بقلم الأسيرة: روضة أبو عجمية

خاطرة بعنوان: "قَراري الدائِم"

الأسيرة روضة أبو عجمية.jpg

خاص_مركز حنظلة

أنا ابنة الحُرية ولدت في بُقعةٍ صَغيرة تُسمى المُخيم، حَملتُ كلمة لاجِئة مَعي أينما حَلَلت، وأينما رَحلت أحفظُ اسم بَلدي ومساحته، التي لا تَصل إلى مَساحة الإثنتا عشرةَ ألف دونم، اسمها "مغلس" حيث اختلف الرُواة على أصل التَسمية، لكن ما أجمعوا عليه أن مَجموعة من جُيوش المُسلمين، كانت على مَشارِف البَلدة عندما حل الظَلام، فأمر قائد الكَتيبة الجُنود أن يَبيتوا لَيلتهم تلك هناك، لأن اللَيل قد غَلس ومعناه يتصل بحُلول الظلام ومن هنا وُلِدَ اسمها. لكل منا مَسقط رأس حيث يولد الإنسان ويَكبُر، أما بَلدتي الأم فهي مَسقط قَلبي، لذا أحِبُ المُخيم وأكبُر بساكنيه فردًا فردًا.

مُخيمي الذي أخرج كل الأجيال الصامِدة، وجعلنا متمسكين بالعودة الحَتمية، التي هيّ حق ثابِت لا يَسقُط مع مرور الزمن.
لم يعلمنا آباءنا مَعنى الوَطن إلا أننا تَشربنا الإنتماء بالفِطرة، وأن المخيم مَحطة مؤقتة لحين العَودة.

أخرج نُخبةٍ من أبنائه المُتعلمين، وبالمقابل كان المُخيم شُعلة لا تَنطفئ للمُقاومة.

لطالما كان لَيل المُخيم يَتحول إلى نَهار لأن "موشيه ليفنغر" قرر مُحاولة اقتحامه، هو وثُلةٌ مِن المُستوطِنين، لِتُصبح سَماء المُخيم حَمراء يَختلط فيها الرَصاص الغادِر، بِحجارة المقاومين لِلدفاع عن المخيم.

لَيقوم كَيانهم بِمد أسلاك شائِكة على الشارع الرئيسي المُحاذي للمخيم، ويضع وعاء الإسمنت الكبير بكثرة، على أبوابه المُتفرعة ويُصبح للمخيم بوابة كبيرة، تُفتًح صَباحًا وتُغلق مَساءً للسيارات، أما من يَسيرون على أقدامهم، فكانت البَوابة الدوراة واحدة للخروج، وأخرى للدخول وسُميت "بالمعاطة" لشكلها الشَبيه بَمعاطة الدَجاج.

وعلى مَدار سِنين المخيم، قَدَّمَ المُخيم كَغيره من بُقع الوَطن، الكثير الجَرحى والأسرى والشهداء، فالمُخيم قاطنيه هم مَزيج مِن سُكان قُرى عديدة، هُجِروا منها عام النَكبة، لتجمعهم هذه البُقعة الصَغيرة ويُصبحوا أهل وجيران وأكثر! ورغم ذاك العمر الذي أمضيته في هكذا مكان، إلا أن حُلم العَودة أليهِ قائم ومستيقظ إلى الأبد يأبى النوم.

 فبلدتي جَميلة وأحبها حتى بِخرابها الذي عم بها بالوقت الحالي، ففي فترة الثمانينات والتسعينات، عندما كان أبي يَصطحبنا إليها لِنُمضي يَومًا رائعًا، فنشعر بِجمال تًفاصيله كما لو كان رِحلة لا نود أن تَنتهي.

كان يَمرُ بصحبتنا بأراضي البَلدة تِباعًا، ليقول: هنا خِلة عَطا، وهنا الحارة، وهنا البئر وهنا حُدودنا مع عَجور!

ومع مرور تلك السنين كلها، على تَهجيرهم قسرًا، في قيظ الصيف بشهر رَمضان، إلا أنهُ كان يَحفظ الأماكن، وكأنه يحمل خارطة بين يديه، بيدَ أن الخارطة في الحقيقة، كانت مَحفورة في قلبه!

الغريب في الأمر وأنا أكتب اليوم عن مَسقط قلبي ورأسي، مكانين أنتمي إليهما، أنني أكتبُ مِن مكانٍ آخر، حيث عودة الشخص إلى المُخيم مَرهونة بالحُكم الذي سيصدر! يتوجب عليّ البقاء في محطةٍ أخرى، لكن بشكلٍ مَقيت. فقد أحبَبتُ المُخيم، ولا زلت أُحِبُ قَريتي حتى العودة، إلا أنني ها هنا الآن، وأكره هذا المَكان وأكره لحظات البقاء فيه حقًا، فأنا كما قلت ابنة الحُرية والمُخيم، أما قَراري الدائِم، فهو بِغض النَظر عن المُدة التي سأبقى فيها هنا، أنني أُعلِن عن كرهي وبشدة لكل لَحظة أمضيها في السجن، أريدُ العَودة للمُخَيم، أُريدُ العَودة لقَريتي أُريد العَودة لِروضة كانت من رِياض الجنة ما قبل الإعتقال الذي يُشبِه حُفرة كبيرة من حُفر النار!

أُريدُ العَودة لِعائلتي أُريدُ العَودة إلي، بل ولكل ما يَمتُ لِقَلبي بِصِلة.

عن الكاتبة الأسيرة: الأسيرة روضة أبو عجمية (47 عامًا) من حارة السلام بمخيم الدهيشة جنوب بيت لحم اعتقلها الاحتلال بتاريخ 4/4/2023، بعد مداهمة منزلها، وتقبع اليوم في سجن الدامون