بقلم الأسير: كميل أبو حنيش

مقال بعنوان: "دورٌ يبحثُ عن بطل" الحلقة الأولى

كميل أبو حنيش.jpg

خاص_مركز حنظلة

الحلقة الأولى: البطولةُ والدور

من حق الشعب الفلسطيني أن يَتملكّه الإحساس بالاعتزاز بتاريخه المقاوم للغزوة الصهيونية منذ ما يربو على مئة عام، وبما سَطرتّه أجياله من بطولاتٍ خارقة، وبقائمةٍ لا حصر لها من الأبطال الذين كان لكل واحدٍ منهم أسطورته الخاصة، حيث تزخر ذاكرة الفلسطيني بتلك البطولات والأبطال حتى غدت تلك الذاكرة الجمعية إحدى وسائل المقاومة والدفاع عن الوجود، ولأن الذاكرة الحية للشعوب تعني الأصالة والكبرياء الوطني، ولأنها تعني التاريخ الذي تصنعه الأجيال في رحلة نضالها وانتصارها على أعدائها. 

إن تجربة شعبنا الثورية التحررية وبطولاته، هي تجربة وبطولة جماعية، وإن انطوت على تجاربٍ وبطولاتٍ فردية، ساهمت في صنعها أجيال وأجيال في مختلفِ محطات الصراع مع المشروع الصهيوني، وأظهرت تلك التجربة الكفاحية الطويلة قدرة شعبنا على الصمود والإبداع والصبر والمواجهة الطويلة وبذل التضحيات، على الرغم مما اعترى ذلك النموذج البطولي من أخطاءٍ وإشكالياتٍ أعاقت انجازه لمعركته التحررية، وأثقلت ثوراتنا وانتفاضاتنا بالمآسي، وكانت تنتهي ببطولاتٍ تراجيدية من دون أن تفلح تلك النضالات العنيدة في حسم المعركة ورفع راية الانتصار النهائية.

ومع التقدير والاحترام لتضحيات الشهداء وعطاءات شعبنا والاعتزاز ببطولاته العظيمة، إلا أننا نحتاج إلى بطولات تنتهي بانتصاراتٍ حاسمةٍ ومدوية، لا ببطولات تنتهي بمآسٍ وانكسارات، تَجرّ إلى أخطاء وخطايا وانزلاقات واخفاقات، نحتاج إلى بطلٍ حقيقي يقودنا نحو الخلاص، ليس بطلًا فردًا، فتجربة شعبنا زاخرة بالأبطال، الذين ننحي إجلالاً وإكباراً لهم، وليس قائدًا فذًا، فشعبنا أنجب المئات من القادة الكبار، الذين حفروا أسماؤهم بالدمِ والعطاء والإخلاص في سفر التاريخ الفلسطيني المقاتل، وليس حزبًا أو حركةً، لأن شعبنا أظهر إبداعه في ولادة الحركات والفصائل المكافحة، التي أسهمت جميعها في دفع فاتورة الحرية والخلاص، ولأن فلسطين أكبر من الحركات والقادة والأحزاب نحن بحاجة إلى البطولة الجماعية التي يصنعها شعبٌ بأكمله، بطولة تقدم واجبها الوطني، وتؤدي دورها التاريخي، وتصنع الانتصار النهائي.

إن الدور الذي يجب أن يلعبه البطل الجماعي، هو دور الشعب المقاتل في سبيل حريته وخلاصه الوطني، وحتى يتسنى لهذا البطل أن يؤدي دوره التحرري، يتعين عليه أن يتقن أداءه، وألا يقع في أيةِ اخفاقات أو مصائد تاريخية، تُعطّل فعله وتربك أدائه وتنتقص من بطولته. عليه أن يتقمص دور البطل الشجاع والمخلص والتضحوي والذكي والعنيد، ففي مرحلة التحرر الوطني تظهر الشعوب أروع صور التلاحم والتضامن، وتسمو القيم النضالية، وتنحسر الانحرافات الاجتماعية، وتبرز ابداعاتها الكفاحية الشعبية، ويجري حشد كامل الجهود الوطنية في خدمة المعركة التحررية.

إن هذه البطولة الجماعية، هي حالة ثورية ووطنية وعامة تُمثّل ذروة المعركة التحررية، وهذه الحالة تتسم بالقوةِ والثقةِ بالذات والقدرة على الاحتمال والصبر والذكاء والإخلاص والتضحية. حالة لا تعرف اليأس والإحباط أو النكوص، وهذه الحالة نجدها تُعبّر عن كل فلسطيني يسعى للتحرر، وتُعبّر عن وجدانه ورأيه وموقفه الوطني، ولن نجد أصدق وأفضل من تعبير الوحدة الوطنية الجامعة، التي تلم الشمل، وتُحشد القوى، وترهب الأعداء، وترأب أي صدع.

إن هذه السلسلة النقدية الجديدة التي ستحمل عنوان (دورٌ يبحثُ عن بطل) تأتي استكمالًا للسلسلة السابقة التي حملت العنوان (على صفيحٍ ساخن) وما تضمنته من معالجاتٍ نقديةٍ للتجربة الثورية الفلسطينية، ومحاولة استشراف آفاق المستقبل.

والسلسلة الجديدة، وما ستحمله من عناوين، إنما ترمي لمحاولة وضع اليد على الأوجاع العامة والاخلالات والثغرات التي تعتري تجربتنا التحررية، ولفت الأنظار إلى مواطن الضعف، والإشكاليات العامة، لعلنا نستقي  الدروس والعبر ونصحح مسارات المعركة.

سنحاول أولًا تعريف مرحلة التحرر الوطني، وتسليط الضوء على الاشكاليات الفلسطينية في هذه المرحلة، التي تعيق إمكانية انجاز مهمة التحرير، وتُشكّل مخاطرًا محدقةً قد تلحق أضراراً فادحةً في المشروع التحرري. فقد بات لدينا التباسًا واضحًا حول هذا المفهوم "التحرر الوطني" من بعد أن سقطنا في اغراءات الصراع على السلطة ومتاهاتها، حتى صار يتخيل للبعض أننا نعيش مرحلة الدولة والاستقلال، الأمر أوقعنا في المزيد من التيه وفقدان البوصلة، وضبابية الأولويات، لذا يتعين علينا التذكير بشكلٍ متواصل أننا لا نزال في مرحلة التحرر الوطني.

ستعرج هذه الحلقات على مجموعةٍ من العناوين، وستتناول ما آلت إليه الحالة الوطنية في السنواتِ الأخيرة وتعبيراتها الممثلة بالفصائل الوطنية الثورية، التي تَحوّل دورها من وسيلةٍ إلى غاية؛ بل وتَحوّلت إلى حالةِ مترهلةٍ يمكن أن نطلق عليها "القبائل السياسية"، من بعد أن تكلس خطابها الوطني والسياسي، وبات يسود في أوساطها التعصب الحزبي الشبيه بالعصبية القبلية، وهيئاتها أصبحت أشبه بالمجالس العشائرية، علاوةً على تَحوّلها إلى أطرٍ لتوزيع الغنائم والمكاسب الذاتية، وصارت محكومة بالتقاليد والأعراف بدلًا من الأنظمة والمحددات والضوابط واللوائح.

ومن ناحيةٍ ثانية، حَولّت "القبلية السياسية" شعاراتها ورموزها وسردياتها وقياداتها إلى أصنامٍ، وحلت الأهداف الفئوية والحزبية الضيقة مكان الأهداف الوطنية العليا وسرديات الفصائل عن ذاتها مكان السردية التاريخية الوطنية ومناسبات الانطلاقات مكان المناسبات الوطنية، ورايات الفصائل مكان العلم الوطني، وأخذت تَتَحّول مع الوقت إلى "صنمية" خالية من أيِ روح.

كما وسنخصص بعض الحلقات لنقد بعض الظواهر السلبية في المجتمع الفلسطيني، وبعض الممارسات والطقوس المدنسة التي أسميناها بالوثنية الاجتماعية التي لا يجوز أن يتسم بها أو يمارسها أي مجتمع أثناء معركته التحررية، على شاكلة استعراض الثراء والبذخ الفاحش، وتفشي الاستهلاكية المغرضة، وانتعاش القبلية والعشائرية، وما بات يُعرف "بجرائم الشرف"، وعادات الثأر، وغيرها من العادات والتقاليد البالية.

أما القضية الأبرز التي ستعالجها بعض حلقات هذه السلسلة تتلخص بالمنعطفات التاريخية الخطيرة والزوايا الحادة في الوضع الراهن الفلسطيني، التي تتطلب بذل جهود كبيرة في سبيل الانفكاك منها، حتى يكون بمقدور حركة التحرر الفلسطينية أن تنجز معركتها التحررية، ولعل أخطر تلك الزوايا هي المرحلة الانتقالية "اتفاقيات أوسلو" التي علقنا بها من دون أن نفلح في كسر حلقتها ومغادرتها، إلى جانب إشكالية المقاومة والكفاح الوطني، التي باتت تفتقد للاستراتيجيًا والرؤية السليمة، أما الأخطر فيتمثل في حالة الانقسام الوطني واستمرارها، مما يُشكّل تهديدًا للمشروع الوطني، وإخفاقًا مدويًا للنخبة السياسية الفلسطينية.

كما وسنفرد حلقة خاصة بالثالوث المقدس، لأي معركة تحررية، والذي يتخلص: بالوحدة الوطنية، المقاومة والكفاح، والخط السياسي الناجع، وبدون هذه الثلاثية المترابطة الحلقات، يستحيل انجاز المعركة وأهدافها الوطنية.

ومن ناحيةٍ ثانية، ينبغي أن يكون لدى أي شعب أثناء معركته التحررية، مجموعة من المحرمات "التابوهات"، التي لا يجوز انتهاكها، ومن ضمن تلك المحرمات: الاقتتال الداخلي، والفساد، وتفشي الخوف والفزع، والخيانة الوطنية والضعف والترهل، وأوهام الانتصارات، والمقامرة بالحقوق الوطنية.

ويجدر بنا التوقف أيضًا، لدى إحدى الثغرات الخطيرة في نضالنا الوطني، المتمثلة بـ "الاسترزاق السياسي" وتحويل العملية النضالية والسياسية إلى عملية تجارية وإلى تَسوّل، إذ أن ثمة مكونات سياسية وكفاحية في الساحة الفلسطينية، بات وجودها عبئاً على كاهل النضال الوطني، ولا تحسن تلك المكونات غير التَسوّل والمتاجرة بالدماء وبالمواقف، واقتناص الفرص والبحث عن مكاسبٍ فئوية أو ذاتية على حساب القضية الوطنية.

وأخيراً، سيجري التوقف، لدى إشكالية العزوف عن النضال والمسارعة إلى البحث عن الغنائم، ولم تنتهِ المعركة بعد. فثمة من آثروا النزول عن الجبل والسعي وراء المغانم، أي البحث عن الحقوق ونسيان الواجبات.

ففي مرحلة التحرر الوطني، لا يجوز قلب المعادلة، لأن الواجب في هذه المرحلة يجب أن يسمو على الحقوق، وينبغي حشد كافة الجهود والطاقات في سبيل الانتصار في المعركة.

إننا نحتاج إلى الوقوف بصراحةٍ أمام الذات الفلسطينية لمعاينتها ونقد تجربتها وحالتها الراهنة، ويتعين علينا أن نكف عن التمجيد الفارغ لذاتنا الفلسطينية ومكوناتها الوطنية والسياسية، ولا التقديس لتجاربنا الفاشلة.

إن ما ستتضمنه هذه الحلقات، ليس الهدف منه المزايدة أو الإساءة أو التقليل من شأن أحد، إنما هي محاولة للإبحار في تاريخنا الماضي، والغوص في حاضرنا، بغية البحث عن مفتاح الخلاص الوطني، حتى وإن بدت تعبيراتنا قاسيةً وحادةً إنما غايتها الوصول إلى نتائج نحتاجها جميعًا، قد نتفق حول بعضها ونختلف عن البعض الآخر، وكذلك بغرض إثارة الجدل والنقاش حول ما يعتري مسيرتنا التحررية من اشكاليات.

يتعين علينا ألا نبحث عن بطلٍ محررٍ كصلاح الدين، من خارج ذاتنا الفلسطينية، مع التقدير لكل بطلٍ عربيٍ أو غير عربيٍ يساهم معنا في المعركة، لأننا نحن أصحاب القضية، ونحن "أهل مكة" ونحن أدرى بشعابها وتعرجاتها، ولن يكون العرب فلسطينيون أكثر من الفلسطينيين أنفسهم.

إن البطل كامنٌ فينا جميعًا، وينبغي أن نؤدي دورنا وواجبنا الوطني، ونستكمل طريق من سبقونا، ونستلهم بطولاتهم وانجازاتهم، ونتعلم دروساً من أخطائهم واخفاقاتهم.

إن هذه الحلقات لا يتوسل منها صاحبها السجين أكثر من لفت الانتباه إلى الهم الوطني العام، وتسليط الضوء على بعض ما يعتري مسيرتنا التحررية من إخفاقات وإشكاليات.

ولعل هذه الكلمات الخارجة من بين جدران السجون، يكون بمقدورها الوصول إلى كل من يشاطرنا رأينا، ولعلنا نقرع الجرس معًا للتنبيه من المخاطر المحدقة بمشروعنا الوطني.

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والكاتب والأديب والشاعر، والمفكر الفلسطيني كميل أبو حنيش