بقلم الأسير كميل أبو حنيش

سقط الزند.. وسقط المتاع.. مساهمةٌ في نقد الثقافة الفلسطينيّة الراهنة "الحلقة الرابعة"

كميل أبو حنيش.jpg

خاص_مركز حنظلة

الحلقة الرابعة: الثقافةُ المقاوِمة والثقافةُ الانهزاميّة

تقتضي الضرورةُ التحرّريّة أن تظلّ الثقافة في خندق المقاومة ولا تغادره إلا بعد إنجاز مهمة التحرير الشاملة؛ لأنّنا ببساطةٍ شعبٌ يعيش في مرحلة تحرّرٍ وطني، وهو ما يعني إخضاع حياتنا برمّتها في خدمة المهمّة التحرريّة؛ فالثقافة يجب ألا تكونَ محكومة لشروط المرحلة التحرريّة فحسب، إنّما حارسةٌ ورائدةٌ وقائدة ومواجهة وناقدة وجريئة ومسؤولة وملتزمة ومتماسكة وعنيدة ومتطورة ومبدعة.

والثقافة المقاومة لا تعني البتة اختزالها بالتعبئة والتحريض على حمل السلاح ومقاومة العدو، وإن كان هذا الشرط يقع ضمنًا في صلب مهمّتها، ولكن الثقافة حتى تكون مقاومة ينبغي أن تكون مسؤولة؛ أي أن تعي رسالتها التاريخيّة، وإنّها أمينة على قضيّةٍ كبرى، وإنّها في صراعٍ مع أعتى الروايات التي لم يسبق أن عرفها التاريخ.

ومن زاويةٍ ثانية يجب على هذه الثقافة أن تتوسل الإبداع والفن والجمال، فإذا كان إنتاجنا الثقافي رديئًا وركيكًا وسطحيًّا، فهذا يعني أن ثقافتنا ضحلة أو أن الاستعمار الصهيوني قد تمكّن من خلخلة أسسنا الثقافيّة، واستطاع أن يجرّدنا من سلاح الثقافة، وسيجد الاحتلال بذريعة تخلف ثقافتنا ورداءة إنتاجنا سببًا آخر في تبرير مواصلة احتلاله لبلادنا، بحجّة تمديننا وتحضيرنا والأخذ بيدنا.

ومن هنا يتعيّن علينا أن نعي عدوانيّة الثقافة الصهيونيّة ومشروعها المراوغ، وذلك بإبقاء سلاح الثقافة جاهزًا للمواجهة في كلّ الظروف، ومن جانبٍ آخر يجب أن ننتج أدبًا وفنًّا يليق بنا شعبًا يبحث عن الحرية والخلاص، ويليق بحجم التضحيات الجسام التي ندفعها في سبيل هذه الغاية.

فعندما نخاطب العالم بإبداعاتنا، ويصل نصنا الأدبي والشعري والفكري إلى العالمية فهذا يعني أننا أحرزنا انتصارًا على الرواية الصهيونيّة.

ففي الوقت الذي تجهد فيه دولة الكيان لطمس إبداعاتنا، تسعى لإغراق العالم بإنتاجاتها الثقافية وتسويق روايتها الزائفة، وعندما يتفوق النص الفلسطيني على النص الصهيوني في الساحة الثقافية العالمية، ترتعد فرائص "الدولة" العبرية قهرًا وخوفًا وعارًا، وسرعان ما تبدأ آلتها الإعلاميّة والدبلوماسيّة بالتحريض واتّهام العالم بالتحيّز ومعاداة الساميّة، ومن التجربة كان لنا ذخائر ثقافيّة نقاتل بها الثقافة الصهيونيّة على الساحة العالميّة.

إنّ الصراع بين الروايتين؛ الفلسطينيّة والصهيونيّة يقتضي التسلّح الدائم بالذخائر اللازمة لمنازلة الرواية الصهيونية المدعومة عسكريًّا وسياسيًّا وإعلاميًّا وماديًّا رغم ما يعتريها من ثقوبٍ واسعة.

وفي هذا الإطار لا يكفي استخدام سلاح المظلوميّة، ودموع الضحيّة، ولا يكفي استدرار عطف العالم، وشدّ انتباهه لعدالة قضيتنا، فلا يجوز أن يكون خطابنا الثقافي ضعيفًا وتراجيديًّا ومستجديًا، إنّما ينبغي البحث الدائم عن وسائلَ جديدةٍ في المواجهة الثقافيّة، وأهمّها سلاح الإبداع، وما ينطوي عليه من معانٍ إنسانيّةٍ وأخلاقيّةٍ وجماليّة، وإثارة للحسّ التاريخي، وأن يتمتّع خطابنا بالمصداقيّة والثقة بالذات، ومواصلة فضح المزاعم الصهيونيّة، وإظهار سخافاتها وهبوطها القيمي، والإشارة إلى أصولها وأساستها الخرافيّة واليمينة العنصريّة.

إنّ الانتصار في هذه المعركة لا يعتمد على موازين القوى التقليديّة، إنّما على قوّة الخطاب الذي يتغذّى على المخزون الثقافي والحضاري، وصدق الرواية الفلسطينيّة والتاريخ والتراث، والحق في الوجود، ويتعيّن علينا بناء قلاعنا الثقافيّة والاستثمار بها ودعمها، وحشد كل الإمكانات والطاقات الواعدة؛ لتسهم في تطوير الثقافة، ونسهم بدورنا في تطويرها، والسماح لها أن تبدع لتشق مساراتها المتقاطعة بالضرورة مع المسار التحرري الوطني.

ينبغي على إنتاجنا الثقافي أن يعكس المضمون الإنساني، وهذا هو بيت القصيد في المقاومة الثقافية. فلا يجوز أثناء مواجهتنا للمشروع الثقافي الصهيوني، محاكاته بالانزلاق إلى مربع العنصريّة والشوفينيّة ولا مربع الصراع الديني القومي، حتى وإن بدا هذا الصراع يحمل بعض المضامين الدينية والقومية، فصراعنا مع الصهاينة ليس دينيًّا ولا قوميًّا، فنحن إزاء حالةٍ معقّدةٍ يتداخل فيها الديني والقومي والاستعماري والأسطوري، ومنطق القلعة القوية التي تحاول فرض نفسها بالقوة، يما فيها تكريس خطابها الثقافي الزائف.

ولكن ببساطةٍ يتعيّن علينا التركيز على البعد الاستعماري، وهو حجر الأساس في المشروع الصهيوني؛ لأنّ التجربة الاستعمارية العالمية ومشروعها وخطابها أثبتت فشلها وزيفها ولا إنسانيتها وغرورها وتدميرها، فلم تحمل هذه الظاهرة البائدة أي خيرٍ أو تقدّمٍ للشعوب المستعمرة، وانتهت إما بإباداتٍ جماعيّةٍ للسكان الأصليين، وإما بالهزيمة والاندثار، أما منازلة الرواية الصهيونية على أساس ديني أو قومي أو تاريخي، فإنه سيجرنا إلى زوايا شائكة، وهذا لا يعني عدم القتال على جبهة التراث والتاريخ والرموز الثقافية الموروثة والمسروقة، وما في صلب الرواية التوراتية من مزاعمَ أسطوريّة، إنما يجب أن يكون الصراع الثقافي مركزًا على المضمون الاستعماري للمشروع الصهيوني، وبالأخص مركبة الاستشراقي، باعتبار أن هذا المضمون قد أضحى ممجوجًا ومستلهكًا وبائدًا، ولم يعد له أي حضور في التأثير على الثقافة العالمية ببعدها الإنساني والتقدمي والأخلاقي.

ووفق هذا المنظور، كان من السهل على العالم أن يتعرف على أدبائنا وشعرائنا وفنانينا، فيما تعرض المثقفون الصهاينة للملاحقة والإقصاء، لا سيما في العقدين الأخيرين، ولم يتبقَ لهم من حيّزٍ سوى الزوايا اليمينيّة المظلمة في العالم، فلم يصل شاعرٌ "إسرائيلي" للعالميّة، كما وصلها درويش؛ وصولهم إلى العالمية مشروط بالمضمون الإنساني لإنتاجاتهم، حيث تبرأ الكثير من الفنانين والأدباء والمفكرين اليهود علانيةً من الصهيونية، ونبّهوا من خطورة استمرار الممارسات الاحتلالية وإسقاطاتها المشوهة على الثقافة "الإسرائيلية".

ومن علامات ضعف الخطاب الثقافي الصهيوني في الساحة العالمية، يتمثل في افتضاح سرقاته للتراث والفلكلور الفلسطيني؛ لأنّ الثقافة "الإسرائيليّة" لا جذور لها ولا تراث، أما التراث اليهودي التوراتي، فقد تبين أنه في مجمله تراث فلسطيني أصيل ذو جذور كنعانية ممتدة لآلاف السنين في التاريخ.

وتستمد المقاومة الثقافة شرعيتها وحيويتها وديمومتها من الواقع على الأرض، في ظل احتدام الصراع التناحري مع المشروع الصهيوني، وما يوفره له نشاطه الثقافي من ذخيرة للقتال، فإنّ على ثقافتنا ألا تهادن أو تتسامح أو تتصالح مع الثقافة الصهيونية.

وحتى تتعزز مقاومتنا الثقافية ينبغي إعادة بناء المؤسسات الثقافية ودعمها، وتوحيد جهودها، وإعادة صياغة المشروع الثقافي التحرري، ورعاية الإبداع الفردي والجماعي؛ كي يأخذ له مكان في هذه المواجهة المفتوحة.

أما الثقافة الانهزامية، ثقافة سقط المتاع، فهي ثقافة هشة وسطحية ومهادنة ورخيصة، ويسهل شراؤها. ثقافة هابطة ومبتذلة تدعو للتنازل والرضوخ والإذعان لشروط المرحلة الاستعمارية، والتطبيع معها.

وقد ازدهرت الثقافة الانهزامية بعد مرحلة التسوية، حيث شهدنا أشكالًا وألوانًا من الأدب الهابط والفن المبتذل، والثقافة الاستهلاكيّة الترويجيّة. وأصبحت الذات هي مركز النشاط والفعالية الثقافية، وبات المثقف والمبدع مهنيًّا يبحث عن حقوقه بعد أن كان في مرحلة الثورة يقدم الواجب.

وهذا النمط الثقافي الهابط يُعبّر عن انحطاط المرحلة، ويستمد هذا النمط قوته واستمراره من الوهن الذي يعاني منه المشروع الثقافي التحرري، وكذلك من الفراغ الذي يخلفه غياب الإبداع، ومن ناحيةٍ ثانية طغى على المشهد الثقافي في العقود الثلاثة الأخيرة سياسة التسول والاسترزاق، أما الإنتاج الثقافي، في مجمله، فقد بات يبحث عن الإثارة والبريق الإعلامي، على حساب المضمون، ويبدو أقل التزامًا ومسؤوليّة وطنيّة، وأقلّ إبداعًا وأكثر ضحالة، ورغم شهرة العديد من الإنتاجات الثقافية والأنشطة الفنية، التي تحمل بعضًا من سمات الإبداع، إلا أن تعارضها مع ثقافة التحرر والمقاومة يجعل منها أعمالًا تصنف على الثقافة الاستهلاكية الانهزامية التي تبث السموم، وتحرف الثقافة الفلسطينية عن همومها ومسؤولياتها وتضعف من مناعتها وقدرتها على المواجهة.

ولكن يتعيّن علينا الإشارة إلى أنّنا لسنا إزاء تصنيف ثقافي صارم، وغير قابل للجدل، فلا يعني البتة أن الإنتاج الثقافي المعارض للتسوية والناقد للسلطة، يمكن احتسابه على معسكر المقاومة الثقافية، ولا نعني كذلك، أن المثقفين المنتمين إلى معسكر التسوية والمحسوبين على السلطة أنهم ليسوا مقاومين أو يفتقدون للحس الوطني الثقافي المقاوم، أو يمكن احتسابهم على الثقافة الانهزامية. كلّا، فالمسألة ليست بهذه البساطة؛ لأنّ اللوحة الثقافية الفلسطينية في هذه المرحلة، مركبة ومعقدة، وثمة انزياحات متواصلة في كلا الشكلين والمعسكرين.

فعندما يكتب أحد المحسوبين على معسكر المقاومة الثقافية، بطريقةٍ ضحلة أو خالية من أي معيار فني أو علمي أو جمالي، فإنّه يسيء للمقاومة الثقافية، وعندما يكتب أحد المحسوبين على الثقافة الانهزامية بإبداعٍ وبجودةٍ فنية، فلا يمكن تجاهل إبداعه.

ولكننا في إطار هذه المقاربة النقدية لا نزال في حدود البحث عن مساحاتٍ جديدة، وعن تعريفٍ لائقٍ ومرن للإبداع الثقافي ومعاييره، وكذلك في حاجةٍ إلى تعريف الثقافة المقاوِمة وتعريف المرحلة، وماذا نحتاج وماذا نريد.

لذا أصبح من الضروري إعادة بناء المشروع الثقافي الوطني التحرري، ويتعين أن تشمل هذه العملية جهود الجميع من مختلف الفئات والأطياف، وألا تقتصر هذه المهمة على نخبةٍ ذات لون أو توجه فكري أو سياسي محدد وفي المجمل، فإنّ الواقع الثقافي المرير- إن لم نسارع في إعادة بناء المشروع الثقافي؛ بهدف إحداث تَحوّل في الحياة الثقافية الفلسطينية في هذه المرحلة المفصلية - هو من سينصع هذا المشروع؛ أي إنّنا سنكون خاضعين للواقع ومتأثرين بإسقاطاته ورياحه العاتية وليس العكس.

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والكاتب والأديب والشاعر، والمفكر الفلسطيني كميل أبو حنيش