بقلم الأسير: كميل أبو حنيش

سقط الزند.. وسقط المتاع مساهمةٌ في نقد الثقافة الفلسطينيّة الراهنة "الحلقة الثامنة"

كميل أبو حنيش.jpg

خاص_مركز حنظلة

الحلقة الثامنة: أمراضُ الثقافةِ والمثقّفين

لكلِّ ثقافةٍ مزاياها وعيوبُها وأمراضُها، ولا تكاد أيُّ ثقافةٍ إلا وتشهد حالةً من حالات الازدهار والانحطاط. أما الأمراض الثقافية فمنها ما هو طارئ، ومنها ما هو مزمن، ومنها ما هو فتّاك يبدأ بالتغلغل في نسيج الثقافة الوطنيّة، لتبدأ هذه الثقافة بالتحلّل التدريجي، ومن ثَمَّ الموت والاندثار. وقد شهد التاريخ على اندثار عشرات الثقافات والحضارات التي لم يتبقَ منها سوى آثارها الدارسة، لكن الثقافات المنيعة التي تصاب بأمراضٍ عرضيّة، فإنّها تعمّر طويلًا، حتى وإن شارفت على الاندثار فإنها تترك بصماتها وجيناتها، إذا صحّ التعبير، في ثقافاتٍ أخرى تلاقحت معها وتظلّ هذه الجينات شاهدةً على عراقتها وأصالتها.

ثمّةَ عواملُ عديدةٌ تجعل من الثقافة إمّا منيعةً وقويّةً وإمّا ضعيفةً وقابلةً للتفكّك، وهذه العوامل معقّدة لا يمكن تحديدها بأشكالٍ معيّنة، وتحتاج المسألة إلى دراساتٍ معمّقة تأخذ في حسبانها بيئة كلّ ثقافة وأسسها وظروفها التاريخيّة وعلاقتها بالثقافات الأخرى.

لكنّها في كلّ مرحلةٍ تاريخيّة عرضة للإصابة بالأمراض والانتكاسات وتشهد لحظات من التطوّر وأخرى من الهبوط.

والحالة الثقافيّة الفلسطينيّة ليست استثناءً عن سائر الثقافات العالميّة، فهي الأخرى لها جذورها التاريخيّة ولها لحظات ازدهارها ولحظات انحطاطها، ولها أسسها وآفاقها ونقاط قوّتها ونقاط ضعفها، ولها أيضًا أمراضها، لا سيّما في مرحلتها التحرّريّة، وهذه الأمراض برأينا أمراضًا عرضيّةً وليست مزمنة، وبالإمكان علاجها إذا ما قارناها مع بعض الأمراض التي نجد لها تعبيرات مرعبة لدى بعض الثقافات الأخرى، كالعنصرية وإرهاب الأجانب والعدوانيّة للثقافات الأخرى والتعالي عليها.

ولا يجوز للثقافة الوطنيّة في مرحلة التحرر الوطني أن تشهد حالات مرضية مزمنة؛ لأنها ستكون عرضة للتفكك والاندثار، خاصةً وهي تواجه ثقافة معادية تسعى بكل قوتها إلى زعزعة أسس هذه الثقافة ووأدها.

وما سنشير إليه بعد قليل من أمراضٍ عرضية يمكن ملاحظتها في الحياة الثقافية الفلسطينية، مع التنبيه إلى أنها قد لا تُمثّل حالة عامة، ولا حتى تسميتها بأمراض، وقد يصلح أن تسمى بأعراض أو نزعات، ولكن من الجيد التنبه إليها قبل استفحالها، وحتى لا تصبح شكلًا أو حالةً مرضيّةً سائدةً في الثقافة الفلسطينيّة، ويمكننا أن نصنفها إلى أربعة أمراض أو أعراض:

أوّلًا: النرجسيّة الثقافيّة:

وهي تعني حالة من الانبهار والتقديس المرضي للذات الثقافية بشقيها العام والخاص؛ إذ يوجد لدينا نوع من تقديس الذات الوطنية والمبالغة في إنجازاتها الثقافية والحضارية العالمية؛ أي مركزية الثقافة الفلسطينية في الثقافة العالمية. ونشهد مثل هذه النزعة في كتابات بعض الكتّاب أو في الخطاب الثقافي الرسمي، كالتشديد على ما قدمته الثقافة الكنعانيّة/ القرطاجية للعالم (الأبجدية، الثورة الزراعية، ركوب البحر، الأديان والمعتقدات كاليهودية والمسيحية، التجارة العالمية، المدن العريقة...الخ) ومع أن هذه المعالم البارزة تشهد لهذه الثقافة ما قدمته من إنجازاتٍ غير أننا يجب ألا ننسى ما قَدّمته الثقافات والحضارات الأخرى في العالم، وكذلك يتعيّن علينا ألا نَحوّل هذه العناصر إلى حالةٍ مرضيّة، ليس من الجيد الإكثار من تردادها.

ومن ناحيةٍ ثانية، وهو الأهم، تفشي حالة النرجسية الثقافية لدى الكثير من الكتّاب والشعراء والفنانين.. الخ الذين يرون صورة إبداعاتهم الشخصية وكأنها الأجمل والأبهى والأفضل، ويظلون يتحدثون عنها، وعن ذواتهم المتميزة، وكأنهم مركز الثقافة الفلسطينية، فنجدهم ممعنون بامتداح أعمالهم والحديث الدائم عنها وكأنها تصلح مرجعيّةً لكلّ شيء، وأنّها الدواء للعلل والأمراض كافةً. فكتاباتهم ومقابلاتهم الإعلاميّة، شاهدة على انبهارهم المرضي بصورة ذواتهم الثقافيّة، ونجدهم استعراضيين، مصابين بالغرور ويبحثون دائمًا عن الأضواء، ونجد أن صدورهم ضيقة أمام النقد.

وقد شدّ انتباهنا محمود درويش، شعريًّا، لهذه الظاهرة في أكثر من نصٍّ شعري، وبالأخصّ قصيدة (مأساة النرجس وملهاة الفضة) فما لمسه درويش، وما أفصح عنه شعريًّا، يُعدُّ اختصارًا لحالتنا على الأصعدة كافةً، وبالأخصّ حالتنا الثقافيّة ومثقفينا ومبدعينا، فالنرجسيّةُ الثقافيّة شكلٌ من أشكال الضعف والنقص، وهي حالةٌ مرضيةٌ ينبغي أن نتخفف من بعض أحمالها؛ لأنها تضر بأصحابها، وكذلك إبرازنا للنرجسية في ثقافتنا الوطنية يضرّ بنضالنا الثقافي بين الأمم. أما تفسير مثل هذه الظاهرة، فإنّه قد يكون استجابةً أو محاكاة للنرجسية الصهيونية/ "الإسرائيلية"/ اليهودية التي ترى ثقافتها وتراثها مسألة مركزية في هذا العالم، ونحن في إطار صراعنا الطويل مع الصهيونية قد نكون أُصبنا بنوعٍ من العدوى والمحاكاة، فقد يلجأ العدو لتقليد عدوه من دون إرادة أو وعي، فطبيعة صراعنا المرير مع الصهاينة تفرض علينا مثل هذه النزعة في الدفاع عن ذاتنا الوطنية أمام وسائل القمع والطمس والسرقة والسطو الثقافي.

ثانيًا: البارانويا الثقافيّة:

مع أنّ الفارق قد لا يكون كبيرًا ما بين النرجسيّة الثقافيّة والبارانويا الثقافيّة، غير أنّ الأولى تعبير عن إحساس بأهميّة الذات من دون أن تشتبك مع الآخر أو ترتاب فيه. فيما الثانية التي يسمونها (جنون العظمة أو جنون الارتياب) فإنّها هي الأخرى إحساس عميق بأهمية الذات والارتياب من كل ما هو خارجها، علاوةً على حساسيتها المفرطة تجاه النقط.

فمن الناحية الثقافية العامة، تعزّز شكلٌ من أشكال البارانويا الثقافيّة، من خلال الإحساس المرضي بالعظمة الثقافية الفلسطينية والارتياب من المحاولات الرامية لاحتوائها من جانبِ الكثيرين في العالم، وبالأخصّ في العالم العربي، لكنّها تبدو أقلّ حدّة في صراعها مع الثقافة الصهيونيّة المعادية. ونجد أنّنا نبدو حسّاسين أمام النقد الذي يوجّهه الآخر لثقافتنا.

أمّا الحالات الثقافيّة الشخصيّة؛ أي الأدباء والشعراء والمثقفين والفنانين، فإنّ أعراض هذه الحالة المرضيّة تبدو جليّةً في أحاديثهم ومسلكياتهم وكتاباتهم فنجدهم يرتقون في أبراجهم العالية، ويسيجون ذواتهم بسياجٍ كهربائي، ويرتابون من كل حالةٍ ثقافيةٍ قد تبدو منافسةً لهم، ونجدهم يبدون شكلًا من التعصّب الأعمى تجاه إبداعاتهم، ومعاداة كل من يوجّه أي نقد لهم.

وتعد الارتيبابيّة أو البارونيا الثقافية مرتبطةً بالسياسة وتعقيداتها، وانعكاسًا لما يبديه السياسي من تخوّفات وارتياب في سلوك بعض الأنظمة العربيّة أو السياسات الدوليّة أو حتّى سلوك بعض المنظمات.

ثالثًا: الشيزوفرينيا الثقافيّة:

وتعني حالة الفُصام في الشخصيّة الثقافيّة على المستويين العام والخاص. فالثقافة الفلسطينية تشهد مثل هذه النزعات في الازدواجيّة الثقافيّة؛ نظرًا للظروف الموضوعيّة التي عايشتها وما زالت تعايشها وتتفاعل مع تطوّراتها. فنحن، مثلًا، حالةٌ وطنيّةٌ مزدوجةٌ بين مرحلة التحرّر الوطني ومرحلة ما يُسمى الدولة/ السلطة. فنجد ثقافتنا تتصرّف تارةً وكأنّها لا تزال في مرحلة الثورة، وتارةً أخرى وكأنّها أنجزت مشروع الدولة، كما أنّها تتصرّف تارةً بخطابٍ ثوريٍّ مقاوِم، وتارةً أخرى نجدها متساوقةً ومدافعةً عن مشروع التسوية ومفرداته. تارةً ضدّ التطبيع، وتارةً أخرى مؤيدة للتطبيع. ونجدها تجمع بين الالتزام وبين الانحراف. هكذا تبدو الثقافة الوطنية حمّالة أوجه، ومرتبكة في اختيار وجهها في زمن التحرر الوطني. وهو ما يظهر ثقافتنا أمام أنفسنا وأمام العالم بأنها ثقافة تعاني من الفصام في شخصيتها.

لكن ظاهرة الشيزوفرينيا الثقافية تبدو على نحوٍ أوضح لدى الأفراد وإبداعاتهم. فثمة مثقفون يؤيدون السلطة وتوجهاتها، وفي الوقت ذاته يعارضونها (كلام الليل يمحوه النهار) مع التطبيع وضد التطبيع في آنٍ، ويجمعون في الوقت ذاته بين التشدد والميوعة الثقافية، بين الالتزام والانحراف، بين التفاؤل والتشاؤم، بين الجدية والعبثية، بين التطرف في الثقافة والانبطاح في المواقف السياسية.

رابعًا: الميوعة الثقافيّة:

تتّسم الثقافةُ الوطنيّةُ في مرحلتها التحرّريّة بالصلابة والالتزام؛ لأنّها ببساطةٍ تكون منخرطةً في بناء الذات الوطنيّة وهُويّتها الثقافيّة، وتكون مشتبكةً في الوقت ذاته مع عدوّها الذي يحاول تجريدها من هُويّتها، وضرب أساساتها الثقافية. لذا فمثل هذه الثقافة المنخرطة في صراعٍ مزدوجٍ بين بناء الذات ومواجهة عدوّها، لا تجد نفسها مستعدةً للانخراط بما يمكننا أن نسميه "بالخلاعة الثقافيّة" أو "الثقافة الماجنة" أو "الميوعة الثقافيّة" بكلّ ما تنطوي عليه من نزعاتٍ عدميّةٍ سوقيّةٍ وابتذالٍ وهبوطٍ في الذوق والشكل والمحتوى والبحث عن الإثارة الرخيصة والسطحيّة والشعبويّة.

وقد اتّسمت ثقافتنا التحرريّة في زمن الثورة بالصلابة والالتزام، فأظهرت الإبداع والمبدعين وما تركوه من بصماتٍ بارزةٍ على تطوّر الثقافة الوطنيّة.

وما إن ظهر مشروع التسوية والانتقال إلى مرحلة تأسيس الدولة/ السلطة، حتى بدأ المشروع الثقافي يفقد صلابته لصالح حالةٍ من السيولة الثقافية لم تلبث أن تَحولّت مع الوقت إلى حالةٍ من الميوعة الثقافية، وذلك بعد سماحها بتعويم الثقافة - إذا جاز التعبير - وانفتاحها على مختلف التيارات الفلسفيّة والفكريّة والثقافيّة في العالم، باسم التعدديّة الثقافيّة، من دون أن نعي مخاطر هذا الانفتاح، ونحن ما نزال في طور البناء للذات الوطنية، ولانعكاساتها على مناعة المقاومة الثقافيّة.

ويمكننا أن نلمس بعضًا من مظاهر هذه الميوعة في الفنّ والأدب والشعر والرواية والقصّة والمسرح والموسيقى، ومهرجانات الثقافة الاستهلاكيّة الباذخة والاستعراضيّة ومهرجانات الغناء، وورش العمل "الارستقراطيّة" المموّلة أجنبيًّا.

لقد أسهمت عواملُ متنوّعةٌ في هذه الميوعة؛ أوّلها: الانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة ما يُسمى الدولة من دون إنجاز مهمّات الثورة، ولا تطوّر مشروع الدولة. وثانيها: العولمة وما تركته من تأثيرات أنماط حياة الشعوب وثقافتها. وثالثها: إفساد الثقافة بالمال الذي تدفّق على الساحة الفلسطينيّة، في خدمة أجنداتٍ خارجيّةٍ لا تخدم شعبنا، وهو يخوض معركته التحرّريّة. ورابعها: الانفتاح السريع على العدو، والشروع ببناء مشاريعَ تطبيعيّةٍ معه، من دون التدقيق في طبيعة تلك المشاريع وخطورتها.

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والكاتب والأديب والشاعر، والمفكر الفلسطيني كميل أبو حنيش