بقلم الأسير: كميل أبو حنيش

سقط الزند.. وسقط المتاع مساهمةٌ في نقد الثقافة الفلسطينيّة الراهنة "الحلقة التاسعة"

كميل أبو حنيش.jpg

خاص_مركز حنظلة

الحلقة التاسعة: مساهمةٌ في نقدِ الثقافةِ الفلسطينيّةِ الراهنة

برز اهتمامٌ ملحوظٌ في الساحة الفلسطينيّة في السنوات الأخيرة بأدب السجون، وكثرت الفعاليات والندوات الثقافية والكتابات النقدية عن هذا النوع من الأدب، الذي يلخص تجربة الأدب الفلسطينيّة في السجون الاحتلالية.

في الواقع، لقد عرف التاريخ الإنساني هذا الشكل من الأدب، ولا تكاد ثقافةٌ في تاريخها إلا وأبرزت القصائد والنصوص والإسهامات الثقافية والأدبية المتنوّعة في السجون في شتى أرجاء المعمورة. أمّا في التجارب التحرّريّة، فقد تطوّر أدب السجون لانطوائه على مضامينَ سياسيّةٍ ووطنيّةٍ وثوريّة، وكذلك فنية؛ ارتباطًا بتطوّر الأدب ومذاهبه في القرنين الأخيرين، علاوةً على ما نقلته أقلام كُتّاب السجون من تجارِبَ إنسانيّةٍ تهزّ الضمير الإنساني، وتتميز بإبداعات فريدة؛ ارتباطًا بطبيعة الممارسات الاستعماريّة في السجون وتنوّعها، فكانت الإبداعات الأدبية الصادرة من قلب السجن، تعكس طبيعة الثقافة الإنسانيّة لكلّ تجربةٍ كفاحيّةٍ وطنيّةٍ وهي تعايش مكان السجن وزمانه، وما يخلفه من آثارٍ نفسيّةٍ وعاطفيّةٍ ووجدانيّةٍ وإبداعيّة وآراء فلسفيّة وفكريّة في الأسير، فتنعكس على شكل  إنتاجاتٍ أدبيّةٍ لها قيمها الفنيّة والجماليّة والإنسانيّة.

أما في التجربة الكفاحيّة الفلسطينيّة، فقد شهد هذا النوع من الأدب حالاتٍ من الصعود والهبوط ارتباطًا بالمرحلة التاريخيّة. ففي مرحلة ما قبل النكبة؛ أي مرحلة الانتداب البريطاني، لم يصلنا أية نصوص أدبيّة نتاجًا للحياة الثقافية للسجون في تلك الحقبة، باستثناء بعض الأشعار والشذرات الأدبيّة التي جرى تناقلها شفاهةً أو وردت ببعض الكتب والمذكرات.

وفي السنوات الممتدة بين نكبة 48 وحتى نكسة 67 لم يصلنا إلا بعض النصوص الشعرية، لشعراء المقاومة كمحمود درويش وسميح القاسم وراشد حسين وآخرين.

ولكن يمكننا أن نسجّل أنّ تجربة السجون وإنتاجاتها الثقافيّة والأدبيّة قد بدأت فعليًّا بعد عام 67، وتطوّرت هذه الإنتاجات من محطّةٍ لأخرى، وشهدت لحظاتٍ من الانتعاش أو التراجع، حيث صدرت طوال العقود السابقة عشرات الإصدارات، منها ما كتب أثناء الأسر، ومنها ما كتب بعد التحرّر بسنواتٍ طويلة، كنصوص عائشة عودة وبشير الخيري وجبريل الرجوب وعلي جدة ومعاذ حنفي ومحمود الغرباوي ووسام الرفيدي وأحمد قطامش وغيرهم الكثير، وكانت في مجملها إما مذكّرات شخصيّة أو نصوصًا شعريّة، في حين لم تشهد الرواية أي تطوّر يذكر، وبقي الإنتاج الأدبي شحيحًا حتى عام 2000، حيث اقتصرت الإنتاجات حتى ذلك العام على بعض النصوص الشعرية والرسائل والقصص القصيرة والخواطر.. ومن المؤكّد أنّ ثمّة مذكراتٍ شخصيّةً أو أعمالًا أدبيّةً متنوّعةً قد كتبت طوال العقود السابقة، منها ما ضاع في السجن أو بعده، ومنها ما رأى النور، لكنّه لم يلاقِ الانتشار الكافي لأسبابٍ متعدّدة، منها ما بقي محتفّظًا به في بيوت الأسرى من دون السعي لإصداره.

ويمكننا القول: إنّ أدب السجون شهد تطوّرًا في العقدين الأخيرين من حيث عدد الإصدارات ونوعيّتها لا سيّما الرواية، ومن ناحيةٍ ثانيةٍ من حيث الاهتمام الثقافي والنقدي والإعلامي والجماهيري بأدب السجون، حيث برزت في العقد الأخير أسماء عددٍ من كتّاب الأسر، واشتهرت إصداراتهم، ولاقت اهتمامًا من قبل النقاد والناشطين في الساحة الثقافية، وأصبح هذا النوع من الأدب يحظى بالاهتمام؛ نتيجةً لعوامل متعددة، أولُّها: بروز عدد من كتاب الأسر الذين أصدروا أعدادًا من الإنتاجات الأدبيّة المتنوّعة، ولمس القارئ والناقد تطوّرًا في المستوى الفني لمثل هذه الإصدارات، وثانيها: اهتمام النقد الأدبي المتنامي لهذه الإصدارات وشدّ الانتباه إليها، وثالثها: اهتمام بعض المؤسسات الثقافية ودور النشر والمساعدة في نشر مثل هذه الأعمال، ورابعها: تزايد أعداد الأسرى الذين باتوا يكتبون في أكثر من حقل (رواية) قصة، شعر، دراسة علمية، دراسة نقدية، كتابات سياسية...الخ) وخامسها: مساهمة وسائل الاتصال المنتشرة في السجون في تسريب المواد المكتوبة إلى الخارج.

لكن السؤال المهم الذي يجب أن يطرح بصراحة، وبعيدًا عن العواطف والمجاملات: هل كل ما يصدر عن ساحة الأسر من كتابات يمكن تصنيفه بأنّه ينتمي لأدب السجون؟ وكيف يمكننا التعاطي مع مجمل الكتابات بطريقةٍ موضوعيّة، ونسعى لتطويرها وإعطائها مكانتها اللائقة؟

قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، ينبغي التنبيه إلى أن ما سيُقدم في هذه الحلقة سيكون حادًّا بعض الشيء، وينطوي على الصراحة، خاصةً أنّ كاتب هذه السطور، يُعد واحدًا من كُتّاب السجون، وأحد المهتمين والمتابعين للثقافة الفلسطينيّة، ويكاد يعرف من الداخل غالبية كُتّاب السجون لاسيّما المبدعين منهم، وأطلع على بعض كتاباتهم قبل أن ترى النور أو بعدها.

وأقام علاقة مع العشرات وربما المئات من المثقفين والأدباء والشعراء والمؤسسات والرموز الثقافية خارج أسوار السجن من خلال الهاتف. وما يمكننا تقديمه من تصوّراتٍ إيجابيّةٍ وآراءٍ سلبيّة حول أدب السجون لا يُقصد منه الانتقاص من أحد أو بغرض المزايدة، إنّما الهدف منه محاولة تسليط الضوء على بعض الحالات الإبداعية أو الواعدة، متأملين أن تتكلّل جهود الجميع بالسداد.

إنّ أدب السجون هو مرآة تعكس ثقافة الأسر، وهو جزءٌ من العمليّة الثقافيّة التحرّريّة، ولا يجوز لأيٍ كان الاستخفاف أو التقليل من أهميّة هذا النوع من الأدب. فهو يعد توثيقًا ورصدًا للتجربة الأدبيّة في السجون الصهيونيّة في سياقها التاريخي الذي يناهز النصف قرن، وفي الوقت ذاته مقاربات بأسلوبٍ أدبيٍ للتجارب الإنسانيّة والعاطفيّة والمقاومة لعشرات الألوف من الأسرى الفلسطينيين، ومن جانبٍ آخر يُعدّ هذا النوع من الأدب، بمثابة وثائق ثقافيّة تعكس البعد الثقافي للسجون، وهو فعلٌ ثقافي وإنساني يحاكي الواقع ويؤنسن الأسير وسجانه على حدٍّ سواء، فالنصُّ الأدبي الصادر من قلب السجن مُشبّع بالعواطف ومكتظّ بالقهر ومفعمٌ بالأمل. إنّه نصٌّ حالم، مندهش، وحساس، ولا يمكن لمثل هذا النصّ أن يتحرّر من مرحلته التاريخيّة، أي تجاوز الرواية عن السجن، وما يخلفه في أعماق السجن من مشاعر وأحاسيس وآمال وآلام.. الخ.

إنّ أدب السجون هو أحد الأشكال التي يجد فيها الأسير متنفّسًا ثقافيًّا، خاصّةً إذا كان كاتبًا، للتعبير عن إنسانيّته وذائقته وموهبته الفنيّة وما يختزنه من آلامٍ وآمالٍ وأحزانٍ وأحلامٍ وتجارب إنسانيّة، بعد أن طالت سنوات الأسر للمئات من الأسرى، بعضهم أمضى أربعة عقودٍ أو ثلاثة، أو عقدين وهي فتراتٌ قياسيّة إذا ما قورنت مع الأسرى في تجارب تحرريّة أخرى، وهو ما يعني أنّ سنوات الأسر الطويلة، تُمثّل عاملًا موضوعيًّا لنضوج الأسير وتطوّر ذائقته وأسلوبه، وتراكم من ثقافته وتسمح ببروز ظواهر إبداعية على هذا الصعيد.

وكما أسلفنا، صدرت عشرات المؤلّفات لأعدادٍ من الأسرى في السنوات الأخيرة، حيث حظي الكثير من هذه الإصدارات باهتمام القرّاء والنقاد، ونظمت عشرات الفعاليات الثقافية للاحتفاء بهذه الكتابات. ومن هنا يتعيّن علينا أن نسجّل تثمينًا أوّلًا لمجمل كُتّاب الأسر وأدبائه، الذين أسهموا في إثراء الثقافة الفلسطينية، ولإبراز هذا الشكل من الأدب وتطويره. كما وينبغي تثمين الدور الذي أدّته بعض المؤسّسات الوطنيّة، ودور النشر والعديد من الناشطين متابعة قضايا الأسرى، خاصّةً في الميدان الأدبي والثقافي، وقدّموا يد المساعدة والإسناد والتشجيع. ويُسجّل أيضًا التقدير للأقلام النقديّة التي تفاعلت مع أدب السجون، فكتبت عنها وأبرزت للقارئ الكثير من عناصرها الفنيّة والجماليّة.

وفي المجمل سجّلت في السنوات الأخيرة، علامات فارقة في أدب السجون، شدّت الانتباه إليها من جانب القراء والنقاد والمهمتين. وبهذا يمكننا أن نقول: إن هنالك تطوّرًا في الإنتاج الأدبي والثقافي في السجون قياسًا بعقودٍ سابقة.

ومن زاويةٍ أخرى يتعيّن علينا الاعتراف، بأن هنالك العديد من الثغرات ومواطن الضعف التي تكتنف بعض الإصدارات التي جرى إطلاقها، وتبيّن أنّها لا تلامس شروط الأدب ولا الإبداع في كثيرٍ من وجوهها.

وعليه، فإنّه لا يمكننا تصنيف العديد من هذه الإنتاجات واعتبارها تنتمي للأدب؛ لأنّ بعضها يتسم بالضعف والركاكة والاختزال في الأسلوب واللغة والرسالة، فضلًا عن ضحالةٍ في مستواه الفني.

ولعلّ أبرز ما يمكننا تسجيله في هذا الإطار، هو بروز ظاهرة آخذة بالاتساع في السجون، تَتمثّل في رغبة الكثيرين في إصدار كتاب أو رواية من دون أن تتوفر لديه الإمكانات الثقافية أو الملكات الأدبية اللازمة لتحقيق مثل هذه الرغبة.

وأنا شخصيًّا أعرف معظم كتاب الأسر المعروفين ممن لديهم نصيبٌ من الإبداع. وشهدت على تطور الكثير منهم على صعيد تطوير ملكته الأدبية، ولكن الإشكالية أنّ ثمة فئة أخرى تنتمي للنمط الاستعراضي ولا يهمها سوى إصدار كتابٍ بأي ثمن.

فثمة أسرى دخلوا السجن شبه أمّيين ولا يزالون يعانون من إشكالية في الكتابة والقراءة وتحصيل الثقافة، نجد بعضهم يصرّ على إصدار كتاب، ونشهد الاحتفاء بمثل هذا الإصدار على شاشة التلفاز، ويحتفي صاحب هذا الإصدار الضعيف، ويصرّ البعض منهم على العمل على إصداراتٍ أخرى.

وكما يعرف الجميع، فهذا الشكل من الكتابة لا يمكن تصنيفه على الأدب، كما ولا يخدم الثقافة الوطنيّة التحرريّة، إنما يسيء إليها.

ومن تجربة شخصية، وطوال أكثر من عشرين عامًا أمضيتها في السجن، توجه إليّ العشرات من الأسرى، وقدموا لي كتاباتهم؛ بهدف الاطلاع والتقييم، فبعضهم كان مبدعًا يُعبّر عن ملكةٍ أدبيّةٍ ناضجة لـ(الرواية، القصة، الشعر، الخاطرة...) وبعضهم كان واعدًا يحمل بذورًا إبداعيّة، وكان يتعيّن عليّ حينها تشجيع بعضهم ومساندتهم ورعايتهم. وهناك من توجّه وعرض عليّ كتاباته، التي كانت تنطوي على عيوبٍ قاتلة. وكنت صريحًا مع أصحابها بأنّها لا تصلح للنشر.

ونصحت الكثيرين منهم بضرورة الالتفات إلى أشياء أخرى، كالتعليم الجامعي والمطالعة التي من الممكن أن تسمح مع الوقت بتطوير ملكة الكتابة. فمنهم من أصغى لهذه النصيحة، ومنهم من عاند بكبرياء مصرًّا على إصدار كتاب، وبالرغم من أنّ بعض هذه الكتابات قد صدرت ورأت النور غير أنّها لم تحظَ باهتمام القرّاء.

أما الإشكالية الثانية التي يعاني منها أدب السجون، فتتمثّل بقلة الاهتمام الكافي من قبل المؤسسات الوطنية ودور النشر بإصدارات الأسرى وكتاباتهم، خاصةً تلك المعروفة بجودتها وصلاحيتها للنشر. كان ثمة تقصير كبير من الجميع مع أنّنا نعترف بأنّ ثمّة تغييرًا إيجابيًّا وبطيئًا نحو الاهتمام بإبداعات السجون. 

أما الإشكالية الثالثة والأهم، فتتعلق بالمهمتين بأدب السجون. فمع الاحترام والتقدير للكثير من القامات العالية والجهود المخلصة من نقادٍ وأدباء ومثقفين، الذين قَدمّوا يد المساندة، ولم يبخلوا في المتابعة والكتابة النقديّة والمساعدة في الإصدارات، وهم جلّهم معروفون في الساحة الثقافية ومشهود لهم بالأمانة والالتزام الوطني والإخلاص لقضية الأسرى.

ولكن ثمة من هم دخلاء ومتطفلون على أدب السجون، ومنهم من يسمون أنفسهم بمتخصصين بأدب السجون، وقسم منهم لا يعرفون إلا النزر اليسير عن الإصدارات المهمة التي صدرت من السجون. ومنهم المتسلقون والباحثون عن فرصة للبروز الإعلامي والمشاركة في الفعاليات الثقافية وركوب موجة أدب السجون.

وأود الإشارة إلى حالتين من هؤلاء المتطفلين. أحدهم ناشط بمبالغةٍ لافتة في الفعاليات الثقافية الخاصة بأدب السجون، وصار مهووسًا بكتابة المقدمات باسمه الشخصي لعددٍ كبيرٍ من الإصدارات، والاتصال بالعديد من الأسرى لحثّهم على الكتابة وإرسالها له حصريًّا ليتولى كتابة مقدّمة لها، والمساعدة في نشرها، وتنظيم حفل إطلاق استعراضي لهذه الإصدارات، يكون هو نجمه الرئيسي، والتوقيع نيابةً عن الأسير على الإصدار. واكتشفت أنّه لا يقرأ هذه الإصدارات، إنما يكتفي إما بإلقاء نظراتٍ سريعة عليها أو تصفحها. لكن الطريف في الأمر، وهو بعد صدور الكتابات أصبح هذا الناشط يحتفي بالتقديم الذي كتبه للرواية أو الكتاب أكثر من الاحتفاء بالعمل الأدبي ذاته، وهكذا تصبح المقدّمة وصاحبها أهم من الكتاب وصاحبه.

أما الحالة الثانية، فهو ناقد وشاعر متوسّط غير معروف على نطاقٍ واسع في الساحة الثقافية. وقد ربطني به شكل من الصداقة عن بعدٍ امتدت لأكثر من عامين. وكنت بصدد إصدار كتاب نقدي يتضمن تسع دراسات نقديّة شعريّة، وطلبتُ منه أن يدقّق لغويًّا هذه الدراسات، ويتكرّم بكتابة تقديم للكتاب.

وبعد صدور الكتاب ووصوله إلى السجن، صدمت حين اكتشفت أنّه لم يقرأ أيًّا من هذه الدراسات، وعثرت على نحو 200 خطأ مطبعي، مكتفيًا بكتابة التقديم للمادة وحسب. وعندما اتصلت به معاتبًا إياه بمودّةٍ عن هذه الأخطاء، ثارت نرجسيّته وأبدى غضبه وقرّر قطع العلاقة.

لكن المفارقة الأدهى أن هذا الرجل تحمس لتدقيق رواية لأسير آخر، وحين وصلت الرواية إلى السجن، عثرنا بداخلها على 60 خطأ مطبعيًّا، وكان اسم هذا الناقد مسجّلًا على أنّه هو من قام بالتدقيق اللغوي للرواية، لنفاجَأ بعد أكثر من عام، بقيام هذا الناقد بنشر مقال يتهم فيه إحدى الناقدات المشهود لهن بالاستقامة والنزاهة، بأنها هي من دققت الرواية، وتركت هذا العدد من الأخطاء المطبعيّة، فنشرت هذه الناقدة تصريحًا تنفي من خلاله معرفتها بالأسير ولا بإصداره الأدبي. وهو ما ينطبق عليه المثل العربي الشهير (رمتني بدائها وانسلت).

والسؤال المطروح: كيف يمكننا استئمان أدب السجون عند مثل هؤلاء الأشخاص الذين يفتقدون للأمانة والنزاهة والمسؤولية الوطنية والأخلاقية؟ والغريب أن حالة هذا "الناقد - الشاعر" تنطوي على الأمراض الثقافية الأربعة المشار إليها في الحلقة الثامنة: النرجسية، البارانويا، الشيزوفرينيا والميوعة الثقافية.

إنّ التسابق والتنافس على إصدار إنتاجات الأسرى والاحتفاء بها، على نحوٍ استعراضي، على النحو المشار إليه في المثالين السابقين، لا يخدم أدب السجون ولا يسمح بتطويره، لكن الأهم من كل ذلك هو إبداع الأسير ذاته. فإذا كان هذا الإصدار يحمل بين طيّاته إبداعًا لافتًا، فإنّ هذا الإبداع هو جواز المرور الحقيقي للانتشار والتقييم الإيجابي، عندها سيخترق جدران السجن، ويصل إلى أي مكان، وليس جهود فلان أو علان ممن أسهموا بإصداره وإطلاقه (مع التقدير للجهود التي تُبذل للمساعدة في الإصدارات) فكتاب الأسر من المبدعين يعرفون قيمة ما يكتبون، لذا فإنّهم لا يخشون على كتاباتهم حتّى وإن تأخّر موعد صدورها بعضًا من الوقت. أما المزاحمة والاستعجال والتسابق على الأضواء من جانب بعض المتطفلين على أدب السجون، فهو أمرٌ منفّر ومبتذل، بحيث يصبح الاحتفاء بتقديم الكتاب أو بصاحب المبادرة لتنظيم حفل إطلاق الكتاب أهم من الكتاب ذاته ومن صاحبه الأسير.

إنّ أدب السجون يحمل بذورًا واعدة، ويجب أن نشجع الجميع على الكتابة، وأن نهتم بالحالات الإبداعية. وفي الوقت ذاته يجب ألا نسمح لأنفسنا بتضخيم مزايا تلك الكتابات، ولا بتضخيم عيوبها. وما يمكننا قوله في هذا الإطار إنّنا شعبٌ يخوض معركته التحرريّة الشاملة، ومنها الثقافيّة، في مختلف الساحات، ومنها ساحات السجون. فإذا كان ثمّة عيوب تعتري بعض من كتابات الأسرى فلا يجوز أن تَتحوّل إلى مادةٍ للتقليل من قيمة أدب السجون، وفي الوقت ذاته لا يجوز نفخ تلك الكتابات وإظهار بعض مزاياها الصغيرة، مجاملةً أو تعاطفًا مع الأسير، ولنترك للنقد الموضوعي مهمّة إبراز مالها وما عليها.

المهم أن نركز في معركتنا الثقافية على الأقلام المبدعة التي يمكنها أن تصبح سيفًا للمبارزة، أو ذخيرةً في الاشتباك الثقافي، أو وسامًا نتباهى به بين الأمم.

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والكاتب والأديب والشاعر، والمفكر الفلسطيني كميل أبو حنيش