سلسلة " هكذا عرفت العم عمر " ..

كل نهر على منبعه أمين

...

أيام عدة لم أَره خلالها، عرفت أنه في البيت ولا يخرج أبداً، ما به؟ ماذا حل به؟ ولماذا هذا الاعتكاف؟ هذه العزلة؟ يقول أحد رفاقي أنه زاره وكان في حال سيئة جداً؛ "ضايع وسرحان" هكذا قال عنه، ظلت هذه العبارة تقرع جدران رأسي طيلة الوقت، أقول لنفسي: "أبو الصابر لا يمكن أن يضيع". 

دائما نهتدي إليه كلما غطى الضباب معالم طريقنا، نهتدي إليه، ينقشع الضباب من أمامنا بالعمل قبل القول فكيف يكون ضائعاً؟ 
لا يمكن أن أصدق يوماً أن مثله يمكن أن يضيع، مثل هذا الرجل تشعر مع كل شعرة تشيب في رأسه أو لحيته بالرعب والخوف من أن تفقده في يوم ما، كان مجرد التفكير في احتمالية فقدانه يوماً يثير فيَّ وفي كثيرين ممن تتلمذوا على يديه الرعب وأقصى درجات القلق.

يجب أن أزوره، أفهم منه ما الذي يعزله، ما الذي يكسره. لا! مثله لا يُكسر، لا يمكن أن يُكسر، سنوات طويلة من الأسر والحرمان، من القهر والتعذيب لم تزده إلا قوة وعزيمة لمواصلة الدرب، سأزوره الآن، اشتقت إليه. اشتقت لنفس التحدي المتأصل فيه، لبلاغته في التشبيه، لشايه الأحمر الثقيل.

طرقت باب منزله، بعد لحظات فتح الباب وأطل صابر
- مرحبا، 
- أهلاً، تريد أبي؟ أبي ليس هنا.

"صابر، من على الباب؟"، جاء صوت ام صابر من الداخل. 

"صديق أبي"، قالها صابر وهو يتشاغل بهاتفه. 

- قل له انه في بيت امه. 

تجاهلني وظل مشغولاً بهاتفه، هبطت الدرج وعند آخر درجة استدرت ثم نظرت اليه، كان لا يزال واقفاً كالتمثال يعبث بهاتفه كما تركته تماماً، او بالأحرى كما تركني أمام الباب، صابر كان بعمري أو أكبر مني بقليل.. أكملت طريقي لبيت جدته.

كان البيت عبارة عن غرفة يلتصق بها حمام خارجي، كانت قبل ذلك مخزناً تربي فيه والدة أبو الصابر الدجاج، ومع أول سنوات اعتقاله اختلفت أم صابر مع حماتها، كانت أم صابر تعاملها معاملة سيئة، أجبرت هذه المعاملة والدة أبي الصابر على تحويل ذلك المخزن لغرفة تعيش فيها. 
توفيت في تلك الغرفة أثناء وجود ابو الصابر في السجن، توفيت في مخزنها وحيدة لم يعرف بوفاتها أحد إلا ما ندر، قاطعتها من السنة الاولى لاعتقاله وكانت هي وحماتها يخبئن ذلك عن أبو الصابر، عرف ذلك بعد تحرره عن طريق الصدفة، عاد يومها لمنزله فلم يطق العيش في منزل طردت منه أمه، شعر بغربة وسط أسرته التي كان يحسب بالثانية بعده عنها، كأنها ليست الأسرة التي أبعد عنها قسراً وبكى عليها بحرقة دون أن يرى أي أحد دمعته. انسَلّ وذهب لمخزن امه يستسمحها ويداري خيبته مع روحها.

حين فتح الباب، لاحظت دون جهد ضعف جسده، ملامحه لم أعهدها يوماً بهذا الشكل بهذا التعب، أدركت أن مصيبة ما حطت بمخالبها وثقلها على كتفه، رحب بي وأدخلني، جلست على أريكة اعتدت الجلوس عليها كلما زرت والدته.

بسرعة لمست أنه يتحاشى النظر إلي مباشرة، أنا الذي كنت اخجل من النظر لعينيه مباشرة، شيء ما كان يمنعني من ذلك. وكان يعرف احترامي له ودون أن احكي له عن هذا الخجل أدرك ذلك وصار كلما حدثته يرسل عينيه بعيداً ليتركني أتحدث براحة، لكن هذه المرة يختلف الأمر تماماً، لا ينظر إلي بتاتاً، أنا الذي أصغره بأكثر من عشرين عاماً يتحاشى النظر لعينيّ! 
 سألته اسئلة روتينية، أجابني عليها ثم خيّم علينا الصمت، سألني : شاي أم قهوة؟ 

"اشتقنا لشاياتك"، قلت له.
 نهض عن أريكته وتوارى خلف ستارة رمادية تفصل المطبخ الصغير عن باقي الغرفة، رحت أحدق في منحوتات خشبية وقطع قماش رسم عليها أو كتب عليها كانت معلقة على الحائط، كان أبو الصابر يخرجها من سجنه، أيام طويلة وهو ينحتها ويعمل عليها وفي نهاية الأمر كانت زوجته تعتبرها خردة "بين براويز غالية الثمن"، فترسلها إلى والدة أبو الصابر التي تدرك عظيم قيمتها، تحتضنها، تتحسس كل جزء فيها، تقبلها، تقبل عرق يدي ابنها، تمزجه بدمعاتها ثم تعلقها على الحائط في غرفتها.

بعد دقائق جاء الشاي، وضع الإبريق على الأرضية ثم وضع الصينية على طاولة صغيرة بيننا. كنت اراقبه، أتفرس أحلامه، بدا لي أنه حاول فتح موضوع، ولكنه لسبب ما عدل عن فكرته، بادرته بالسؤال: 

- ألن تخبرني ما بك وما يحدث معك؟ 

لم يُجِب، تشاغل عن سؤالي بصب الشاي، أمهلته لحظة ثم أعدت سؤالي عليه ولم يجبني، قدم لي فنجان الشاي وأبقى فنجانه على الصينية، رشفت رشفة من شايه اللذيذ وقلت متوسلاً: 

- أبا الصابر، أنا مثل ابنك أخبرني ما بك، أرجوك! 

 تألقت دمعة في عينه اليسرى، مسحها بطرف كمه ثم أمسك فنجانه، وما إن رفعه؛ حتى أصدر الفنجان صوتاً وبقي قاعه على الصينية وارتفع باقيه في يد أبو الصابر، ابقاه مرتفعاً قبالة وجهه تنقط منه قطرات الشاي على الشاي المنسكب في الصينية، يحدق بالفنجان، وتنطبع على شفتيه ابتسامة مرة، تتألق الدمعات في عينيه، ثم تنساب ببطئ لتختفي في لحيته التي لم تحلق كما اعتادت. لم يعد قادراً على مواراة دمعاته، شعرت بالاختناق، اختناق ما قبل البكاء، ثم بدأت ببكاء صامت لما آل إليه حاله..

- ليت ابني مثلك، يا سامح، ليت أبنائي كلهم مثلك، لقد خذلوني كلهم! خذلوني كما خذلني هذا الفنجان، ابنائي، زوجتي، كلهم خذلوني!

 صمت لبرهة ثم أضاف :
 حين أراهم وأرى تصرفاتهم، اقارنهم بك ورفاقك؛ أخجل من نفسي، أهؤلاء ابنائي؟ اهؤلاء ابنائي يا سامح؟ ظل يكررها ويبكي. 
كنت أربّت على كتفه ورحت رغماً عني أبكي معه.

منذ عامين ونصف العام تقريبًا، كانت هذه المحاولة هي الأولى حيث كتبت جزءاً من هذا النص، شعرت أنه لم يكتمل كقصة لهذا الموضوع، فحولت النص لقصة اخرى تتعلق بالخذلان؛ ولم تكتمل أيضاً ..
وها أنا أكتب مجدداً بعد محاولات عدة كنت أتشبث فيها ولا أستطيع الكتابة، كتابة هذه القصة بالذات، فالكتابة في السجن موضوع آخر ..

ربما يظن الكثير من الناس أن اكثر الأماكن ملاءمة للكتابة هي السجن، لكن في غرفة كالتي أكتب فيها الآن هكذا هي، أقبع فيها مع سبعة من رفاقي، ننام فيها، نأكل ونطهو فيها، نقضي حاجاتنا ونستحم فيها، ويلعب بعضنا فيها الرياضة، حيث بإمكانك في اللحظة ذاتها أن تشتم رائحة الحمام والطبيخ والخضار والشامبو والتدخين، هذا ناهيك عن الأصوات التي تسمعها أثناء الكتابة، صوت الراديو، الدوش، المرحاض، تعليقات الزملاء على التلفاز، حواراتهم ومجادلاتهم الدائمة، صوت المراوح، الأبواب، الكلاب التي تربض على سقف الغرفة، ساحة القسم المجاور ولعب كرة الطائرة، هذا دون الاجراءات التي تقطع حبل الأفكار، عدد، فحص شبابيك، وتفتيش محتمل في أي لحظة، يمكن أن يودي بأوراقك لمكان مجهول لا تعرفه إلا إن كانت "كتابات امنية"، وإن كانت كذلك فإنك حتماً ستتعرف عليها في مركز تحقيق ما. ومفهوم الأمن هنا فضفاض؛ فيمكن أن يتم اعتبار رسالة لطفل لم يبلغ الأربع سنوات رسالة أمنية يتم عزلك على اثرها. هذه هي الظروف التي يكتب فيها من هم في الأسر، ومع ذلك كله، نكتب. 

رغم كل التشتت في هذه المساحة الضيقة إلا أن هناك دائماً ما يستفزك للكتابة، فتكتب رغم كل الظروف، ربما كان التشتت جيداً. 

كي لا أنهي قصتي قبل الآن، وها هي الآن اكتملت كما اردت أن تكتمل، وكما أريدها أن تصل، ولو كانت قد اكتملت قبل الآن ستكون ناقصة، لكن في حياتنا دائما ما يستجد، والجديد يُكمل أو يهدم.. وها هو الآن يُكمل.

"انظر لأبناء فلان" عبارة سمعتها ولا أزال اسمعها بين فترة واخرى، ولا شك أن كل مناضل سمعها. في مرحلة ما كنت ولا زلت اعتبرها عبارة انهزامية، يقدمها البعض ليبرر بها تقاعسه عن النضال، أو للتشويه، لكنها دائماً كانت تحظى لدي بوقت للتفكير، أعطيها حقها؛ ليس لأجد مبرراً يبعدني عن طريق النضال.. بل كي يكون يوماً أبنائي فيه كأبناء "فلان"، ولأعرف ما جعل ابناء "فلان" هكذا، و"فلان" هذا مثله مثل أبو الصابر، مناضل نجده في ساحات النضال كلها.. في الأسر، في العمل النقابي وفي شتى الأحزاب والحركات السياسية. نتعلم منه من جَلَده وصبره، صلابة مواقفه، ثقافته، نتأثر به ونستأثر بمآثره لكننا في ذات الوقت نجد ابناءه في طريق آخر، يبتعد كل البعد عن طريق النضال، عن طريق والدهم، وهنا يفرض سؤال ما نفسه بقوة، لماذا يؤثر في كل من يلتقيه ولا يؤثر بابنائه؟! 

حين كان يلتقي "فلان" وأبو الصابر بشبان كأبنائه، يرى أنهم في ضلال، يصلبهم، يثقفهم، يهذبهم ويزرع فيهم القيم الوطنية، يخلصهم من "مياعتهم" كما يصف، ويجتث منهم الأفكار الليبرالية التي تبتعد بأصحابها عن معاناة شعبهم. هكذا كان يقول أبو الصابر أو "فلان" وفي الوقت ذاته، نجد ابن فلان غارقاً في ليبراليته، في جهاز أمني، أو ترى على صفحات التواصل صوراً لابن فلان في ملهى ليلي في دولة امبريالية كما يصفها والده، أو تجد ابناً لفلان في... لا، بل لا تجده! فكيف تجده وهو لم يسلك يوماً أي درب نضال؟!، وابن فلان كذا، ابن فلان هكذا، ابن فلان ذهب ابن فلان هاجر إلى دولة ما.. 
يعود مع كل مثال عن ابن لفلان السؤال الملح ذاته،  لماذا يؤثر فينا ولا يؤثر بأبنائه؟ هكذا اتساءل دائماً ويسألني الأصدقاء هذا السؤال. نتقارب في الأجوبة التي نقدمها على هذا السؤال لكنها كلها تكون في خانة"ربما" التي لا اعرف أهي مبررة أم لا.. أهي صحيحة أم لا؟ وكانت كلها على هذا النحو، ربما الزوجة وطريقة تربيتها؛ كونها عانت العذاب ولا تريد لأبنائها أن يعانوه. ربما أفكار الزوجة تختلف عن أفكار زوجها، تختلف عن أفكار زوجها النضالية، ربما عاطفة الأمومة، ربما المحيط الإجتماعي للأسرة، ربما البعد الطبقي، وربما وربما وألف ربما يمكن أن تجيب على هذا السؤال؛ فكل فلان تختلف أسبابه عن فلان الآخر، لكنني لم أكن أتخيل يوماً أن هذا النمط من التربية يريده "المناضل" ذاته لابنه الصغير.. 
قبل فترة وقعت بين يدي رسالة كتبها مناضل ما لطفله استفزني كثيراً، لكن هذه القصة لم أكن سأراها مكتملة لولاها. 

كانت الرسالة تدل على أن كاتبها "المناضل" في دولة اجنبية وليس في السجن، وهو في رحلة عمل! رأيت يوماً مثل هذه الرسالة في فيلم أو مسلسل تلفزيوني، كانت من سجين جنائي اتهم بالسرقة والإتجار بمواد مخدرة، كان يرسلها لطفلته كي لا تعرف أن والدها في السجن على قضية قذرة، لكن أيفعلها أسير حرية؟! أيكتبها مناضل يربي اجيالاً؟! ألهذه الدرجة يخجل من نضاله؟ وأمام من؟ أمام طفله! أيعقل أن يكون قد أدرك الآن أن النضال الذي شب وقارب أن يشيب عليه كان خطأ في خطأ، ولا يريد لابنه أن يشب ويكبر عليه؟ أن يكبر على خطأ والده؟!..

لا شك أننا في التفكير في امور حياتنا كلها، كلما فكرنا بشيء نفكر في ذات الوقت بنقيضه. لا شيء في الحياة دون نقيض، ولا مفر أمامنا من استحضار نقيض هذين النموذجين "فلان وصاحب الرسالة"- عمر البرغوثي "أبو عاصف"- أستحضره الآن كنقيض وكنموذج فذ، منذ أشهر رحل عنا. وفي الوقت الذي أكتب فيه الآن هو الآن والد شهيد وأسيرين أحدهما يقضي حكماً بالسجن المؤبد عدة مرات، أستحضره الآن في قصة تربوية.

"ذات يوم وفي ساعة متأخرة من الليل، اقتحم الاحتلال الصهيوني منزل العم عمر وكان ذلك قبل هدم المنزل بأيام، وقف ضابط المخابرات الصهيوني وحدق في صورة معلقة، كانت الصورة للشهيد صالح، نجل العم عمر، كان صالح في الصورة يقف أمام ذبيحة ربما كانت لعيد ما، قال الضابط بعربية ركيكة للعم عمر بعد أن اشار للصورة: "هيك، بتربي اولادك على الإجرام؟ وكمان خسرت ابنك. وهسا مين بده يربي ابنه؟"
 رد العم عمر بحزم:  "أنا بربيه" .
- كيف؟ سأل الضابط. 
- مثل ما ربيت أبوه وعمه. 
ذهل الضابط من الإجابة وكرر سؤاله دون وعي 
- كيف؟ 
- قيس! نادى العم عمر حفيده، 
 -نعم يا جدي. رد قيس بصوته الصغير الجريء. 
- شو بدك اشتريلك؟ 
- بارودة.
- ليش؟، 
- عشان "أتخ" فيها على الجيش!. 

صُعق الضابط من الإجابة، ولم تسعفه الكلمات العربية التي تعلمها لينطق، كان يفكر في هذا الحوار القصير في هذه التربية المتأصلة في العائلة منذ عشرات السنين، في طاقة العم عمر الذي كان يبتسم وما يزال. 

وعندما سمعت هذه القصة خطر لي من شعر لمظفر النواب لا أذكره الآن، لكن ليس بالضروري ان تكون الحقيقة شعراً، يمكنها أن تكون مقولة شعبية تحضرني الآن "كل نهر على منبعه أمين" 
سجن نفحة الزائل 
كتبت قي ٢٠/١١/٢٠٢١ 
سُمسِمت في ٢٧.١١.٢٠٢١
من سلسلة القصص "هكذا عرفت العم عمر"،"

الأسير قسام البرغوثي/سجن نفحة الزائل