بقلم الأسير كميل أبو حنيش

سقط الزند.. وسقط المتاع.. مساهمةٌ في نقد الثقافة الفلسطينيّة الراهنة "الحلقة الثانية"

كميل أبو حنيش.jpg

خاص_مركز حنظلة

الحلقة الثانية: الثقافة ومرحلة التحرر الوطني

يمثل العامل الثقافي، حجر الزاوية، أثناء مرحلة التحرر الوطني التي تعيشها الشعوب، وتعد الثقافة الثروة الكامنة لأي شعب يدافع عن وجوده ومصيره ومستقبل أجياله.

ومن هنا يصبح قدر الثقافة أن تواجه وتبتكر، وليس أمام الثقافة التحررية من بديل سوى المقاومة، ومن المحظور عليها الاستسلام، أو التساوق مع الثقافة المعادية، أو أن تسقط لوائها عنوةً أو بإرادتها.

فمعركة التحرر الوطني لها قوانينها الخاصة وشروطها الموضوعية التي تحتم الاشتباك على كافة الأصعدة، ففي هذه المرحلة، تدفع الشعوب خيرة قادتها وأبنائها وتقُدمّ التضحيات الجسيمة في سبيل انعتاقها، وتَحوّل كل خصائصها الثقافية والحضارية والإنسانية وخبراتها السياسية والتاريخية والفنية إلى أسلحة في خدمة المواجهة، بحيث تتَحوّل حياتها بمجملها إلى نسيجٍ واحدٍ يركز على المعركة، والإصرار على إحراز الانتصار، وأن أي انحراف أو قصور أو انتكاس في أي مكوّن من مكونات هذه الأسلحة، فإنه يُشكّل خطرًا على نتائج هذه المعركة. فالجهود والأنشطة والعقول والضمائر والامكانيات المادية والمعنوية والروحية ينبغي أن تكون مكرسةً موضوعيًا في خدمة معركة التحرر، حيث تُظهّر الشعوب في مرحلة المد الثوري العارم أفضل ما أدخرته طوال تاريخها من قيمٍ ومبادئ وأخلاقيات وإرادة وتضامن وإخلاص ونماذج بطولية، ولا يطفو على السطح في هذه المرحلة، سوى الإبداع النضالي بأشكاله المختلفة: الكفاحي، الاجتماعي، السياسي، الثقافي، الاقتصادي، الجماهيري.. الخ.

وعندما تنتكس المعركة التحررية في احدى محطاتها فإنه لا يطفو على السطح سوى الانحطاط الذي يشمل كل شيء، فيسود الفساد والانحلال الأخلاقي والسياسي والمالي والثقافي والجماهيري، لكن الأخطر على الإطلاق هو الانحلال الثقافي؛ فالجبهة الثقافية هي القلعة الأخيرة التي لا يجوز سقوطها أو السماح باختراقها من الداخل، لأنها القلعة المعبرة عن الهوية الجمعية وروحها الكامنة، وهي مخزون الذاكرة والوعي الوطني، وخزان الخبرة والتجربة، وهي الروح التي تلهم الشعوب وتحثها على الصمود ومواصلة المعركة، وهي التي تعلمها سر الانتصار في نهاية المطاف.

إن أول ما يحاول المستعمر فعله، بعد احتلاله لأراضي الشعوب وتقويضه للبنى السياسية، يتمثل في محاولة إفساد الثقافات الوطنية وصولًا إلى تقويضها وضرب أساساتها للغة، القيم المجتمعية، العادات والتقاليد، الفنون، الآداب، الأذواق...الخ) ومحاولة إرغامها على استبطان النموذجين الحضاري والثقافي للمستعمر.

لكن الشعوب المستعمرة، ورغم ما تتعرض له من تنكيل وهزائم عسكرية واقتصادية وسياسية، تتمسك بصورةٍ لا واعية بثقافتها المنغرسة في وجدانها الجمعي، وفي هذه الحالة يشق على المستعمر وأد الثقافة الوطنية بصورةٍ تامة، لأنه يجهل الكيفية التي من خلالها يكون بمقدور الشعوب أن تنهل من مخزونها الثقافي الكامن، مستولدة منه وسائلها في المقاومة والبقاء، تلك التي يسمونها "عبقرية الشعوب"، حيث يفاجأ أعدائها بفنونها المبتكرة في البقاء وأشكال المواجهة، ولا يمتلك حتى الشعوب ذاتها تفسيرًا لتلك الطاقات الكامنة التي تجري عملية استيلادها من دون تخطيط، وإنما تظهر بصورةٍ عفوية ومفاجئة.

وقد عَبّرت تجربتنا الكفاحية الفلسطينية عن صورٍ ومشاهد ومحطات مدهشة، أذهلت الاستعمار وحطمت غطرسته، واعتداده بذاته. لقد فاجأت ثورة العام 1936، الاستعمار البريطاني وقيادة الحركة الصهيونية، الذين لم يتوقعوا أن يفجر الفلسطيني ثورة عظيمة بظروفٍ ذاتية وموضوعية مجافية. كما ودهش العالم وهو يرى الانبعاث الوطني الفلسطيني من رماد النكبات والنكسات الفلسطينية والعربية أواخر ستينيات القرن الماضي.

فهذا الانبعاث الأقرب إلى المعجزة ما كان له أن يظهر لولا تلك الطاقات الثقافية الكامنة في وجدان هذا الشعب وذاكرته الجماعية.

وكانت محطة الانتفاضة الأولى أكثر ما أدهش العدو والصديق على حدٍ سواء، حيث عبرت فعاليات الانتفاضات وسيرورتها عن ذلك المخزون الهائل، حيث حَولّ الفلسطيني ضعفه إلى وسيلة قوة، وتجسدت ثقافة الانتفاضة بعددٍ من الصور والمظاهر الرائعة: التضامن والتعاضد، الانتماء والمتجذر، قيم الصبر والصمود والتحدي، ثقافة التنمية والانتاج الشعبي، وكان الحجر، والمتراس والشعارات على الجدران، ورفع الأعلام، وتوزيع المنشورات، والأهزوجة والموال والأغنية الشعبية والاضراب والتعليم الشعبي، وزغاريد الامهات في وداع الشهداء، أشكال وفعاليات بسيطة مثلت سر ديمومة الانتفاضة وتطورها، وأظهرت ما يختزنه الفلسطيني من طاقاتٍ وابداعات كامنة، كان لها أن تطيح بصورة الكيان الصهيوني، وتنجز ما لم تستطع انجازه الحروب، وتغير وعي العالم وطريقة تصوره للقضية الفلسطينية.

ولا يستطيع المُستعمِر، مهما بلغت سطوته وتفوقه الحضاري ووسائل عنفه، القضاء على الأصول والأساسات الثقافية للشعوب، إلا إذا لجأ إلى الإبادة الشاملة، كما جرى في الأمريكيتين وفي استراليا، في حين أخفقت المحاولة الاستعمارية في تحطيم الأساس الثقافي -الحضاري في الجزائر وجنوب أفريقيا والهند والصين وكذلك في فلسطين.

ويتشكل الأساس الثقافي - الحضاري لدى الشعوب من مكونات تتراكم فوق بعضها البعض، وتصبح أشبه بالطبقات الجيولوجية طوال آلاف السنين، وهذه المكونات عبارة عن عناصر ثقافية متباينة ومتنوعة، تتواشج مع بعضها عبر المراحل التاريخية، وتصبح مع الزمن مزيجًا معقدًا (اللغات، المعتقدات الدينية، القيم، الأعراف، التقاليد، الفنون، الآداب..) وتعكس نفسها في التجربة الحضارية (شكل البناء، اللباس، الطعام، الانتاج، التقسيم الاجتماعي.. الخ) إلى جانب ما تواجهه من تحديات وظروف وملابسات تاريخية وأحداث مفصلية، كالحروب والكوارث الطبيعية، الاحتلالات والمآسي. وتمثل هذه العناصر ما يمكننا أن نسميه التجربة التاريخية، والخبرة التاريخية المتراكمة والكافية في اللاوعي أو الوجدان الجمعي، وهي خبرة لا يجري إدراكها والوعي بها إلا إذا تعرضت الشعوب لمآزق تاريخية كالحروب والكوارث أو تعرضت للاستعمار.

وقد أدركت القوى الاحتلالية والاستعمارية خلال مراحل التاريخ أهمية العوامل الثقافية كسلاح للشعوب المحتلة والمستعمرة. وفي التجارب الاستعمارية الحديثة، كان يلجأ الاستعمار إلى دراسة الشعوب وأنظمتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية والثقافية قبل استعماره، وبالأخص أساساتها الثقافية بغية البحث عن ثغرات وصدوع يمكنه النفاذ منها للسيطرة على الشعب. لكنه ومهما بلغت درجة نجاحه في مهمته إلا أنه يعجز عن إحراز انتصاره النهائي والشامل، ويكتشف بعد مرور مدة من الزمن (سنوات، عقود، قرون) أن ثمة طاقات كامنة تستبطنها الشعوب المستعمرة، وتعيد إنتاجها محولة إياها إلى سلاحٍ في مواجهة المستعمر.

فالشعوب المستعمرة، ورغم حالة ضعفها واستسلامها للمستعمر وتمثلها لبعض من خطابه وأطروحاته الثقافية، ومحاكاتها لبعض من سلوكياته الحضارية (اللغة، اللباس، الفن، العمران، المفاهيم السياسية، أدوات الانتاج) إلا أنها في الجوهر تبقى على أساسها الثقافي، ولا تستهلك طاقاتها المختزنة بالكامل. ففي الظاهر تبدو الشعوب المستعمرة مستكينة وضعيفة، ومتمثلة للشكل الحضاري للمستعمر، وخاضعة لشرطه الاستعماري، لكنها في الباطن تبقى تقاومه، وترفض الإذعان المطلق لسياساته لا سيما الهادفة لضرب وزعزعة أساساتها الثقافية، وتظل موضوعياً في حالة انتظار للفرصة السانحة للإعلان عن إرادتها التحررية، وتفجير الثورة، بغية الخلاص من اللحظة الاستعمارية، علماً بأن هذه العملية، تجري بصورة تراكمية تاريخية، لا تلقائية وبهذا ينخدع المستعمر، الذي يعميه غروره، ويعتقد بأنه تمكن من إخضاع تلك الشعوب، وسيكتشف في لحظة متأخرة.

إن هذه الشعوب، إلى جانب مخزونها الثقافي والحضاري، قد حولت ما اقتبسته من عناصر ثقافية وحضارية استعمارية، إلى سلاح إضافي في المواجهة (التنظيم، الإدارة، العلم، السلاح، التعليم، الفن، التكنولوجيا، اللغة، القانون، التنظيم السياسي، الاقتصاد)، فتنتقل الشعوب من حالة الخضوع الجزائي أو الكلي، والتفاعل الجدلي، سلبًا وإيجابًا مع ثقافة المستعمر، وتنطوي العملية على بروز تناقضات مختلفة أثناء عملية التفاعل، ومع الوقت تتطور الوسائل التي يتسلح بها الشعوب المستعمر، بما فيها العناصر التي اقتبسها مع المستعمر، وتساعده في صراعه مع عدوه إلى أن يتأنى فيها الوصول إلى محطة اللاعودة، ويكون خلالها الشعب المستعمر قد تشبع بثقافة وإرادة التحرير، ويكون فيه الاستعمار قد تآكلت وسائله في إخضاع الشعب المستعمر وانكشفت نقاط ضعفه، ووصل إلى طور الانحلال والتفكك بفعل عوامل داخلية وخارجية، عندها يمكن للشعوب الخاضعة للاستعمار أن تبدأ تدريجيًا بالتحرر من الاغلال الاستعمارية وتحرز انتصارها التاريخي في لحظة تاريخية محددة.

وفي التجربة الملموسة لم تفلح الوسائل الاستعمارية الفرنسية طوال مئة وثلاثين عامًا من استعمار الجزائر في القضاء على الثقافة العربية والإسلامية المتجذرة، وكذلك لم تفلح مثل هذه الوسائل بعد أكثر من ثلاثة قرون من التجربة الاستعمارية في القضاء على الجذور الثقافية لشعب جنوب أفريقيا، وفي النهاية خسر المستعمر المعركة أمام الثقافة الشعبية المتجذرة.

فمقاومة الشعبين الجزائري والجنوب أفريقي للاستعمار، بكافة أشكالها هو نتاج لعوامل ثقافية في الأساس، الأمر الذي مكنها من توفير الأساس لولادة مثل هذه المقاومة وأشكالها.

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والكاتب والأديب والشاعر، والمفكر الفلسطيني كميل أبو حنيش