بقلم الأسير: كميل أبو حنيش

مقال بعنوان: "دورٌ يبحثُ عن بطل" الحلقة الثانية

كميل أبو حنيش.jpg

خاص_مركز حنظلة

الحلقة الثانية: مرحلة تحرر وطني

تميز القرن العشرين عن غيره من القرون السابقة، بعدة ميزات أهمها؛ وصول الرأسمالية العالمية إلى ذروةِ تطورها في مرحلة الامبريالية التي تتسم بتمركز رأس المال والإنتاج على نطاقٍ قومي، ثم تفضي هذه العملية إلى تصدير رأس المال إلى جانب السلع والخدمات إلى العالم، فتنشأ النزعة المتوحشة لاستعمار البلدان والشعوب لنهب مواردها، واستغلال أياديها العاملة الرخيصة، وتصريف البضائع في أسواقها، والهيمنة على قرارها السياسي والاقتصادي، فيحتدم التناقض بين القوى الاستعمارية والتنافس فيما بينها على الأسواق والمواد الخام، والهيمنة على الاقتصاد العالمي فتندلع الحروب والثورات، حيث عرف القرن العشرين عشرات الحروب والثورات، لاسيما الحربين العالميتين الأولى والثانية، إذ أسفرت مجمل حروب القرن العشرين عن هلاك عشرات الملايين من البشر، وأسفر كذلك عن تشكيل نظامٍ عالميٍ جديد، وصراعٍ بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي لأول مرة في التاريخ.

ولعل أبرز ما ميز القرن العشرين عن غيره من القرون، تَمثّل في كفاح الشعوب في سبيل تحررها الوطني، ومطالبتها بالاستقلال، وإنهاء الاستعمار لبلادها، وشهد العالم عشرات الثورات التي خاضتها الشعوب المستعمرة، وتمكنت معظمها من الانتصار وكنس المستعمر عن أرضها، إما من خلال المقاومة المسلحة أو المدنية والشعبية، أو المزاوجة بين أكثر من شكلٍ نضالي، وفي النهاية كانت القوى المستعمرة ترضخ أمام إرادة الشعوب، وتسلم بحقوقها والجلاء عن أراضيها، ومن خلال ترتيبات خاصة تضمن إبقاء البلدان المستعمرة تابعة لها، من خلال اثقالها بالديون وربطها باقتصاداتها، أو إجراء بعض التَحولّات الجذرية في بنية الاقتصاد والمجتمع والثقافة، تسمح بنشوء نخبٍ تابعةٍ لها ومتماهية مع سياساتها.

وتعرف المرحلة التي تخوض فيها الشعوب كفاحها ضد المستعمر بمرحلة التحرر الوطني، وهذه المرحلة تنطوي على عددٍ من الخصائص تميزها عن أيِ مرحلةٍ أخرى في حياة الشعوب وأول هذه الخصائص أنها مرحلة طارئة وغريبة وشاذة في حياة الشعوب بعد أن يجري انتهاك سيادتها واحتلال أراضيها من قبل قوةٍ أجنبية، تتخذ في الغالب بعض الذرائع الإنسانية أو الحضارية أو الدينية للتمويه على أهدافها ودوافعها الحقيقية في استعمار البلاد ونهب ثرواتها واستعباد شعوبها، وتسلك أشكالًا من الممارسات التي تهدف إلى ترويع الشعوب من خلالِ انتهاجِ سياسة العنف والإرهاب المنظم، وتعطيل الحياة الطبيعية من خلال سياسات التجهيل والإفقار وإثارة الفتن والنعرات الطائفية والدينية والقبلية والعرقية، وثاني تلك الخصائص أنها مرحلة تتسم بالارتباك والاضطراب، بعد أن يجري تفكيك المنظومة السياسية وتقويض البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإخلال بالتوازنات السياسية والطبقية والدينية والقومية، وإعادة إنتاج المجتمع المستعَمر، ومحاولة إنتاج نخبٍ جديدةٍ متساوقة مع الاستعمار ومشروعه، وتفتيت الهوية القومية، وتغذية الهويات والانتماءات القبلية (العشائر، الطوائف، المذاهب)، وإيقاظ الفتن النائمة منذ قرون، واستعداء أطراف ضد أطرافٍ أخرى، فنجد بعضها يهادن القوة المستعمرة، ويتساوق مع مشروعها، فيما تتضرر مصالح فئات وأطرافٍ أخرى، حيث تشهد هذه المرحلة تنامي القلاقل والاضطرابات، وغياب الأمن والاستقرار، ويجري التعبير عنها بالاحتجاجات والهبات والمظاهرات إلى أن يصل الوضع إلى نقطة تَحوّل تسمح باندلاع الثورة، وعند هذه الحالة تكون أوضاع البلاد قد ساءت تمامًا، ولم يعد بمقدور الشعب احتمال ما تمارسه بحقه السلطات الاستعمارية.

وثالثها لجوء المستعمِر إلى استخدام آلة التدمير والقتل، فتتصاعد حدة العنف، وتصل في حالاتٍ كثيرةٍ إلى حدِ الإبادات الجماعية فتنكشف النوايا الحقيقية للمستعمر، ويسقط قناعه "الحضاري" وقشوره "الثقافية" الزائفة، ويظهر بوجهه الحقيقي، وبالرغم من العنف المستخدم بحق الشعب المستعمَر، وما ينطوي عليه من إشاعةٍ للرعبِ والفزع، إلا أنه في ذات الوقت يكسر حواجز الخوف والتردد، وتتنامى أعمال المقاومة، ويرتقي الوعي التحرري الجمعي.

ورابعها، تتصاعد المطالب الاستقلالية، ويرتقي الخطاب السياسي، ويصبح المجتمع برمته مُسيسًا، وفي حالة جدال دائمة وتَتحوّل الضغوط الجماهيرية إلى قوةٍ جارفة مصممة على الانفكاك من اللحظة الاستعمارية، وتصل الأمور إلى هذه اللحظة إلى مرحلةٍ اللاعودة، من بعد أن تكون مصالح الجماهير قد تضررت بالكامل، وتغدو الثورة ضرورة، وليست خيارًا، وفي المحصلة فإن حملة التراكمات التاريخية ستؤدي إلى انفجار الثورة وعندها تصل المرحلة التحررية إلى ذروتها، أما الانتصارات والانكسارات فإنها محكومة بكيفية إدارة المعركة.

وخامس تلك الخصائص، أن الحالة الثورية التحررية لا تبقى داخل النطاق المحلي للبلد المحتل، بل تمتد بتأثيراتها إلى دول الجوار، وتنتقل من حالتها المحلية إلى حالتها الاقليمية، حيث يكون الإقليم في الغالب متضررٌ من الوجود الاستعماري في المنطقة فيلجأ إلى إسناد حركة التحرر الوطني ودعم ثورتها، لا في حالاتٍ خاصة، (كما الحالة الراهنة التي تشهد فيها علاقات الإقليم علاقات خاصة مع اسرائيل على نحوٍ يَضّر بالمصلحة الوطنية الفلسطينية) ومع اشتداد الثورة، وإدارة حركة التحرر الوطني لمعركتها السياسية فإن القضية لن تبقى في نطاقها الإقليمي، بل ستتجاوزها لتصل بها إلى نطاقها العالمي، عندها تنجح حركة التحرر في إيصال قضيتها إلى العالم ودوله ومنظوماته السياسية، وتصبح على الأجندة العالمية، ومن الصعب تجاهلها، وذلك لأنها وصلت إلى زخمٍ يصعب تجاوزه، أو الالتفاف حوله. أما القوة الاستعمارية فتبذل جهوداً خارقةً لتشويه الثورة وإبقائها داخل حدود البلد، واعتبارها قضية محلية.

وسادسها، تتصاعد أعمال العنف من قبل الطرفين القوة المستعمرة وحركة التحرر، ويدخل في مرحلة الصراع التناحري وعندها تتوحد كامل قوى المجتمع للبلد المستعَمر، وكلما تزايدت الانتصارات التي تحرزها الثورة، كلما تزايدت الفئات الاجتماعية المنظمة إليها، ويبدي الشعب إصرارًا عنيدًا على كنس الاستعمار، واستعداده لبذل التضحيات الجسام وخوض المعركة حتى النهاية، وهذا النوع من المعارك التحررية محكومٌ بالانتصار الحتمي مهما بدت همجية ومستوى عنف القوة المستعمرة، ومهما امتلكت من وسائل القوة والبطش، فالشعوب في مرحلةِ التحرر تبتكر أسلحتها الخاصة في مواجهة سلاح المستعمر، وكل ذلك مشروط بإدارة حركة التحرر لمعركتها بكفاءةٍ وذكاءٍ وتنظيمٍ وحسن تدبير.

لقد عرفت المعركة التحررية الفلسطينية كل هذه الخصائص في مختلفِ المحطات، ولكن من دون اكتمال هذه الخصائص وترابطها في كلِ محطة، وذلك لقراءة التجربة الكفاحية والمعركة التحررية الفلسطينية، وتميزها عن باقي معارك التحرر الوطني التي خاضتها بعض شعوب العالم ضد الاستعمار، أي أن المعركة التحررية الفلسطينية لها سماتها الخاصة، يمكننا أن نكثفها على النحو التالي:

أولًا: لم يجرِ احتلال فلسطين مرةً واحدةً، وإنما جاء على مراحلٍ طوال أكثر من تسعين عامًا:

1. مرحلة تسلل المستعمرين قبل نشوء الحركة الصهيونية بين أعوام (1878 - 1898).
2. المرحلة المنظمة بعد نشوء الحركة الصهيونية بين أعوام (1904-1917).
3. المرحلة المسنودة من قبل قوة خارجية ممثلة ببريطانيا وتبني المشروع الصهيوني رسميًا من قبلها بين أعوام (1917- 1948).
4. مرحلة احتلال معظم فلسطين وإقامة الدولة الصهيونية (1948-1967).
5. مرحلة احتلال ما تبقى من فلسطين، وأجزاء من البلاد العربية بعد عام 1967، وحتى اليوم.

إن إحتلال فلسطين على مراحل، والظروف والملابسات التاريخية التي حملتها كل مرحلة، وتقطع أوصال الأراضي والمجتمع الفلسطيني بعد النكبة، وخضوع الشعب الفلسطيني لما أفرزته نتائج حرب العام 48 من وقائع جيوسياسية، أفقد الشعب الفلسطيني القدرة على بناء مؤسساته الوطنية وولادة حركته التحررية الوطنية، وإدارته للمعركة التحررية، وجعل من التجربة الكفاحية الفلسطينية مقطعة الأوصال، وتفتقد للترابط والقدرة على التركيم والبناء على الانجازات، حيث احتاج الشعب الفلسطيني لعدة عقود (أكثر من سبعين عامًا) حتى تمكن من إطلاق حركته التحررية وبناء مؤسساته الوطنية بعد العام 67.

ثانيًا: واجه الشعب الفلسطيني مشروعاً استعماريًا استيطانيًا من العيارِ الثقيل، ومادة بشرية أتى بها الاستعمار من الخارج، وتسلح المشروع الصهيوني بمزاعم الحق التاريخي، وادعى أن مادته البشرية (اليهود) يمتلكون صفة الشعب القومي الذي تشتت عن أرضه (إسرائيل/ فلسطين) وأنه يعود إليها بعد آلاف السنين، وبهذا تَحوّل شعبها الأصلي (الفلسطيني) إلى مجموعاتٍ سكانيةٍ تحتل "أرض إسرائيل"، مما يعني ضرورة التخلص منها إما بطردها أو بإبادتها وحملت هذه المادة البشرية الاستيطانية أيديولوجيا تُشكّل مزيجاً من التاريخ الأسطوري والهوية الدينية والفكر الاستعماري العنصري والاستشراقي.

وهذه المادة أنتجت أشكالًا من القوى السياسية والفكرية المتنوعة (اشتراكي، عمالي، ليبرالي، ديني، قومي، علماني، يساري، يميني، شوفيني.. الخ) حيث جمع بينها جميعاً رغم اختلافها الفكري والسياسي، العداء للعرب، وهيمنة "الدولة" الصهيونية على المنطقة، والقوة والعنف هي أساس الوجود والتحالف الاستراتيجي مع القوى الاستعمارية الغربية. بعبارةٍ أخرى واجه الفلسطينيون مشروعًا استعماريًا من طرازٍ فريد، يعتمد على قواه الذاتية وعلاقاته الخارجية.

ثالثًا: كانت التجربة الاستتعمارية الصهيونية، هي التجربة الاستعمارية الأولى، التي يجري بها التآمر سلفاً وعلانيةً، على إقامة وتجسيد مثل هذا المشروع، من قبل قوى استعمارية عالمية، وبتواطؤٍ من بعض المكونات العربية، ولاحقاً بإشرافٍ أممي، من بعد أن سمحت الأمم المتحدة، وقبلها عصبة الأمم، لمثلِ هكذا مشروع أن يتجسد على أرضٍ ليست أرضه، وباقتلاع الشعب الأصلي من مكانه. لقد جردت هذه القوى العالمية والإقليمية الشعب الفلسطيني من حقوقه التاريخية المشروعة، وحرمته من امكانية تجسيد مؤسساته السياسية والوطنية التي تسمح له بالتجذر في أرضه، وأعاقت من إمكانية تطوره، أو حتى قدرته على مواجهة كل مظاهر البطش والطمس والإبادة والاقتلاع.

إذن كان يتعين على الشعب الفلسطيني، أن يعايش تجربة تحررية مركبة وشديدة التعقيد، ويقف بمفرده في وجه مؤامرة كبرى استهدفت وجوده.

وكان أول انتصار جسده الشعب الفلسطيني، تَمثّل في قدرته على البقاء وإفشال الإبادة الجماعية، أو الاقتلاع الكلي عن أرضه، وبقي قسمٌ كبيرٌ منه ثابتاً فوق أرضه، وأطلق هباته وانتفاضاته وثوراته التي كان لها دورٌ كبيرٌ في لجم التوسعية الصهيونية من التمدد بسهولة ويسر في أرضه وفي الأراضي العربية المجاورة.

وتعد إشكالية عدم ترابط المحطات الكفاحية، إحدى أهم الثغرات والعقبات في المعركة التحررية الفلسطينية. إذ أن انفصال الحلقات الكفاحية عن بعضها، أعاق من امكانية مراكمة الخبرات والجهود الكفاحية والسياسية، وبدد انجازات كل مرحلة، فيما كان المشروع الآخر المعادي مترابط الحلقات، ولم يتعرض لهزيمةٍ واحدةٍ فعلية، من شأنها أن تفقد توازنه وتعيق من إمكانية تقدمه وتركيمه لانجازاته، التي أتاحت له البقاء والتجذر وتحطيم أيةِ قوة من شأنها أن تهدد وجوده.

لقد اعترت المعركة التحررية الفلسطينية مجموعة من العقبات والاشكاليات أولها: قوة المشروع الصهيوني المدعوم من قبل قوى عالمية عظمى، وثانيها: اكتسابه الشرعية الدولية، باعتراف معظم دول العالم بأحقيته بالوجود، وثالثها: ضعف دول الإقليم وتواطؤها مع المشروع الصهيوني في محطاتٍ مختلفة، ورابعها: عجز الذات الفلسطينية على التصدي وحدها للمشروع الصهيوني والإجهاز عليه.

وإذا أمعنا النظر في المعركة التحررية الفلسطينية طوال تاريخها الممتد لأكثرِ من مئة عام من الزمان، سنجد أن الاشكاليات الموضوعية التي أعاقت انجاز الانتصار التاريخي كانت أكبر من الاشكاليات الذاتية الفلسطينية، أي أن قوة المشروع الصهيوني المتجسد في "دولة إسرائيل" وعدوانيته، والدعم الهائل الذي يحظى من قبل قوى عالمية وإقليمية، هي من تطيل أمد المعركة التحررية، إذ أن عوامل وجود وبقاء هذا المشروع هي عوامل خارجية بالأساس، وإن تمكن ذاتياً من الصمود وتجسيد القوة العظيمة، غير أنه كان ولا يزال يحتاج إلى الخارج لبقائه.

أما من ناحية الذات الفلسطينية وأخطائها، فبوسعنا القول أن الفلسطينيين قبل محطة النكبة عجزوا عن تجسيد حركتهم القومية أو بناء المؤسسة القومية التي تُشكّل بيتهم الوطني، بسبب تخلف النخبة والمجتمع في تلك المرحلة، ولو أن الفلسطينيين أفلحوا في تلك المرحلة في بناء منظمتهم وكيانهم السياسي بموازاة المنظمة الصهيونية ربما كان بالإمكان الحفاظ على جزءٍ من الهوية والأرض، وربما لم نصل إلى محطة النكبة بتلك الصورة المأساوية.

غير أن الشعب الفلسطيني تدارك ذلك الخلل التاريخي بعد سنواتٍ حيث تمكن بمساعدة العرب من بناء بيتهم السياسي المُتمثل في منظمة التحرير، والتي تمكنت بعد محطة النكسة وهيمنة الفصائل الثورية عليها، من تحقيق انجازات سياسية ودبلوماسية ووطنية هائلة، مع أن المنظمة اعترى بنائها وشكل القيادة فيها، العديد من الأخطاء، ولم تسعَ فتح، كفصيلٍ مهيمن عليها منذ العام 69 إلى إحداث تغييرات جوهرية في نظامها وسياستها، وبناها الداخلية، ولا إجراء اصلاحات تسهم في تدعيمها مما جعل منها كياناً مترهلاً، وشكلياً، وبيروقراطياً، ومتخلفاً وقاصرًا عن أداء مهمته التاريخية.

أما إشكالية المعركة التحررية الفلسطينية الحديثة، منذ العام 1967 أو حتى اليوم، أنها تحركت ولا زالت تتحرك في قلب واقعٍ عربيٍ مريرٍ وضعيفٍ وعاجزٍ ومتخلفٍ ومتواطئ سعت بعض أنظمته لاحتواء الفعل الثوري الفلسطيني، واستخدامه في المعارك بين الأنظمة أو تثبيت معادلات الحكم الداخلية، وشَكّل البعد الدولي نقطة ضعفٍ اخرى لحركة التحرر الوطنية الفلسطينية التي كان يتعين عليها السير في حقل ألغام الصراعات الدولية، وفوق كل ذلك بقيت الحالة الفلسطينية منقسمةً، وما الانقسام الوطني الأخير إلا نتاجاً لحالة الانقسام الفلسطينية التاريخية.

أما الخلل الثاني، فقد تَمثّل بتوقيع اتفاقيات "أوسلو" وإقامة السلطة الوطنية الفلسطينية، حيث تداخلت المرحلة التحررية، بمرحلةٍ بناء الدولة، مما أضعف من إمكانية تقصير عمر الاحتلال، وأطال من أمد المرحلة الانتقالية التي أصبحت بحكم الوقائع على الأرض مرحلة انتقالية دائمة وهيئ للبعض أننا انتهينا من مرحلة التحرر الوطني، وأننا قاب قوسين أو أدنى من الدولة (الدولة على مرمى حجر) ففي مرحلة السلطة تراجع مستوى النضال ضد الاحتلال، واتسعت حدة التناقضات الاجتماعية والطبقية والسياسية، ولم تفلح تجربة الانتخابات التشريعية الأولى سنة 1996، في تحدي بناء الدولة، وأفضت تجربة الانتخابات الثانية عام 2006 إلى الانقسام الوطني الراهن، ولن يتسنى للانتخابات الثالثة في حال إجرائها، من إعادة اللحمة الوطنية، ما لم يجرِ انجاز هذه العملية قبل الانتخابات وليس بعدها.

إن الحالة الوطنية الراهنة تستدعي إنجاز الوحدة الوطنية، لأن هذه الوحدة، هي جوهر عملية التحرر الوطني وقلبها النابض، وبدونها ستبقى المعركة التحررية متعثرة.

إن المرحلة التحررية الوطنية تستدعي:

1. إنجاز الوحدة الوطنية بين مختلف المكونات السياسية الفلسطينية، عبر انجاز المصالحة، والاتفاق على إعادة بناء البيت الفلسطيني الجامع للكل الوطني مُتمثلاً بمنظمة التحرير الفلسطينية، وبناء الأطر الشعبية الميدانية لمقاومة الاحتلال.

2. تقتضي إعادة بناء منظمة التحرير وتطويرها وتفعيلها، عملية بناء استراتيجية سياسية كفاحية موحدة، تجمع عليها مختلف مكونات الشعب الفلسطيني بقواه السياسية ومؤسساته الوطنية والأهلية والشعبية، وحسم مشروع السلطة كمشروع في خدمة كفاح شعبنا ونضاله وليس مشروعاً تسووياً في خدمة الاحتلال.

3. إعادة الاعتبار للعمق العربي والإقليمي، وحشد القوة والامكانيات والطاقات العربية في مساندة النضال الفلسطيني.

4. العمل الفاعل والحثيث والمنظم على الساحة الدولية، وخلق أكبر اصطفاف مناوئ للاحتلال من الأحزاب ولادول والمنظمات والمؤسسات الدولية.

إن أيةِ عملية تحررية وطنية ينبغي أن تقوم على هذه الأسس وتكاملها، حتى يتسنى لحركة التحرر الفلسطينية انجاز معركتها لصالحها، وهي الأسس ذاتها التي مَكنّت كافة حركات التحرر العالمية من انجاز انتصاراتها التاريخية على أعدائها، واستعادة حقوقها وبناء دولها.

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والكاتب والأديب والشاعر، والمفكر الفلسطيني كميل أبو حنيش