​يكتب الأسير كميل أبو حنيش في ذكرى استشهاد الرفيقين مهندس الكتائب فادي حنيني وجبريل عوّاد

عبق الياسمين (اليوم الذكرى السنوية لاستشهاد الرفيقين فادي حنيني وجبريل عواد)

المصدر / مركز حنظلة للأسرى والمحررين

مركز حنظلة للأسرى والمحررين

يُصادف اليَوْم الثامن عشر مِن كانون الأول، مرور أربعة عشر عاماً على استشهاد القائدين الميدانيين في كتائب الشهيد أبو علي مصطفى الشهيدين الباسلين فادي حنيني وجبريل عوّاد، وبقدر ما تحمل هذه المناسبة مِن معاني وطنيّة  وانسانيّة وشخصيّة جديدة، لأنّها تحمل أيضاً معنى الشهادة، بحضورها العميق في وجدان  شعبنا وذاكرته الحيّة  في معركته التحرريّة البطولية الشاقة والطويلة، وتُسطّر في صفحات مشرقة وجميلة سطّرها أبطال هذا الشعب طوال هذا التاريخ من الصراع الطويل.

عرفت الشهيدين عن أكثر من قرب كنا إخوة وأصدقاء ورفاق الدرب والسلاح، وتذخر الذاكرة بالصور والمشاهد والمواقف الإنسانية والنبيلة التي يستنكف القلم أحياناً عن البوح بها لأسباب متعددة منها الخوف من خذلان اللغة ومنها الشعور بأنّ الوقت لم يحن بعد للبوح بأسرارها ومنها الرغبة بعدم الكتابة  مرة واحدة لشهداء لإبقاء الفسحة أمام القلم ليظل يكتب عنهم كلما حن القلب إلى هاماتهم وحكاياتهم المتلألئة في الروح.

عرفت الشهيد  فادي حنيني منذ كنّا فتية صغاراً في أزقة وحواري القرية زمن الانتفاضة الأولى بسنواتها الستة، وكنا منخرطين حتى النخاع في أنشطتها وفعاليتها، لدرجة أنها صارت لنا حياة ولم يصدق جيلنا الذي انغمس من رأسه حتى قدميه بأنشطتها وزخمها بأنها ستنتهي ذات يوم.

كان فادي من ذلك الجيل الذي انتمى بعمق للانتفاضة، ولم يكتفي لفعاليتها الشعبيّة وإنّما كان يتحرك شوقاً بالغوص أعمق في بحرها، وعشق والبندقية قبل أن يلمسها  فوقف يبحث عنها كل ما أوتي من إرادة وعشق وشوْق وعزيمة.

كان فادي فارساً  يتحلى بخصال الفرسان ونبلهم ورجولتهم، ولم أجد  له مثيلاً من بين كل ما عرفت في حياتي، كان صادقاً، ونبيلاً، ومحباً، وعاشقاً، وخلوقاً، وشجاعاً،  فكان لي شرف التعرف عليه مبكراً ومصادفته.

 وسندخل معاً محطة الجامعة حيث النشاط الطلابي الذي لا يهداً، ومع أنّها كانت سنوات جذرٍ على المستوى السياسي والوطني إلاّ أن بذرة الثورة كانت تنمو في أعماقنا فانضممنا لإحدى المجموعات العسكرية السرية أواخر التسعينات، ولم تلبث إلاّ أن اندلعت شرارة الانتفاضة الثانية فانخرطنا بها منذ الأيام الأولى وسرعان ما بدأت تتكشف لدى فادي مجموعة من السيمات القيادية الميدانية هذه كانت مجهولة وكشفت عنها مرحلة السلاح والدم والتضحيات وفي تلك السنوات التي شهدت على بطولات جيل كامل وتعمد فادي في نهارها  وغدى فارس الذي لا يشق له  غبار  ومع أن الوقت لا يحن بعد في كتابة الحكاية ذلك الفارس وفي المتاح حالياً أقول لم يتردد مرة في أي مهمة  مهما كانت خطورتها شارك في عشرات عمليات الفدائية وكان يتقن أي عمل تجده تارة مشتبكة في الميادين وتارة مهندساً للعمليات وتارة مخططاً بارعاً وأخرى منفذاً دقيقاً للمهمات.

كان فادي يعمل بصمت ولا يحفل بالمخاطر وكان يمثل نموذجاً فدائي الحقيقي الذي يكتفي بكسرة الخبز الجافة وكوب القهوة والقليل من السجائر بثيابه البسيطة وبتلك الابتسامة المزروعة بالهدوء فوق ثغره وفي في كل شئ ومصاب بذلك المس الرومانسي الذي يصيب كافة الحالمين في هذا العالم.

كان فادي يعشق الفعل ولا يتقن التنظير مغامراً بجنون ومع كل مغامرة كانت طباعه في دائرة الخطر كان  ينجو  ليس لحسن طالعه كان ينجو لأنه بحسه العفوي كان يدرك بأنّ الشجاعة في الميدان هي النجاح أمّا الشهيد جبريل عواد ذلك الشبل الذي شب سريعاً في زمن الفعل والسلاح عرفته طالباً نشطاً في اتحاد لجان الطلبة الثانويين وما أن غدا طالباً جامعياً بالتزامن مع اندلاع الانتفاضة الثانية سرعان ما إن انخرط بها ولم يتأخر حتى أصبح نسراً محلقا يطارد العادات في كل مكان.

كان جبريل رشيقاً وحيوياً تحركه بسرعة لم يتأخر عن أي مهمة بل كان يبتكر المهمات ويسارع في انجازها    وبصورة منفردة  وخلال شهور قليلة أصبح أحد القادة الميدانين البالغين ستشهد له الشوارع الالتفافية مفترقات الطرق والمستوطنات وأطراف معسكرات الجيش الاحتلالية كما ستشهد له أزقة البلدة القديمة بنابلس في اشتباكاته الليلية مع رفاق الدرب ضد قوات الاحتلال الغازية.

 كان جبريل هادئاً رُغم صوته الصاخب والمجلجل، ولا يكترث في المخاطر المحدقة شجاعاُ لا يعرف الخوف والتردد، شارك هو الآخر في  عشرات  العمليات الفدائية وكان يتقن التعايش مع كل ظرف مهما كان بالغ القسوة.

التقينا جمعياً في زمن المدّ الانتفاضي وتآلف الجميع في وقت قصير وكنّا منهمكين في العمل لم يتذمر أحد رُغم قسوة المرحلة ولم يتراجع واحد إلى الوراء، تصادق فادي وجبريل منذ الأيام الأولى لتعارفهما جمعتهم سمات واهتمامات وهمسات مشتركة ستجدهم في كل موقع معاً لا يكادون يفترقون إلاّ عند تنفيذ المهمات لا فراغ لديهما، ولا لديهم وقت لترفيه وكأنهم خلقا فقط ليكونا ثائرين.

كنّا بضع عشرات قليلة منّا من ذَهب إلى الأسر، ومنّا من ذَهب إلى عالم الشهادة ،وعندما تناهى إلى مسامعنا خبر استشهادهما معاً رُغم غصة الألم والدموع لم نستغرب استشهادهما معاً في ذلك اليوم يوم 18 ديسمبر عام 2003 أثناء اشتباك مسلح مع قوات العدو في أزقة بلدة نابلس القديمة.

وسيظل ذلك اليوم شاهد على احدى الصفحات المشرقة من صفحات بطولات الشهيدين من أبطال وقادة الانتفاضة الثانية وتركوا لنا تلك الذاكرة الجميلة الشاهدة على حكاية البساطة والبطولة والنضال المعمدة بالأصالة والكبرياء.

 وبهذه المناسبة نستذكر الجميع شهداءً وأسرى ومقاومين نستذكر جميع من وقفوا إلى جانب المقاومة واحتضنوا رجالها نستذكر العشرات من رجال نابلس وشبابها ونسائها الأمهات اللواتي كن جزءاً أصيلاً من الحكاية كل التحية إلى أم عسكر تلك المرأة العظيمة التي كانت أمنا جميعاً تلك التي فتحت بيتها لعشرات المطاردين من كل الفصائل وأطعمتهم واحتضنتهم فكانت مثالاً ساطعاً للمرأة الفلسطينية المناضلة والتحية أيضاً لأم وائل التي كانت أم عظيمة لنا جميعاً والتحية لسلام أم ابراهيم ولأم مروان ولأم مهند ولأم السبع وأم أحمد وعشرات الأمهات والنساء اللواتي شهدت نابلس على بطولاتهم ووفاءهن والتحية لكافة العائلات الكريمة التي احتضنت تلك المقاومة النبيلة والشريفة كل التحية لذوي الشهيدين فادي ولجبريل ولكافة أهالي الشهداء في فلسطين.

وبهذه الذكرى التي بحضورها تشبه عبق الياسمين وباسم كافة الرفاق والأسرى جميعاً في السجون طير أجمل باقات المحبة والوفاء المكللة بالاعتزاز والفخار لهذين الشهيدين الباسلين ولكافة شهداء شعبنا وثورتنا ولهم المجد والخلود ومنا العهد والوفاء.

انتهى