بقلم الأسير: كميل أبو حنيش

سقط الزند.. وسقط المتاع.. مساهمةٌ في نقد الثقافة الفلسطينيّة الراهنة "الحلقة السادسة"

كميل أبو حنيش.jpg

خاص_مركز حنظلة

الحلقة السادسة: الخطابُ الثقافي التحرّري

يُعدّ الخطاب الثقافي لأيّةِ أمّةٍ أو شعبٍ هو وجهها الذي تظهر به أمام الأمم الأخرى، ومن خلال هذا الخطاب تبرز الأمم مضمون ثقافتها، وما يميّز هذه الثقافة عن بقيّة الثقافات الأخرى ومحاور التلاقي معها، والجسور التي من الممكن أن تبنى ليتاح للثقافات أن تتلاقح، ويتضمّن أيضًا ما قَدّمته الأممُ في تاريخها من إنجازاتٍ ثقافيّةٍ وحضاريّةٍ للإنسانيّة، وما يمكنها أن تقدّمه، لذا فالخطابُ الثقافي ينطوي على مكوّناتٍ إنسانيّةٍ عامة، حتى يمكنه التلاقي مع الثقافات الأخرى علاوةً على أنّه ينبغي أن يتّسم بالعقلانيّة والتقدّميّة.

فميزةُ الثقافة الأساسيّة أنّها إنسانيّةٌ وعالميّةٌ وليس بوسع أيّة أمّةٍ احتكارها، وبإمكان أيّة أمّةٍ أخرى اقتباس بعض مظاهرها والتعلّم منها.

هكذا تلاحقت ثقافات الشعوب بعضها بعضًا في التاريخ، وانتقلت الفنون والأديان والآداب والعلوم ومظاهر الحضارة.. الخ.

وفي تجربة الشعوب التي تعيش مرحلة التحرّر الوطني، تَتحّول المهمّةُ الثقافيّةُ إلى عبءٍ ثقيلٍ ينبغي على حركة التحرّر حمله، والسعي لتطويره حتى يكون بمقدوره القتال على ثلاث جبهات؛ الأولى: إعادة إنتاج الثقافة الوطنيّة وحمايتها من الطمس والتشويه. والثانية: مقارعة الثقافة المعادية، والبحث عن أيةِ وسيلةٍ أو شكلٍ جديدٍ في مواجهتها. والثالثة: صياغة خطابها الذي تخاطب فيه العالم. وتعدّ هذه المهمّات الثلاث من أصعب ما تواجهه حركة التحرّر؛ لأنّ كلّ مهمّةٍ منها تحتاج إلى جهودٍ جبّارة لإنجازها.

وفي التجربة التحرّريّة الفلسطينيّة في العقود الستة الأخيرة، تكلّلت جهود حركة التحرّر بالنجاح في إحياء الهُويّة الوطنيّة الفلسطينيّة ومضامينها الثقافيّة المتنوّعة في سياقاتها التاريخيّة. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ جابهت الثقافة الفلسطينيّة الناشئة الثقافة الصهيونيّة، وإن بظروفٍ موضوعيّةٍ مجافية، لكنّها أحرزت نجاحاتٍ مهمّةً في إبراز الرواية الفلسطينيّة، ومن ناحيةٍ ثالثةٍ أمكنها بناء خطابٍ ثقافي موجّه للعالم، وإن على نطاقٍ محدّد، وكان يتقدّم تارةً، ويتقهقر تارةً أخرى، ارتباطًا بالتحوّلات الداخليّة والإقليميّة والعالميّة.

ويمكننا أن نضيف في هذا الإطار: رغم تطوّر خطابنا الثقافي منذ انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، ووصوله إلى الميدان العالمي؛ بفعل بلاغة القضيّة الفلسطينيّة، إلا أن هذا الخطاب ما يزال عاجزًا عن تسويق ذاته، إما بسبب الحصار الذي تفرضه الدوائر الصهيونيّة وحلفاؤها في العالم، وإما لافتقاده الكثيرَ من الإمكانات الماديّة والسياسيّة التي يتمتّع بها المشروع المعادي. وإمّا نتيجةً لعواملَ ذاتيّةٍ مرتبطةٍ بإحجام قيادة حركة التحرّر الفلسطينيّة من إيلاء هذا الجانب الاهتمام الكافي، واكتفت بالخطاب الثقافي ذي الديباجات السياسية المعروفة؛ إذ يتسم هذا الخطاب بالبكائيات وتقمص دور الضحية العاجزة، واستجداء التعاطف العالمي. ومن ناحيةٍ ثانية، يبدو خطابًا انفعاليًّا واستعراضيًّا في بعض محطّاته، وأحادي البعد؛ إذ صحّ التعبير في محطّاتٍ أخرى (مواجهة التطبيع مثلًا) فضلًا عن أنه يتسم بالارتباك والهشاشة والبساطة والاختزال في محطّاتٍ أخرى، لكن أبرز ما يعيبه أنّه يحاول محاكاة الخطاب الصهيوني في البكائيّات (النكبة مقابل الهولوكوست، التاريخ الكنعاني مقابل التاريخ التوراتي، تبرير العنف الثوري إزاء العنف الصهيوني، المأساة الفلسطينيّة التاريخيّة إزاء المأساة اليهوديّة التاريخيّة...).

لكن أخطر ما يُميّز هذا الخطاب في المرحلة الراهنة، يَتمثّل في هلاميّته في مرحلة التسوية؛ بسبب تخلّيه عن الكثير من مفرداته التي كانت بمثابة ذخيرته الحيّة في زمن الثورة، وأصبح هذا الخطاب مسقوفًا بسقف التسوية وشروطها.

وعليه، فإنّ النسق الداخلي لهذا الخطاب ينطوي على خطابين لا خطاب واحد: خطاب ثقافي ثوري، وخطاب ثقافي سلطوي، الأوّل جرى تفكيكه والتخلّي عنه، والثاني تجري عمليّة مواءمته مع شروط المرحلة الحالية، وبهذا بات خطابًا تملؤه الفجوات والثقوب.

أما الخطاب الثقافي الصهيوني، وبالرغم من أنه يبدو سائدًا ومؤثّرًا وقويًّا في بعض المحطّات، إلّا أنّه يعاني من فجواتٍ وثقوبٍ خطيرة، فنسقه الداخلي يبدو ذاتيًّا صرفًا يُركّز على المزايا والمآسي اليهوديّة، ويفتقد للمضمون الإنساني، ويبدو كذلك خطابيًّا دعائيًّا وعصبويًّا واستعراضيًّا وانفعاليًّا، ويتكئ على القوّة والتهديد، وبكائيًّا؛ إذ يجري التركيز على تقديس الهولوكوست وتقديمه على أفظع مأساةٍ إنسانيّة حدثت في التاريخ، وأنّ غير السامية مقتصرة على اليهود، وأنّ المأساة اليهوديّة التاريخيّة ليست لها نظر في التاريخ، ويتسم هذا الخطاب أيضًا بالمراوغة والتضليل وطمس الحقائق، علاوةً على عدوانيّته البارزة، لذا فإنّ عوامل قوّته هي ذاتها عوامل ضعفه، ما يعني إمكانيّة الضغط عليه وملاحقته وفضحه وتفكيكه وتقويض أساساته.

وإذا أردنا أن نبني خطابًا ثقافيًّا تحرّريًّا يتصدّى لمهامه الكبيرة، يجب أن يتّسم هذا الخطاب، أوّلًا: بالواقعية؛ أي إنّه يتعيّن علينا إظهار ثقافتنا بشكلٍ مقنعٍ بعيدًا عن المبالغة والتضخيم والأسطرة. ثانيًا: بالعقلانيّة؛ أي التركيز على مخاطبة العقول وليس العواطف. ثالثًا: يجب أن يكون موضوعيًّا في مقاربته للرواية الصهيونيّة، ومحاججتها بالعقل والمنطق والبراهين العلميّة والتاريخيّة. رابعًا: ينبغي أن يكون خطابنا الثقافي إنسانيًّا، وبالتذكير بما قَدّمه التاريخ الثقافي الفلسطيني للإنسانيّة واستدعاء ذلك التاريخ الثري بالشواهد الثقافية المركزيّة، ومن زواية ثانية، لا يجوز الانزلاق إلى مربع العنصريّة والعداء الديني والقومي، إنّما السعي لأنسنة العدو بعبارةٍ أخرى لا يجوز الانجرار إلى المربع الصهيوني في إضفاء السمة التي تميّز اليهود وعن الآخرين من البشر، عبقريّتهم أو خسّتهم أو غدرهم، أو فسادهم...الخ (إذ إنّ أنسنة العدو لا تعني البتة القبول بأطروحته أو التصالح مع مشروعه أو التطبيع مع ثقافته، إنّما وضع اليهود والصهاينة في سياقهم الطبيعي الإنساني، حتى يُسهّل علينا فهمهم وقتالهم.

خامسًا: يجب أن يكون خطابنا أخلاقيًّا في تفاعله مع القضايا العالميّة، خاصّةً لدى اندلاع الحروب واحتلال دولةٍ لأراضي دولةٍ أخرى. فلا يجوز تأييد دولةٍ صديقةٍ في حال عدوانها على دولةٍ أخرى، واحتلال جزءٍ من أراضيها. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ لا يجوزُ أن يتضمّن خطابنا التقليل من شأن بكائيّات أعدائنا كمحاولة نفي الهولوكوست أو تبرير الملاحقات العنصريّة لليهود في بعض البلدان.

سادسًا: يجب أن يكون خطابًا تقدّميًّا، وليس مغلقًا يقدّس الذات الوطنيّة بطريقةٍ شوفينيّة، وألا يكون رجعيًّا يبرّر الاستبداد والتخلّف لبعض الأنظمة والدول.

سابعًا: يجب أن يكون خطابًا متماسكًا لا يعاني من ثقوبٍ في طريقة طرح الرواية الفلسطينيّة، ولا يحمل أية نزعاتٍ تضليليّةٍ أو تحريضيّةٍ أو أكاذيب.

ثامنًا: يتعيّن على هذا الخطاب أن يكون بلاغيًّا؛ أي ينطوي على إبداعٍ فني مصقول حتى يتسنى له أن يكون مؤثّرًا.

تاسعًا وأخيرًا: ينبغي تحرير هذا الخطاب من السياسة وتقلّباتها؛ أي ألا يكون خاضعًا لأيّةِ مواقف سياسيّة أو أيديولوجيّة أو حزبيّة، إنّما يتعيّن أن يكون وطنيًّا، ومستقلًّا نسبيًّا عن الصراعات السياسيّة. ولا يمكن لمثل هذا الخطاب أن يتبلور دون المؤسّسة الثقافيّة الوطنيّة الجامعة للأطياف والتيّارات كافّةً.

إنّ إنصاف الرواية الفلسطينيّة يجب أن ينطلق من الذات الفلسطينيّة قبل التحامها من الخارج، ولإنصاف روايتنا ينبغي أن نتحلّى بالأمانة والمسؤوليّة التاريخيّة.

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والكاتب والأديب والشاعر، والمفكر الفلسطيني كميل أبو حنيش