بقلم الأسير: كميل أبو حنيش

سقط الزند.. وسقط المتاع.. مساهمةٌ في نقد الثقافة الفلسطينيّة الراهنة "الحلقة الخامسة"

كميل أبو حنيش.jpg

خاص_مركز حنظلة

الحلقة الخامسة: أزمةُ الثقافةِ الفلسطينيّة

يتعيّن علينا قبل الشروع في مقاربة هذا العنوان، أن نُحدّد طبيعة الأسئلة المتعلّقة بالأزمة الثقافيّة: هل كان لدينا ثقافةٌ أو مشروعٌ ثقافيٌّ حتى يكون في حالة أزمة؟ وما مظاهر هذه الأزمة وعواملها الكامنة؟ وما أسبابها؟ وهل أزمة الثقافة منفصلةٌ عن أزمة المشروع الوطني؟

إنّ الإجابة على هذه الأسئلة تقتضي منا التجرّد من أيّة تحيّزاتٍ ذاتيّةٍ أو حزبيّةٍ أو أيديولوجيّةٍ أو سياسيّة، حتّى يكون بمقدورنا رؤية الواقع بصورةٍ واضحةٍ بعيدًا عن أيّةِ مبالغاتٍ أو بكائيّاتٍ لا طائل منها، وكذلك تقتضي منا الدراسة الموضوعيّة لتاريخ الصراع الفلسطيني -الصهيوني بمراحله المختلفة، ودراسة الحالة الثقافيّة في كلّ مرحلةٍ وكلّ محطّة.

وعليه، فإنّ دراسة التاريخ الثقافي للشعب الفلسطيني في سياقه التاريخي المتعدّد المراحل في القرن الأخير، تحتاج إلى دراساتٍ معمّقةٍ تأخذ بالحسبان الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للشعب الفلسطيني عشيّة الاحتلال البريطاني لفلسطين، واندفاع المشروع الصهيوني بقوّةٍ بعد هذا التَحوّل.

وبالرغم من أنّه واقعٌ متخلّفٌ على الأصعدة كافةً، وبالرغم من أنّ مرحلة ما قبل النكبة لم تشهد قفزاتٍ نوعيّةً على صعيد الحياة الثقافية، ولم تشهد تلك المرحلة انشغالًا من قبل النخبتين؛ السياسية والثقافية، في تلك الحقبة، لاستنهاض الواقع الثقافي؛ ليأخذ دوره ومكانته في إحياء الهُويّة الوطنيّة، وصياغة مشروعٍ ثقافي يواجه المشروع الصهيوني في تلك المرحلة. وبالرغم من كل ذلك، فإنّنا يمكننا اختصار تلك المرحلة بكل تعقيداتها بالقول: إنّه لولا المخزون الحضاري - الثقافي التاريخي الكامن في وجدان الشعب الفلسطيني لما أمكنه الصمود والمواجهة للغزوة الصهيونيّة في بداياتها؛ إذ أدرك الصهاينة أن الشعب الفلسطيني، ليس شعبًا بدائيًّا متخلّفًا، بل هو شعبٌ يعيش في عشرات المدن ومئات القرى والبلدات، ولديه مظاهرُ حضاريّةٌ وثقافيّةٌ واعدةٌ للانطلاق وبناء دولة حديثة (الصحف، المجلات، المدارس، الشعراء، المثقفون، بنية تحتية واعدة، طبقات اجتماعية، مظاهر حداثية.. الخ) حتى وإن كانت هذه المظاهر في البدايات، إلا أنّها تنبئ بأنّ ثمّةَ أساسًا يمكن الاتّكاء عليه، ولكن هذه المظاهر لم تكن بقوّة المشروع الصهيوني المدعوم ماديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا.

ويمكننا أن نزيد: أن سر بقائنا ومواجهتنا لكل وسائل الطمس والإبادة والإلغاء والتهجير والبطش طيلة أكثر من قرن، يكمن في هذا الأساس الثقافي - الحضاري، التي تُشكّلت من عناصر تاريخيّة متنوعة؛ أي إنّ شعبنا وطوال آلاف السنين امتلك تجربة وخبرة إنسانية وثقافية وحضارية أسهمت في بقائه وتجذره ومقاومته، وابتكاره في كل مرحلة وسائلَ جديدةً في المقاومة وتحدّي المشروع الصهيوني.

وفي مرحلة ما بعد النكبة، شهدت هذه المرحلة ومحطاتها المتعاقبة عملية انبعاث الهوية الوطنية، وانطلاق الثورة المعاصرة، كما وشهدت على ولادة جيل المبدعين الذين أسهموا في إرساء أسس الثقافة الوطنية الفلسطينية الحديثة، التي كان لها دورها المهم في المواجهة الثقافية مع المشروع الصهيوني.

لكن ما يهمنا هو الوضع الراهن للثقافة الفلسطينية، فهل هي في أزمة؟ إنّ الإجابة البسيطة على هذا التساؤل نختصرها بالقول: إنّ ثمة أزمةً عميقةً يشهدها المشروع الوطني التحرري الفلسطيني، ومن الطبيعي أن تعكس هذه الأزمة نفسها بكل مجالات الحياة الفلسطينية بما فيها الثقافة. ومن جانبٍ آخر، ثمّةَ أزمةٌ في الثقافة الفلسطينيّة ذاتها بمعزلٍ عن إسقاطات تأزم المشروع الوطني.

أما أزمة المشروع الوطني التحرري وإسقاطاتها على الحياة الفلسطينية برمّتها، فيمكن حصرها بثلاثة أسباب رئيسيّة:

1. فشل التسوية السياسيّة في الوصول إلى حلٍّ للقضيّة الفلسطينيّة وإقامة الدولة، ووصول هذه التسوية إلى حالةٍ من الاستعصاء.

2. الانقسام الوطني وإسقاطاته على مجمل الحياة الفلسطينيّة.

3. تكلّس الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة ووصولها إلى حالةٍ من العجز والضعف.

إنّ هذه الأسباب الثلاثة، تطيل من أزمة المشروع الوطني التحرري، وتترك تأثيراتها السلبيّة على الثقافة الوطنيّة، وتعيق منا إمكانية تطوّرها وإسهامها في المعركة التحرريّة.

أما أزمة الثقافة الفلسطينيّة الذاتيّة، فلا يمكن فصلها عن الأزمة العامة، لكنّها أنتجت مع الوقت أزمتها الخاصة، لها مظاهرُها وسماتُها، التي يمكن إجمالها بالآتي:

1. ضحالة الإنتاج الثقافي والتركيز على الشكل دون المضمون.

2. ثقافة مشتبكة مع ذاتها على حساب الاشتباك مع الثقافة الصهيونيّة نظرًا لانقسامها وتعدّديّة مساراتها وأجنداتها.

3. طغيان المشروع الثقافي الذاتي على المشروع الثقافي الوطني وعدم التقاطع معه إلا في حالاتٍ نادرة.

4. بروز ظاهرة "الشلليّة الثقافيّة" التي لا تُعبّر عن تيّاراتٍ ثقافيّة، إنّما عن تكتّلاتٍ تعكس مصالح فئويّة وشخصيّة وطبقيّة.

5. شيوع ثقافة التباغض والحسد والغيبة والنميمة بين مختلف المثقفين على نحوٍ واسع.

6. الركود في الأنشطة الثقافيّة، وضحالة مستوياتها.

7. ضعف الخطاب الثقافي داخليًّا وخارجيًّا، وتعدّديّته في الوقت ذاته.

8. ضعف المؤسسات الثقافيّة وتكلّسها من الداخل.

9. تسييس الحياة الثقافية وأنشطتها، وإقصاء الحالات الإبداعية المتعارضة مع السياسات الرسميّة للسلطة.

10. هامشيّة المفردات التحرّريّة من الخطاب الثقافي الرسمي.

11. ازدهار ثقافة الاسترزاق الثقافي، والبحث عن تمويلٍ أجنبي للعديد من الأنشطة الثقافية.

12. طغيان مشهد البهرجة والبريق الإعلامي والبذخ على العديد من الأنشطة والفعاليات الثقافية.

إنّ هذه المظاهر تنبعُ من أزمةٍ ثقافيّةٍ عامة، وتتلخّص هذه الأزمة بغياب المشروع الثقافي الوطني المتماسك والمتكامل والمنسجم مع شروط المرحلة التحرريّة الوطنيّة، وهذه الأزمة؛ أي غياب المشروع الثقافي الوطني، تنبع بالإساس من تأزم المشروع الوطني التحرري.

إنّ الثقافة الوطنيّة المنقسمة على ذاتها، لا يمكن لها أن تنجز مشروعًا ثقافيًّا وطنيًّا موحّدًا وليس بمقدورها استنهاض الحالة الثقافيّة الراكدة من دون أن تجري حوارًا ثقافيًّا شاملًا بين مختلِف مكوّناتها وتيّاراتها للوصول إلى ميثاقٍ وطني يفضي لإعادة بناء المشروع الثقافي، وصياغة محدّدات الخطاب الثقافي الوطني. عندها يمكن للثقافة أن تسهم في رأب الصدع الوطني، وأن تأخذ حيّزها اللازم ومكانتها المناسبة في المعركة التحرّريّة.

إنّ استمرار أزمة الانقسام الوطني ينجم عنها انقساماتٌ ثقافيّةٌ وتتحوّل الثقافة إلى جزءٍ من الصراع السياسي، وتصبح في خدمة سياسة التحيّزات السياسيّة والأيديولوجيّة، وحتّى الشخصيّة، فتنشأ حالة من التحزبات الثقافية وتسود ثقافة الخوف والملاحقة والإقصاء والحصار للمبدعين، والهروب إلى الذات، وتهيمن ثقافة الردح السوقيّة، وتتَحوّل الاشتباكات الثانوية إلى رئيسيّة، في حين يتَحوّل الاشتباك الرئيسي مع الثقافة المعادية إلى اشتباكٍ ثانوي، وهكذا نفقد أهم بوصلة في توجيه النضال الوطني، وتنقيته من أيةِ ترسّباتٍ من شأنها أن تعيق العمليّة التحرّريّة، بل وتصبح الثقافة بحدّ ذاتها، عائقًا جديدًا أمام أيّ تطوّرٍ في تصويب مسار المعركة التحرريّة.

مع أنّ الثقافة الفلسطينيّة، وما تنطوي عليه من ثراءٍ وذخيرةٍ تاريخيّة، وقوّةٍ في الخطاب الحقوقي والشرعي والإنساني، تملك إمكانية الانفكاك من أزمتها الراهنة، والاستقلال نسبيًّا عن أزمة المشروع الوطني، بل وإمكانها أن تؤدّي دورًا مركزيًّا في استنهاض الحالة الوطنيّة والتأثير في القرار الوطني والسياسي.

إذن، ثمة أزمة تكمن في الثقافة الفلسطينية، ولكن علينا ألا نبالغ في تضخيمها، ولا بإمكانية تفكيكها، وهي أزمةٌ ليست مستعصيّةً وجذريّة، وإنّما مرتبطةٌ بالظروف المحليّة والعربيّة والعالميّة، وإسقاطاتها. وإذا اتفقنا على هذا التوصيف، علينا أن نشرع في إعادة بناء مشروعنا الثقافي؛ أي إنّ المسار الذي يجب أن تسلكه الثقافة الفلسطينيّة في هذه المرحلة، هو المسار التحرّري، وهذا يعني أن تبقى الثقافة الفلسطينية ترفع لواء المقاومة للمشروع الصهيوني، وأن تكفّ عن الترويج لمسار التسوية. وهذا المسار التحرّري الذي يبدأ محليًّا يجب أن ينتهي بأفقٍ عالمي.

أي لا يجوز أن يظلَّ مقتصرًا على الحيّز الوطني، إنّما ينبغي أن يتقاطع مع أفق الثقافة العربية، خاصةً في المرحلة الحاليّة، حيث تشهد البلاد العربية تغلغلًا صهيونيًّا، وقد رأينا قبل ثلاثة أعوام هرولة بعض البلدان العربية نحو التطبيع، ما ترك أثرًا فادحًا على القضيّة الفلسطينيّة وروايتها لصالح الرواية الصهيونيّة، ومن جانبٍ آخر يجب أن يتقاطع هذا المسار وينتهي بأفقٍ عالمي؛ أي أن نمتلك القدرة على مخاطبة العالم، وإجراء حوارٍ ثقافي هادئ مع الثقافات العالميّة من منطلق التأثير فيها، والتأثر الإيجابي بإنجازاتها، أما المشروع الثقافي الذاتي، فلا يمكن أن يُشكّل بديلًا عن المشروع الوطني. ولا يمكننا الاستغناء عن المؤسّسة الحاضنة لهذا المشروع والدفيئة التي تسمح بنمو وتطور الإبداع والمبدعين.

ومن ناحيةٍ واقعية لا يوجدُ مشروعًا ثقافيًّا إلا ويشهد مراحلَ ذهبيّةً وأخرى راكدة أو واهنة، أي إنّ الأزمة كامنةٌ بأي مشروع. أما المشروع الثقافي التحرري، فمن الطبيعي أن يواجه أزماتٍ ذاتيّةً وموضوعيّة؛ لأنّ ثمة مواجهة دائمة مع المشروع المعادي، لا سيّما إذا كان هذا المشروع المعادي يتمتع بالدعم المادي والسياسي والأمني والعسكري، فيما يفتقد المشروع الثقافي التحرري، مثل هذه الإمكانات. علمًا أنّ المشروع الثقافي الصهيوني شهد ولا يزال يشهد أزماتٍ متنوّعة، رغم ما يتمتّع به من إمكانات.

فهذا المشروع لم يفلح في الوصول إلى جميع غاياته، فهو يواجه الرواية الفلسطينية التي تتّسم بالقوّة، وبلاغة الحضور على الساحة الثقافيّة العالميّة، بينما تفتقد روايته للمشروعيّة الأخلاقيّة والتماسك، علاوةً على ارتباطه بالمشروع الاستعماري العالمي، ومضمونه الاستغلالي - الاستشراقي، فضلًا عن انطواء هذا المشروع على الخرافات والأساطير الدينيّة والسياسيّة (الوعد الآلهي، الشعب المختار، الشعب اليهودي، القوميّة اليهوديّة، الحق التاريخي، اللاسامية، الأغيار.. الخ) وهذه المفردات لا تجد لها حضورًا في الساحة الثقافيّة العالميّة؛ لأنّها مفاهيمُ منبوذةٌ ومستهجنةٌ وخرافيّةٌ ومتخلّفةٌ وعنصريّة*.

كما أنّ ثمّةَ ثقوبًا في هذا المشروع، وأهمها افتقاده للشرعية الإنسانيّة والأخلاقيّة في ضوء محاولة تبريره البائسة للعنف الصهيوني، وسياسات الإبادة والترانسفير، ونهب الأرض الفلسطينيّة، وسياسة القهر الممنهجة على شاكلة الحواجز وهدم البيوت والقتل اليومي...الخ.

أمّا أزمة المشروع الثقافي الفلسطينيّة الرئيسيّة، فتتمثل ببقاء هذا المشروع مقيّدًا بمرحلة التسوية، التي تمنعه من الإقلاع إلى الأفقين؛ العربي والعالمي، وبناء ثقافةٍ وطنيّةٍ بلا قيودٍ أو إعاقات، جرى التعبير عنها بأكثر من شكل، مثل تدخلات الاحتلال بالبرامج التعليمية والإنتاج الفني والرموز الوطنية، مما يملي علينا تحرير الثقافة الوطنية من قيود أوسلو.

ومن جانب آخر، يجب النأي بالمشروع الثقافي الوطني عن الحيز الحزبي والسياسي وتجاذباته وتعقيداته، وأن يتمتع هذا المشروع بالاستقلالية، وإبقائه في حيزه الوطني الجامع، وعدم السماح بتسييسه.

أما الوجه الآخر لأزمة الثقافة فكامنةٌ في انقطاع المحطات والمراحل التاريخية عن بعضها البعض، فمرحلة ما قبل وعد بلفور منفصلةٌ عما بعدها، ومرحلة ما قبل النكبة منفصلةٌ عما بعدها، ومرحلة ما قبل النكسة منفصلةٌ عمّا بعدها، ومرحلة الثورة منفصلةٌ عن مرحلة الثورة، ومرحلة التسوية منفصلةٌ عن جميع المراحل. بعبارةٍ أخرى افتقدت الثقافة الفلسطينية طوال قرنٍ من الزمن العنصري التكامل بين المراحل والتراكم، وهي ما جعل التجربة الثقافية التحررية الفلسطينية مبعثرةً ومقطّعة الأوصال.

وفي المرحلة الراهنة، لا تزال الثقافة الفلسطينية محكومةً بسقف التسوية وشروطها وإسقاطاتها وأزماتها، ويهمين خطاب التسوية على الخطاب الثقافي ومفرداته، من دون أن يتيح له الفرصة للتطوّر إلا بما تسمح به حدود التسوية، التي تقف عائقًا أمام تغلغله إلى الوجدان العالمي بصورةٍ لائقةٍ ومناسبة.

وثمّة وجه آخر للأزمة الثقافيّة، تتَمثّل في الإخفاق باستثمار التاريخ الفلسطينيّة القديم، وجذوره الكنعانية بصورةٍ جيدة، في موازاة استدعاء العدو لتاريخه التوراتي الأسطوري القديم. فعندما يخرج إلينا أحد القادة ويقول: هي القدس وليست أورشليم، أم الرشراش وليست إيلات، الخليل وليست حبرون.. الخ.

نكون قد سلمنا للعدو بمفاتيح التراث الكنعاني، علمًا بأنّ مجمل التراث "اليهودي" التوراتي هو تراث كنعاني أصيل (أسماء المدن والبلدات، الأسماء اليهودية، معظم المعتقد الديني اليهودي، الأساطير، اللغة.. الخ) إذ إنّ التراث والتاريخ الكنعاني القديم يُشكّل واقعيًّا الأساس الثقافي والحضاري للثقافة الفلسطينيّة الحاليّة.

أما على صعيد الخطابات الثقافيّة في الساحة الثقافيّة، فثمّةَ خطاباتٌ ثلاثةٌ تتصارع على تشكيل الخطاب الثقافي الوطني:

الأول: خطاب وطني علماني، يجد في التراث والتاريخ والحداثة والأفق العالمي عناصرَ مهمّةً في بنية الثقافة الوطنية، والثاني: خطاب ديني، يجد في التاريخ الإسلامي وبالأفق العربي الإسلامي الأساس في بنية الخطاب الثقافي الوطني، ويحاول أن ينأى عن التراث الكنعاني باعتباره تراثًا وثنيًّا، وتقف بعض رموزه دون قصدٍ مع الرواية الصهيونيّة - اليهوديّة، في تبرير "إبادة الكنعانيين" باعتبارهم وثنيين، وأن دولة داوود وسليمان هي دولةٌ دينيّةٌ وشرعيّة، وهكذا نعطي للصهاينة الحقّ في الوجود على "أرض وطنهم التاريخيّة".

أما الثالث: فخطاب ليبرالي يريد الانسلاخ عن الماضي بصورةٍ تامة، وإنكار أي أساس ثقافي قديم يكمن في ثقافة الشعب الفلسطيني، وأنّه من الأجدر الالتحاق بركب الثقافة والحضارة العالمية ومطاهرها الحداثية، ولا تتم هذه العملية إلا بالقطع مع التاريخ والتراث القديم، بوصفهما تاريخًا وتراثًا ميتينًا.

إنّ انقسام الخطاب الثقافي على هذا النحو لا يخدم مشروعنا الثقافي التحرري، فنحن في حالة صراعٍ متواصلٍ مع الثقافة الصهيونيّة الاستعماريّة، وإذا لم يكن خطابنا الثقافي موحّدًا وصلبًا ومتماسكًا وفعّالًا ومبدعًا ومتضمّنًا عناصر الثقافة التاريخيّة القديمة برمّتها، بما فيها الثقافة العربية والإسلامية، فإنه سيظل قاصرًا أمام الثقافة الصهيونيّة المدعومة بكلّ وسائل القوّة.

إنّ استدعاءنا للتراث الثقافي الكنعاني ينطوي على أهميّةٍ فائقةٍ في المواجهة؛ لأنّه يمثّل الأساس الموضوعي في مواجهة الرواية الصهيونيّة. ومن زاويةٍ ثانية، لا يمكننا التحلّل من تاريخنا وتراثنا العربي- الإسلامي – المسيحي؛ لأنّه يمثل البنية الثقافيّة المتعيّنة في الواقع الحالي، ويُشكّل تحدّيًا في صراعنا الوجودي مع المحتل. ومن زاويةٍ ثالثة، يجب الانفتاح على الأفق الثقافي العالمي من ناحية التأثر والتأثير، وليس من زاوية استيعاب كل ما ينتج عن الثقافة العالمية، خاصة الثقافة المعلومة، من دون دراسة وتمحيص.

وتجدر الإشارة أخيرًا أنّ الثقافة الفلسطينية في سياقها التاريخي، كانت دائمًا منفتحةً على الأفق الثقافي العالمي منذ القدم، واتّصلت بشتى الثقافات العالميّة، وتلاقحت معها وأثّرت وتأثّرت بها، وهو ما سمح لها أن تجد لها أثرًا في شتى القارات والحضارات القديمة: أوروبا خاصة الثقافتين؛ الإغريقية والرومانية، وفي آسيا، وفي أفريقيا وشمالها تحديدًا. وفي الإجمال ينبغي أن نكون واثقين بأنفسنا ونحن ندخل مجال الثقافة العالميّة.

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والكاتب والأديب والشاعر، والمفكر الفلسطيني كميل أبو حنيش