كتبت الأسيرة المحررة دعاء الجيوسي..

كمال أبو وعر وطقوس الرحلة الأولى، بقلم دعاء الجيوسي

bfc5b0e6-3f45-4e4d-900f-871751d3c66f.jpg

 

على كوة صغيرة تعلو حائطاً بارداً في سجن النقب حطت حمامة بيضاء مظهرها يشي بالسلام والسكينة وهذا تحديداً ما شجع عدداً من نزلاء السجن على الإقتراب منها ، ولأن حلم السجين حرية أو على الأقل رؤيتها في أعين القادمين من سعتها إلى ضيق السجن تحمس أحد الأسرى وحاول أن يلمسها ،،، زامت وإستحال طائر السلام وحش يقاتل عن حياته قتال المُستميت ومع توترها نهره رفاق القيد ليبتعد عنها.

صبيحة اليوم التالي حلقت بيضاء اللون سالفة الذكر فوق السجن وقال من تابعها إنها كانت تتقصد بحركاتها لفت نظر أسير كان في أيامه الخوالي لا يُفوّت دقيقة من وقت الفورة دون ممارسة تمارين البناء الجسماني، أما اليوم فساعة الفورة باتت وقتاً مقتطعاً من بحر الأحزان لإستقبال التعازي والشرود الذهني فمحمد أبو الرب الشهير بكنيته التيع ومنذ إستشهاد رفيق السلاح والقيد كمال أبو وعر بات غارقاً في أحزانه لا يخرج منها ، تنبه أحد الأسرى للمشهد ونادى التيع بملأ صوته محمد هذه الحمامة تتقصدك أقسم بأمي وأطفالي أني راقبتها ساعة كاملة وهي تحلق بشكل عمودي فوق مكان وقوفك وغيري من رفاق القسم المجاور قال إنها أمضت ليلة البارحة بطولها تحاول التسلل لزنازنتك ما الأمر ، أبِتَّ من عشاق الطيور؟؟ نهره التيع ولم يقاوم فضوله فإسترق نظرة خاطفة نحو الطائر الذي أربك الساحة بسجنائها وسجانيها وهم بالعودة لزنزانته قبل أن يسقط على رأسه مغلفاً ورقياً إلتقطه بلمح البصر ظاناً أنه رسالة خاصة ألقاها أحد الأسرى حدق للأعلى فإذا بالحمامة ذاتها تقترب وتضرب سقف الفورة الشبكي بجناحيها ، خبأ الرسالة في ثنايا ملابسه وإنسل لزنازنته بهدوء.
أزال غلافها البلاستيكي فصعقه ما رأى وصرخ الله أكبر هذا خط يد كمال وذاك في ذيل الصفحة توقيعه !!! شيئان في الدنيا لا تخطئهما عيناي حتى لو سملها السجن وجه أمي فهو في ذاكرتي وشماً ، وخط يد كمال فقد ظل لسنوات صوته إليَّ بعد أن أكل الورم الخبيث حنجرته ، ولكن كيف لكمال أن يكتب رسالة؟! متى وأين؟ وما علاقة الطائر بالموضوع ؟ أيكتب من ثلاجة الموتى أو مشرحة أبو كبير ؟! يا الله أغثني فعقلي الذي أوقفته فجيعة فقد رفيق العمر عن العمل لا يُدرك ما يجري...

حَدّق في الرسالة فوجد إسمه مكتوباً على طرفها بطريقة معكوسة وكانت هذه طريقة تشفير رسائل العمل أيام المطاردة فتيقن أنه لا غير كمال أبو وعر أحد خط الورقة ودبج محتواها....توتر وبدأ يقرأ: 

حبيبي محمد : يا أخ القيد والسلاح من عتم نعش متهالك حشروني داخله في ثلاجات مسلخ أبو كبير أكتب وأنا على غير العادة لا أشعر بالبرد ، بل إن أيامي الأخيرة هي الأكثر دفئاً في حياتي رغم أني أمضيتها في ثلاجة،،، 
التيع العزيز في مكاني هذا لازالت روحي العسكرية مسيطرة عليَّ لذا تجدُني أتعامل هنا بسلوك الكمين أصمت ولا آتي بأي حركة وأراقب ما يدور...في ساعات الصباح أسمع وقع أقدام الحراس وجزاري المسلخ الذين يتنكرون بزي الأطباء أرى ضحكاتهم صفراء بلون شعورهم باردة كسحنهم أسخر من لكنتهم الغريبة وأوشك أن أصرخ في وجوههم يا أغبياء أمضيت سنوات سجني الستة عشر حراً واليوم عززت حريتي بكسر القيد لن تفهموا ما يدور حولكم ولا طقوس شعبي في الموت المقدس لذا سأواصل صمتي وكموني.....

محمد قبل يومين غلبني الشوق فحلّقت صوب جنين وعلى مدخل قباطية جلست أغني لساعة ( روحنا عالقواعد روحنا ) كان صوتي عالياً فقد قتلت يوم إستشهادي سرطان الحنجرة وفيروس كورونا وكل الأوجاع وخرجت روحي سالمة ، دلفت نحو بيت العائلة على إمتداد الطريق كنت أوزع قبلاتي على من أعرف ومن لا أعرف وضننت بجلها حتى وصلت حضن أمي قبلتها ألف قبلة وارتميت في أحضانها تحسَسُت وجهها كان القهر حفر عليه أخاديداً تمنيت لو أنها تراني كما آراها أو تطعمني بيدها كسالف العهد همست في إذنها إيه يا أماه كان مُناي أن آتيك بصورة غير هذه تحتضنيني على الملأ تزفيني عريساً وتغني لك نساء البلد يا أم العريس ...
كان الحلم أن تحملي أمجد وتهدهديه كما تفعل الجدات ولكنهم بددوا عمري وقتلوا أمجد وهو لا زال في صلبي،، لم ترني أمي بعيني رأسها ولكنني متأكد أن عيني قلبها رأتني وسمِعَت همساتي،، أمي يا محمد جبل من الصبر وأمة من الفداء ولكنها أم بكت يوم أسري ويوم محاكمتي ويوم إنعتاقي الأخير ،، للحظة خجلت منها لكثرة ما أتعبتها ولكن كلماتها بأن البلاد تطلب أهلهها وتحتاجهم خففت حدة خجلي .
طفت ببيوت إخوتي وأخواتي والأهل جميعاً عرفت كل من رأيت صغيراً وكبيراً حتى اولئك الذين ولدوا بعد إعتقالي ، في مسجد القرية كان أبي يصدح بصوته يرفع الأذان مُعلياً إسم الله بذات الطريقة التي كنا نزأر بها في ساح المعارك قبلت رأسه ويديه فتبسم ربما شعر بي وربما ألقى الله على قلبه بشارة الصبر فكانت هي سبب الإبتسامة.

فكرت في زيارة أضرحة القسام ورفاقه في بلدة يعبد ولكني أحجمت وقلت أراهم ويرونني في مستقرنا النهائي وكذا حدث عندما هممت بزيارة أضرحة نايف أبو شرخ ويامن فرج وغيرهم من الرفاق،،،،

أعذرني يا محمد بودي أن اكتب لك كثيراً لأبث شوق السنين وأعوض حرمانها ولكن الأصدقاء في مشفى الرملة قد يكونوا بحاجتي الآن سأشد رحالي صوبهم على أن أكتب لك مرات قادمة كثيراً ،،، صحيح محمد: قبل أن أختم رسالتي أتعرف أنني زرت عكا ويافا طفت بالبلاد كلها تنسمت عبير الجليل وهواء نابلس زرت غزة فرأيت المطايا تحمل المنايا وقوم يطلبون حياتهم وحريتكم بموت عدوهم فلا تبخلوا عليهم بطيب الدعاء...
أخيراً وليس آخرا بلغ رفاق القيد تحياتي وقبلهم عني واحداً تلو الآخر وأصرخوا جميعا في وجه السجان كمال باق شرارة في أفقكم خنجراً في عرقكم ومعولاً في سحقكم.

المحب لك وللأخوة والرفاق جميعاً 
كمال أبو الأمجد- اليوم الثامن للإنعتاق