تتحدث بصوت الغائب الحاضر...

الصحفية غوشة.. حبيسة جدران منزل عائلتها

الصحفية لمى غوشة.jpg
المصدر / القسطل

مركز حنظلة_فلسطين المحتلة

قالت الصحفية والأسيرة المحررة لمى غوشة خلال فعالية عقدت حول عمل الصحافيات الفلسطينيات، أنها تتحدث بصوت الغائب الحاضر وأنها حبيسة جدران منزل عائلتها الكائن في حي الشيخ جراح لليوم الـ79 على التوالي.

وأضافت بأن البعض يعتقد أنها تقضي الوقت في فندق بدرجة 5 نجوم، قريبة من أولادي، أُمارس تمارين الاسترخاء يوميًا في أحضان طبيعة الحديقة الخارجية للمنزل، واستمتع بصوت زخات المطر وشمس كانون الأول الخجولة، لكن الحقيقة هي أنها بعيدة كل البعد عن هذا الاعتقاد الرومانسي المُبالغ فيه.

وأفادت الصحفية غوشة بأن الحقيقة أنها تحولت من صحافية نشيطة ألاحق صوت المهمشين والمهمشات في هذا الوطن المسلوب، ومن طالبة ماجستير في دائرة الدراسات الصهيونية  في جامعة بيرزيت تُنجز مشروعها النهائي بشغفٍ وجهدِ متواصل، إلى إنسانة معزولة عن العالم الحقيقي والافتراضي بكل تفاصيله الحلوة والمُرّة، مكتومة الصوت، وممنوعة من ممارسة أبسط حقوقها كأم تجاه طفليها الصغيرين، ممنوعة من إيصال طفليها إلى مدارسهما التي لا تبعد إلا بعض الكيلو مترات عن المنزل أو الذهاب معهم لزيارة الطبيب عند مرضهما، أو حتى التنزه بالشارع القريب للمنزل.

وأشارت بأن أطفالها اللذان لم يبلغا الـ5 سنوات  من العمر، أصبحا يدركان تمامًا معانٍ لمصطلحاتٍ سياسية تفوق عمرهما بمراحل وتٌغَّيِب طفولتهما، كالحبس المنزلي، المحكمة، السجن، الجيش.

تقول لمى تخيلوا معي طفلًا بعمر الثلاث سنوات ونصف يراقب شاشات الكاميرا الخارجية للمنزل بشكل مستمر ليحمي أمه من مداهمةٍ مفاجئة، ويسأل أمه بين الحين والآخر: ماما رح يخدوكي الجيش؟ ماما شو رح يصير بالمحكمة؟ تخيلوا أيضًا معي طفلة تبلغ من العمر الـ5 سنوات، تطلب ورقة وقلم لترسم سجن بدون ألوان.

تفيد بأن ذلك هو المعنى الحقيقي لمفهوم العقاب المُمنهج  والمٌتوارث الذي اتخذته السلطات الاستعمارية ابتداءً من الانتداب البريطاني وليس انتهاءً بالاحتلال "الإسرائيلي"، إنه الحبس المنزلي، أو ما يعرف بـ "الإقامة الجبرية"، وهو بالمناسبة من أشد أنواع القهر والذل الذي يستهدف روح الانسان وذاته بشكل مباشرٍ.

تتحدث غوشة بأن من خلال تجربتها الشخصية عرفت بأنها عملية استغلال مدروس تهدف إلى تحويل أنقى المشاعر الإنسانية التي يمتلكها الأهل والأحباب كالخوف والحب، إلى أدوات ضبط وقمع وسيطرة استعمارية، تجعل من الأب والأم سجانَين لابنتهما بالمعنى الحرفي للكلمة وذلك بالاعتماد على فعل المراقبة الدائمة لكل تصرفاتها وأقوالهما وممارساتها، يمكننا أن نقول "شرطة بيتي".

تقول بأن هذه التجربة التي أعايشها حتى الآن وأنا أكتب إليكن وأُحرّم من التواجد بينكن بقرار ظالم، جعلتني أدرك أننا جميعًا كصحافيات وصحفيين نقف سواسية أمام معركة مستقبلية يخوضها المحتل ضد أصواتنا جميعًا، فنحن نعيش في زمنٍ نحارب فيه من أجل قول الحقيقة ونقلها إلى العالم أجمع.. نحارب بأجسادنا وأصواتنا الحرة منظومة قهر استعمارية تعمل بلا كلل لبث الخوف في أرواحنا ووضع كاتم الصوت على أفواهنا.. هذا ما حصل معي وما سيحصل مع كل واحدة منكن.. فالصحافة اليوم كمهنة تواجه خطر البقاء ونحن جيشها الوحيد.

تضيف الصحفية لمى بأن التجربة الأخيرة التي مررت بها لم تكن الأولى، فقد سبق واعتقلت وأنا حامل بطفلتي الأولى كرمل بينما كنت أعمل في مؤسسة إيليا للإعلام في القدس المحتلة والتي أغلقت بالشمع الأحمر بقرارٍ حكومي، وحينها ،خضعت للتحقيق في غرف أربعة التابعة لمقر المسكوبية.. وقد استخدام المحقق حملي كأداة ضغط وترهيب لي، ليستمر بتهديدي بالاعتقال وولادة طفلتي داخل جدران زنازين السجن.

تتحدث بأنها خضعت لاحقًا لتجربة الزيارة لزوجي المعتقل في سجن جلبوع وأنا أحمل كرمل في أحشائي، ولا أنسى أبدا خصوصية هذه اللحظات واستثنائيتها، وقد عملت دائما على نقلها وكتابة تفاصيلها المؤلمة ، فلا خصوصية للمرأة الحامل أمام إجراءات السجن الرقابية، ولا خصوصية لطفلة حديثة الولادة ترى والدها للمرة الأولى من خلف زجاج سميك.

تستذكر غوشة قوة الدفع التي ركلها بها جنود الاحتلال وهي حامل بالشهر الـ9 حينما كانت تنقل صورة القمع الدائر في منطقة باب الأسباط عقب معركة البوابات الإلكترونية الحاصلة عام 2017.

أمّا عن اللحظة الأكثر يلامًا التي عاشتها عندما اعتقلت في 4/9/2022 أمام عيون طفلي الصغيرين ولم أملك حينها إلا أن أقول لهم "اطمئنوا، سأعود"، بالرغم من عدم إدراكي لما سيحصل معي لاحقًا.

تقول غوشة أنها كانت الأسيرة الوحيدة في القسم المدني لسجن هشارون، هذا يعنني أنها كانت الأنثى الوحيدة بين مئات المجرمين وأصحاب السوابق، وقد تعرضت للشتائم المباشرة منهم والنظرات التفحصية الدائمة التي لا تخلو من الإيحاءات الجنسية.

هذا إلى جانب تعرضي لسياسة التفتيش العاري والعزل الانفرادي في زنزانة شديدة الرقابة، أي بعدم وجود أدنى درجات الخصوصية للجسد.. ولا أنسى تعرضي للتوبيخ الشديد من قبل حراس غرفة الانتظار "الأمتناة" قبل خروجي للمحكمة في المسكوبية بسبب حدوث عطل في حمام الغرفة أدى لخروج الماء الممزوج بدماء الدورة الشهرية خاصتي والسبب كان هو رفضهم إعطائي للفوط الصحية.

وأشارت بأن هذه معاناة جمعيّة نعايشها نحن المٌستعمَرات الفلسطينيات، أمهات، أسيرات، صحافيات، زوجات أسرى أو حتى مواطنات عاديات، هذه معركتنا جميعًا بدون استثناء.

وختمت الصحفية لمى بقول للأديب الفلسطيني خليل السكاكيني "على الشعب أن يكون واعيًا أنه يمتلك أرضًا ولسانًا، وإذا شئت أن تقتل شعبًا ما، فاقطع لسانه واحتل أرضه".