بقلم الأسير: كميل أبو حنيش

سقط الزند.. وسقط المتاع.. مساهمةٌ في نقد الثقافة الفلسطينيّة الراهنة "الحلقة السابعة"

كميل أبو حنيش.jpg

خاص_مركز حنظلة

الحلقة السابعة: المشروعُ الثقافيّ الوطنيّ والمشروعُ الثقافيّ الذاتي

ينطوي المشروعُ الثقافيّ لأيّ دولةٍ حديثةٍ على بعدين؛ الأوّل: داخليّ يسعى إلى صياغة الثقافة الوطنيّة، وإعادة إنتاجها وتطويرها، والتذكير بتاريخها وإسهاماته الماديّة والمعنويّة والروحيّة. والثاني: خارجيّ يهدفُ إلى ترويج الثقافة الوطنيّة بين الأمم، وشرح مضمونها بغيةَ إثراء التعاون الثقافي بين مختلِف الثقافات العالميّة.

وينطوي المشروع الثقافي الوطني أيضًا على العناصر التي تَتشكّلُ منها الهُويّة الوطنيّة، علاوةً على رؤية الدولة وخطابها، وما يمكنُ أن تقدّمه ثقافتها للعالم وللإنسانيّة.

بعبارةٍ أخرى يعدّ الخطاب الثقافي هو الوجه الجميل الذي ترغب أن تظهر به الدول وأسلوبها الناعم في الوصول إلى غاياتها السياسيّة والاقتصاديّة وتطوير علاقاتها الدوليّة.

فالمشروعُ الثقافي الذي تصوغه المؤسّسات الثقافيّة للدولة لا يُعبّر عن فردٍ أو فئةٍ أو طائفةٍ أو قوميّةٍ أو دينٍ محدّد، إنّما يُعبّر عن المكوّنات الاجتماعيّة والثقافيّة والدينيّة والطائفيّة والمذهبيّة كافةً، وأنماط الحياة والعادات والتقاليد والفنّ والأدب والمسرح والموسيقى والطعام والملبس والفلوكلور والتراث.. الخ، المتجسّدة في الواقع، وتظهر على شكل مجتمعٍ بأنشطته وفعاليّاته المختلفة. لذا فإنّ هذا المشروع يجبُ أن يظهر الفسيفساء الثقافيّة للمجتمع في سياقاته التاريخيّة المختلفة.

أمّا الأفراد المنتمون إلى عالم الثقافة، فإنّهم جزءٌ من نسيج الثقافة الوطنيّة، وثمرة لها في آنٍ واحد، يؤثرون ويتأثرون بها، يطورونها ويتطورون معها، ومهما بلغت إبداعاتها الثقافيّة الذاتيّة من منزلة، فإنّهم يولدون من رحم الثقافة الوطنيّة في كل مرحلةٍ تاريخيّة، لذا فإنّ إبداعاتهم لا تنفصل عن هذه الثقافات، وينبغي أن تكون إبداعاتهم جزءًا أصيلًا من المشروع الثقافي لأوطانهم.

وفي تجربة البلدان التي تتعرّض للاستعمار، وما تُسفر عنه السياسات الاستعماريّة من مخاطرَ على وجود الشعوب وثرواتها وطاقاتها الروحيّة والثقافيّة، ففي هذه الحالة إمّا أن يستسلم الشعب المستعمَر أمام ثقافة المستعمِر، وتقتبس كليًّا مجمل ثقافته متخلّيةً عن ثقافتها تمامًا، أو أن تتبنّى بعضًا من ثقافته ومظاهره الحضاريّة (التكنولوجيا، اللباس، العمران، النظام السياسي..) من دون أن تتنازل عن أسسها الثقافية (وهو ما حدث في معظم التجارب الاستعماريّة) وإما أن ترفض الشعوب المستَعمرة التعاطي مع ثقافة المستعمِر، وترفضها بالمطلق (وهذا احتمالٌ ضعيفٌ من ناحيةٍ واقعية).

وفي تجارب حركات التحرر الوطني، تلجأ هذه الحركات إلى مخزونها الثقافي، لتستنبط منه مشروعها الثقافي التحرري، وتسعى لتطوير الفن والمسرح والأدب والموسيقى والسينما.. الخ، وإحياء العناصر الإيجابيّة في تراثها (القيم الاجتماعيّة والأخلاقيّة، الرموز الوطنيّة والتاريخيّة والفكريّة..) لكنّها وأثناء نضالها ضدّ المستعِمر قد تستبطن أو تقتبس بعضًا من مظاهره الثقافيّة والحضاريّة، ولكن من دون أن تتنازل عن أسسها الثقافيّة، وبهذا فإنّ مشروعها الثقافي يبدأ بالتطوّر وفقًا لمعادلة: الماضي (إعادة إنتاج الثقافة والتراث) والحاضر (الاستفادة من منجزات المستعمِر الثقافيّة والحضاريّة) والمستقبل (رؤيتها وتصوّرها لمشروعها الثقافي بعد التحرير وإنجاز الدولة).

لكنّها في المرحلة التحرّريّة، ينطلق مشروعها الثقافي من عنصرين: الأوّل: عنصر التعبئة وبلورة شروط الحياة الثقافيّة للمجتمع، بما يتّسق مع مقاومة المستعمِر، أي بعبارةٍ أخرى ثقافة التحرير، وما تنطوي عليه من تعبئةٍ ثقافيّةٍ واجتماعيّةٍ وسياسيّة، والثاني: كيفيّة تقديم نفسها أمام العالم؛ بهدف استقطاب تأييد الشعوب لنضالها، بعبارةٍ أخرى شكل ومضمون الخطاب الموجّه للعالم.

إنّ الشعوب التي تحرّرت من الاستعمار بفضل كفاحها، لم تهمل العامل الثقافي في المعركة التحرريّة، نظرًا لأهميّته في تجريد المستعمِر من مزاعمه الحضاريّة والثقافيّة، وبفضح أساليبه التدميرية أمام العالم، ولا يمكن الانتصار في المعركة الثقافيّة من دون الإسناد العالمي وثقافته الإنسانيّة، التي في الغالب تكون منحازةً للشعوب المستعمَرة.

أمّا في تجربتنا التحرريّة الفلسطينيّة، فيمكننا القول: إنّه لم يكن هنالك مشروعٌ ثقافي قبل مرحلة النكبة، مع أن النكبة شَكّلت قطعًا مع إمكاناته الواعدة منذ بدايات القرن العشرين على الأقل؛ فالمشروع الثقافي التحرري قد بدأت إرهاصاته الأولى بالتطوّر في مرحلة ما بعد النكبة بظهور أعدادٍ من الأدباء والشعراء والمفكرين، لكنّه أخذ بالتبلور مع انطلاق الثورة المعاصرة بعد نكسة عام 1967، وهيمنة فصائل الثورة على منظّمة التحرير الفلسطينيّة.

كانت المهمّة الرئيسيّة لحركة التحرّر الفلسطينيّة، بشقيها السياسي والثقافي مكرسة لإحياء الهُويّة الوطنيّة الفلسطينيّة، وما تنطوي عليه من عناصر تاريخيّة، لمواجهة الرواية الصهيونيّة - اليهوديّة، ويمكننا الادّعاء أنّ هذه المهمّة قد تكلّلت بالنجاح.

لكنّها لم تكن كافية؛ فالبرغم من النجاحات المتحقّقة على صعيد صياغة وبناء المشروع الثقافي، لكنّه تطوّر دون استراتيجيّات، وسار جنبًا إلى جنب في موازاة الفعل الثوري الكفاحي، فارتقى مع ارتقائه وانتكس مع انتكاسته.

من ناحيةٍ ثانية، لا يمكن التقليل من شأن ما أدّته الثقافة التحرّريّة في مرحلة الثورة، في مخاطبة العالم والتأثير الإيجابي في العديد من التوجّهات الثقافيّة العالميّة، وكذلك في استقطاب المئات من الكُتّاب والأدباء والشعراء والمفكرين والمثقفين، وزجّهم في المعركة التحرريّة.

إذن؛ فكان ثمّة مشروع ثقافي، لكنّه بقي متأثّرًا بالظروف التي عايشتها الثورة، وصولًا إلى مرحلة التسوية، لقد كشف مشروع التسوية، عن ضعف المشروع الثقافي الفلسطيني الذي تَحوّل سريعًا من مشروعٍ تحرّريٍ ثوري، إلى مشروعٍ سلطويٍ خاضعٍ لشروط المرحلة وقيودها وخطابها.

حيث إنّ تداخل مرحلة التحرر الوطني بمرحلة تجسيد السلطة، ترك المشروع الثقافي الفلسطيني في حالة من الإرباك والتشوّه، واصفًا إيّاه أمام تحدٍّ مزدوج.

فهو من جانبٍ يتعيّن عليه أن يظهر مشروعًا تحرّريًّا طالما لم تنجز عمليّة التحرير بعد. ومن جانبٍ آخر وقع على عاتقه مهمّة بناء مؤسّسات الدولة العتيدة، لكنّه أخفق في كلا المهمّتين: فهو لم ينجح في البقاء مشروعًا تحرّريًّا بذات شعاراته ومهمّاته التي ميّزته في زمن الثورة، ولم ينجح في تطوير المؤسّسات الثقافيّة لتصبح مؤسّسات دولة، وذلك لأنّه بقي محكومًا بسقف التسوية وشروطها وآفاقها الضيّقة، وإمكاناتها المحدودة.

ونتيجةً لهذه الأزمة اتّسم المشروع الثقافي مرحلة التسوية بالضعف والانقسام، وخضوعه لخطاب السلطة السياسي من دون أن يتسم بالاستقلاليّة النسبيّة.

لكن أخطر ما يعاني منه المشروع الثقافي الفلسطيني، يَتمثّل في خضوعه للتمويل الأجنبي، أو على الأقل خضوع قسم مهمّ من مؤسّساته وفعاليّاته وأجنداته لمثل هذا التمويل، وهو ما يضر بالضرورة مع المهمّات التحرّريّة في هذا المشروع، فقد ازدهرت المؤسسات والمهرجانات والفعاليات الثقافية المموّلة أجنبيًّا بعد انطلاق مشروع التسوية، ولم يعد المشروع الثقافي السلطوي الذي يعد نفسه وريثًا للمشروع الثقافي التحرّري قادرًا على احتواء مثل هذه المؤسسات والأنشطة المموّلة أجنبيًّا أو تقليص تأثيراتها المضرة، ولا حتّى قادرًا على التأثير بأجنداتها ومساراتها وتوجهاتها، فازدهرت ثقافة التسوّل والاسترزاق، واتّسعت ظاهرة "القطط السمان" في الحياة الثقافيّة الفلسطينيّة، فتراجع تأثير الثقافة الوطنيّة لصالح تيّاراتٍ ثقافيّةٍ خارجيّةٍ أخذت تغزو الساحة الثقافيّة، وتركت أثرها على الآداب والفنون، وأنمطة الحياة الاجتماعيّة، وحلّ المشروع الثقافي الذاتي مكان المشروع الوطني التحرّري، وسادت الثقافة النفعيّة والمزايدات والتنافس المبتذل بين المثقفين، وجرت عملية حصار المثقفين والمبدعين المعارضين للتسوية، وحُجبت أصواتهم، واعتُقل الكثيرون منهم، وأصبح الثقافي خاضعًا تمامًا للسياسي ولشروط المرحلة وقيودها.

وبهذا تقزم المشروع الثقافي مع الوقت، وصار مطلوبًا من الثقافي أن يبرّر سلوك السياسي وممارساته، ويبحث له عن مخارج نظريّة تسوغ له مسلكيّاته، بدلًا من أن يكون ناقدًا ومصوبًا لأخطاء السياسي؛ فانحدرت الثقافة، وشحّ الإنتاج الثقافي، وانخفض منسوب الإبداع، وأصبحت العمليّة الثقافيّة أكثر استعراضيّة تبحث عن الشكل على حساب المضمون.

ومن ناحيةٍ ثانية، فإنّ تعدّديّة المؤسّسات الثقافيّة الرسميّة، التي يسود بينها التنافس والتناقض والتداخل في الصلاحيات والأهداف، والتشابه في الأنشطة والسياسات والفعاليات لا يعكس أيّة قوّة للثقافة الوطنيّة، إنّما يعكس أزمة المشروع الثقافي الوطني.

ولعلّ إحدى سمات هذه المرحلة، تَتمثّل ببروز المشروع الثقافي الذاتي الذي في كثيرٍ من حالاته يتعارض مع المشروع الثقافي التحرّري، ولا يتقاطع معه البتة. وتحمل مثل تلك المشاريع الذاتيّة سمتين، واحدة إيجابيّة والأخرى سلبيّة. أما الإيجابيّة، فإنّها تنطوي على اتّساع ظاهرة المبدعين الذين تطوّروا بإمكاناتهم الذاتيّة وآثّروا الثقافة الوطنيّة بإنتاجاتهم، وتعكس أيضًا مسؤوليّةً وطنيّةً لدى أصحاب هذه المشاريع، التي من شأنها أن تخدم الثقافة الفلسطينيّة على الأصعدة المحليّة كافةً، والعربيّة، والعالميّة.

أمّا السلبية، فإنّها تعكس أزمة المثقف الفلسطيني واغترابه وإحساسه بالملاحقة والإقصاء، وكذلك تعكس نرجسيّة بعض المبدعين الذين يصنعون لأنفسهم أبراجًا عاجية، ويتعالون على الثقافة الوطنية، ويحلق البعض منهم بفضاءات لا تخدم عملية التحرر الوطني.

وفي الوقت ذاته تعكس أزمة المؤسسات الثقافية التي لا تسعى إلى احتضان المبدعين، والأخذ بيدهم والاستثمار بهم وبإبداعاتهم في خدمة المشروع الثقافي الوطني التحرّري.

وبالرغم مما يتّسم به المشروع الثقافي الذاتي من خصائص (الإبداع والتحرّر من أي قيدٍ سياسي أو أيديولوجي..) غير أنّه يظلُّ ذاتيًّا ما لم يتواشج مع المشروع الثقافي الوطني.

وحتّى يكون لدينا مشروعٌ ثقافيٌّ تحرّريٌّ متماسكٌ ينبغي العمل وفقًا للخطوط الآتية:

1. ينبغي استنهاض الطاقات الثقافيّة الوطنيّة كافة، وإطلاق حوارٍ ثقافيٍّ يشملُ الفلسطيني في كلّ مكان، لصياغة محدّدات المشروع الثقافي التحرّري.

2. تطوير المؤسّسات الثقافيّة الوطنيّة، لتشرع في بناء البنية التحتيّة للمشروع الثقافي والتأسيس لمرحلة الدولة (مسارح، معاهد موسيقيّة، متاحف، دور نشر، مطابع، مراكز أبحاث، شركات إنتاج فني، مكتبات، دور للسينما، مدرجات، نوادي ومنتديات.. الخ).

3. إعادة صياغة الرواية الفلسطينية وتطويرها لتشمل التاريخ الفلسطيني وإسهاماته الثقافية والحضارية، جنبًا إلى جنبٍ مع مواصلة تفنيد الرواية الصهيونيّة، وصولًا إلى تفكيكها.

4. بناء خطاب ثقافي فلسطيني جديد (كما وُردت محدّداته في الحلقة السادسة من هذه السلسلة) لضمان إيصال الرواية الفلسطينيّة إلى المستوى والمكانة اللائقة عربيًّا وعالميًّا.

5. تحرير هذا المشروع من أيّةِ نزعاتٍ أيديولوجيّةٍ أو حزبيّةٍ أو توجّهاتٍ سياسيّة، ليغدو مشروعًا وطنيًّا جامعًا.

6. استنهاض الطاقات الثقافيّة الفلسطينيّة في الشتات لتأخذ دورها في تَحمّل مسؤوليّاتها على الساحة العالميّة.

إنّ استنهاض الحالة الثقافيّة الراكدة، وإعادة تنظيمها وتنقيتها من الشوائب والمشاحنات، واستنفار الطاقات الثقافيّة الفلسطينيّة كافةً في كلّ مكانٍ من شأنه أن يُشكّل البداية في إعادة بناء المشروع الثقافي الفلسطيني التحرّري.

أمّا الاستمرار في جلد الذات، ومواصلة الحديث عن انحطاط الثقافة الفلسطينيّة، وإسقاط الفشل حتى على المظاهر الإبداعيّة، فإنّ هذا المناخ لا يخدمنا، وسيزيد الطين بلّة.

ينبغي أن نبادر ونحاول ونقرع الجرس باستمرار دون كللٍ أو ملل.

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والكاتب والأديب والشاعر، والمفكر الفلسطيني كميل أبو حنيش