضمون داخل السجون.

وواجه الأسرى سياسة الإهمال الطبي، وكانت حبة الأكامول هي العلاج السحري لكل الأمراض، وقد استشهد العديد من الأسرى بسبب عدم وجود عناية طبية، وحمل الكثير من الأسرى المحررين أمراضاً مزمنة معهم، واستشهدوا بسببها بعد الإفراج.

ولعب الجهاز الطبي لمصلحة السجون دوراً قمعياً واستخبارياً مستغلاً حاجة الأسرى للعلاج لمساومتهم على شرفهم الوطني، إضافة إلى مساهمته في قتل عدد من الأسرى، كما حصل مع الشهيدين علي الجعفري، وراسم حلاوة؛ إثر اضراب سجن نفحة عام 1980، وقد كشفت الصحافة الإسرائيلية في السنوات الأخيرة، عن ألف تجربة طبية قامت بها حكومة إسرائيل وبشكل سري على المعتقلين الفلسطينيين في السجون.

وواجه الأسرى سياسة العزل بأشكال عديدة، والتي تقوم على عزل النشطاء من الأسرى، وما تطلق عليه إدارة السجون (ذوي الرؤوس الحامية).

وكانت سياسة تعذيب المعتقلين سياسة ممنهجة وثابتة، بأساليب محرمة دولياً، حيث تعرض المعتقلون لمعاملة قاسية وعنيفة على يد المحققين الإسرائيليين، وامتلأت تقارير منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية بشهادات مشفوعة بالقسم، عن حالات تعذيب وحشية تعرض لها الأسرى والأسيرات على أيدي المخابرات الإسرائيلية... وأصبح التعذيب قانوناً مشرعاً لدى حكومة إسرائيل، وفق تقرير لجنة "لنداو" عام 1978، والتي أجازت استخدام الضغط الجسدي والنفسي مع المعتقلين.. ولم تراع حكومة إسرائيل القوانين الدولية، واتفاقيات جنيف الثالثة والرابعة، التي تحرم التعذيب وتعتبره جريمة حرب.

لقد استشهد المئات من الأسرى الفلسطينيين في أقبية التحقيق؛ بسبب استخدام وسائل التعذيب العنيفة، وكل ذلك كان يجري تحت غطاء القانون، بذريعة (محاربة الارهاب).

إن الظروف القاهرة والحياة اللاإنسانية، التي عاشها المعتقلون داخل السجون في ظل شروط حياة بائسة وضغوطات وإجراءات مشددة، دفعتهم إلى الاصطفاف لبناء وجودهم الجماعي والتنظيمي، والدفاع عن حقوقهم، ورفض سياسة اذلالهم واستعبادهم.

فبدأ الأسرى ببناء المؤسسة الاعتقالية، ولعب عدد من أصحاب التجربة التنظيمية دوراً في وضع اللبنات الأولى، لبناء الجسم الاعتقالي، حيث تم القضاء على كل مظاهر التحلل والانفلات في صفوف الأسرى، ووضع البرامج التنظيمية والفكرية والتعبوية؛ لمواجهة التحديات القائمة في السجون، فبنيت الأطر السياسية داخل السجون على قاعدة الالتزام والوحدة ومحاربة كل أشكال القهر والإذلال، وتطلب ذلك جهداً كبيراً وعملاً دؤوباً، حتى استطاع المعتقلون ومن خلال خطوات نضالية واضرابات امتناعية وعصيان أوامر وإجراءات إدارة السجون من الحصول على جزء مهم من حقوقهم الإنسانية والمعيشية.

ويمكن القول أن اضراب سجن عسقلان التاريخي عن الطعام في 11/12/1976م، الذي استمرّ 45 يوماً يعتبر نقلة نوعية في مسيرة الاعتقال نحو تحسين شروط الحياة في المعتقلات، ومظهراً من مظاهر نضوج التجربة، وترسيخ المؤسسة الاعتقالية القائدة في السجون، وقد اعتبر الإضراب ملحمة جماعية، وضعت حجر الأساس للنضال الاعتقالي الشامل، المبني على أسس تنظيمية راسخة، ولأول مرة يرافق هذا الاضراب تفاعل شعبي جماهيري خارجي مناصر لمطالب الأسرى.

واعتبر اضراب سجني نفحة في 21/7/1980م وسجن جنيد في نابلس 23/9/1984م المفتوح عن الطعام، نقطة تحول جذري في حياة الحركة الأسيرة، حيث بدأت مرحلة تحقيق المنجزات والحقوق الإنسانية للأسرى؛ إذ رافق هذين الإضرابين تفاعل شعبي وجماهيري خارجي مساند لمطالب المعتقلين، إضافة إلى مشاركة ومساندة، بالاضراب في كافة السجون الأخرى... وفي هذين الاضرابين تم تركيب الأسرّة للمعتقلين، بدلاً من فرشات الأسفنج الركيكة، وإدخال أجهزة الراديو، وإنهاء سياسة الاعتداء على الأسرى وإذلالهم، وتحسين الطعام وتغيير نظام الزيارة، ليصبح مرة كل أسبوعين بدلاً من كل شهر، والسماح بالحركة داخل السجن بالتزاور بين الغرف والأقسام، وإنهاء الازدحام في الغرف، وإدخال الملابس، وتحسين التهوية، والإنارة، وغيرها.

لقد أعاد هذين الإضرابين الهيبة للحركة الأسيرة، وأدى إلى الاعتراف بشرعية المؤسسة الاعتقالية، فلأول مرة يقوم وزير الشرطة حاييم برليف بالمفاوضات مع اللجنة القيادية في سجن جنيد، خلال اضراب عام 1984.

نود أن نشير أن احتمال نكوص وتراجع إدارة السجون، عما وافقت عليه من مطالب للأسرى- وارد دوماً، حيث تتحين الفرص لشن هجوم مضاد على منجزات المعتقلين، مما قد يؤدي إلى تراجع شروط الحياة، كما جرى بعد صفقة تبادل الأسرى عام 1985، حيث استغلت إدارة السجون الإسرائيلية الفراغ الذي أحدثه الإفراج عن عدد من الأسرى، وتراجعت عن وعودها، وبدأت بحملة من القمع، وفرض الإجراءات الخانقة والمذلة على الحركة الأسيرة، لتصبح الحركة الأسيرة في موقف الدفاع عن منجزاتها التي حققتها بالتضحيات الغالية... مما اضطر الأسرى لفتح اضراب عن الطعام في 25/3/1987م استمر 20 يوماً لحماية حقوقهم ومنجزاتهم.

وكان لاندلاع الانتفاضة الفلسطينية في 8/12/1987 وما تخلله من عمليات اعتقال واسعة وإقامة سجون عسكرية لاستيعاب الأعداد الجمة من المعتقلين، إضافة إلى العدوان الثلاثيني على العراق، وما أحدثه من متغيرات دولية عكست نفسها على القضية الفلسطينية، وحركتها الوطنية التي تعتبر الحركة الأسيرة جزء منها- دوراً في التأثير على المسيرة الاعتقالية في السجون؛ إذ إن عمليات القمع والبطش التي مارسها جيش الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني في الانتفاضة، وفرض سياسة القبضة الحديدية، طالت الأسرى ومنجزاتهم وحقوقهم.

 وكان واضحاً أن هناك مخططاً لضرب الحركة الأسيرة، وتقويض منجزاتها، وذلك بتنصل إدارة السجون من وعودها التي قطعتها على نفسها بتحسين ظروف الحياة داخل السجون ووقف تصعيد إجراءاتها التعسفية تجاه الأسرى... وكان من أبرز هذه الإجراءات، افتتاح قسم العزل في سجن الرملة الذي يطلق عليه (نيتسان)، وأقسام عزل في بئر السبع وعسقلان؛ حيث تم نقل عدد كبير من المعتقلين إلى هذه السجون ذات الظروف القاسية جداً، إضافة إلى قيام إدارة السجون بإصدار تعليمات بمنع الاحتفالات في المناسبات الوطنية، وتصاعد الاعتداء على المعتقلين بالرش بالغاز المسيل للدموع، والإهمال الطبي للمرضى والجرحى، وتقليص كميات الطعام، وإجبار الأسرى على الوقوف أثناء العدِّ اليومي وغير ذلك من المضايقات.

وأمام كل هذا أعلن الأسرى في 27/9/1992م الاضراب المفتوح عن الطعام، والذي شمل ،لأول مرة، كافة السجون واعتبر هذا الإضراب الذي استمر 15 يوماً، من أكثر المواجهات تنظيماً ودقة واتساعاً في تاريخ الحركة الأسيرة حتى ذلك الوقت، حيث شارك فيه 16 سجناً.

وبهذه الشمولية والوحدة الجماعية ضرب الأسرى المثل الأعلى في وحدة المعركة والقرار والإرادة، وتقاسموا آلام الجوع؛ لتمهيد طريق تحسين ظروفهم وانتزاع حقوقهم والدفاع عن كرامتهم. وتحول الاضراب إلى انتفاضة عارمة في الوطن المحتل الذي شهد المظاهرات والمسيرات التضامنية مع المعتقلين، إضافة إلى التغطية الإعلامية الواسعة، التي صاحبت هذه المعركة. وفي النهاية خضعت إدارة السجون لمطالب الأسرى، والتي كان أبرزها رفع القيود والإجراءات المذلة عن الأسرى في قسم العزل في الرملة، وقد تدخل وزير الشرطة آنذاك موشيه شاحل، ليجري المفاوضات مع قيادة الأسرى داخل سجن جنيد كقيادة مركزية للإضراب.

لقد حقق هذا الاضراب العديد من المنجزات المادية والمعنوية، وشكل انتصاراً على المخططات الإسرائيلية، التي كانت تتأهب للانقضاض على وحدة الحركة الأسيرة وحقوقها.

يلاحظ أن الوضع داخل السجون لم يستقر يوماً، فهو في حالة مواجهة دائمة ومتواصلة، لا تعترف مديرية السجون الإسرائيلية بمنجزات الحركة الأسيرة التي انتزعتها بنضالات الأسرى وجوعهم وآلامهم، كأساس ثابت تستند إليه في تعاملها مع الأسرى، بل تتحين الفرص للانقضاض عليها، وإعادة الأوضاع إلى سنوات سابقة، فالحالة داخل السجون هي حالة اشتباك وترقب وحذر، وبذلك؛ فإن الحركة الأسيرة لم تلق سلاح المواجهة والتعبئة والاستنفار النفسي في أي لحظة لأن أمامها عدو لا يريد لها سوى أن تدفن في الظلمة، وان تنصاع لقوانينه الظالمة.