بقلم الأسير: إصرار معروف

مقال بعنوان: "عذرًا غسان كنفاني فقد رددت كلماتك بلغتي الريفية"

إصرار معروف.jpg

خاص_مركز حنظلة

عذرًا غسان كنفاني فقد رددت كلماتك بلغتي الريفية، ولم أكن صيق بندقية، وجراحي تنذف دمًا حتى إني لم أكن حاملًا جسدي والفكرة على قدميك (حامد)، لأجوب حيفا ويافا وعكا والناصرة، ولم يكن عام الـ48، أنها نكبة حديثة وهجينة من نوعها، فصفائح عربة البوسطة الحديدية الصدئة، ورائحة الموت التي تفوح داخلها، جعلتها تشبه عربة الدم، بهتت رنات صوتي، وقدماي تكسرتا تحت كرسي الشبح، وأنا مكبل بالأصفاد، والفكرة في وجداني تبلورت كشجرة برتقال، سأجوب شوارع القدس، فعجلاتها تدور ما بين حياة وعدم، من حياة الخديعة وخشبة المسرح في محكمة المعتقل إلى زنزانة الاستجواب عن الميلاد وثلاجات الموتى، ونحن هناك ما بين أنات وصمت وصوت الطرق على أبواب الزنزانة لنعلن الحياة في رفض العدم.

فبعد أن صعد إلى الثلث الأخير من العربة أحدهم واحتكاك أجراس الأصداف بأرضيتها مرسالًا، فصلت بيني وبينه ألواح حديدية مصفحة، حجبت ملامحه، لكنها كُشفت من نبرة صوته، عن قوامه الموثوق وشعره الأسود وجسده النحيل، وذقنه الخفيفة التي لا شك أن ازداد طولها في الأيام التي قضاها في مركز التحقيق، فقط أخبروني أنهم اقتادوه إلى هنا، بعد أن داهموا منزله في مخيم اللجوء، فقد كان صديقتي منذ الثانوية غادرت وتركتني أغوص في مذكرتي إلى ذكرى من الذكريات التي جمعتني معه.

وكان لها وقع صدى من المكان الذي أجلس فيه، وحتى الحديث الذي جرى لأحمل نفسي من على عتبة مدخل مبنى الكلية إلى هناك الى عتبات العدم حيث علقت جسدي خلف الجدران وبين القضبان الحديدية لأناجي السر مع نفسي، بين موت أو حياة، وغياب وعودة الأحبة وكيف تعود الحياة للحياة كالبشر، وكما نحن مثلها عند كل موقف في معركة الوجود والبقاء، والعودة بالحب باتت حياة من بعد حياة، معلقاً ساعداي على الجسر الحديدي المعلق الموصول بالدرج الذي يوصل ساحة الفورة والغرف والطابق السفلي بالطابق العلوي وغرفه الأخريات، فعرضه لا يتحاوز المتر.

وانحنيت بجسدي لأترك مساحة للمارة معطيًا ظهري للغرفة رقم (8)، فموقعها يكون بمنتصف القسم، وارمي بأنظاري فوق سنوات العمر المبعثرة في ساحة الفورة والتي تحاذي جدران القسم المجاورة للمقاعد، فأيام وأشهر وسنوات مسلوبة تقارع العدم خلف الجدران أمام عيني، كنت يومها متلقياً لخبرٍ أرى من مرارته التي تذوقتها لذة فرح، ومن رائحة الجرح حياة متجددة، لم أستطع البوح يومها لأحدهم، لا أجد سوى سيجارتي ورشفة القهوة الاخيرة التي تجرعتها من الكوب في يساري، أتك رماد الحريق الذي يدور بداخلي لا منها وحسب، وبكل شراهة أدخن لأنفث دخان السيجارة أمامي ليرسم لي صفاء وخلوة، وأجد نفسي عاجزاً امام ما يدور حولي وما تراه عيناي، وأرى كفة الألم تميل ارضاً تكاد تغلب كفة الأمل، لكن كان كفه الذي هوى على كتفي الأيمن أعدلها أو حتى أنه جعل الفرح يغلب الحزن، لأعود من شرودي أستمع لصوت الضجيج من حولي، بعد أن غادرته لأجده يعلق ساعداه كما أنا أقف ليحاذيني فتتوازى أكتافنا، نطق:

- شكلوا كان لازم أتركك لحالك؟

= بالعكس جيت بوقتك. استشعر من كلماتي أن ثمة أمر ما ليسأل:

- شكلوا صاير اشي ؟

صمت قليلًا دون أن أجب.. لم يتفهم سبب الصمت ليتركني في قراري لذلك، تاركًا لي مساحة اختيار البوح أو الصمت.

بدأت بعدها أتمتم له بعبارات متقطعة منفصلة، ليجمع هو بدوره صورة الأمر، ويجد بداخلي حمم البركان تصاعدت نحو الفوهة، تنذر بفوران بركان يغير ملامح الحياة بعد موتها.

فها هي تولد الحياة من جديد، سحب يسراه ليلقي بها فوق كتفي الأيمن.

= بهنييك يا صاحبي.

- على ايش بالظبط؟.. - بالفعل كنت في تيه عما أفرح ولما أحزن..

= أول اشي على حالك وبعدها على كل شيء..

تبسمت له وعدنا كما كنا ننظر إلى الأمام بالفراغ، لكنه اندفع ليردد لي قاعدة من القواعد التي نعي معناها جيدًا وفي كل ضجر وضيق نقولها "سالب بعد سالب.." تركني أكمل وحدي ختمت "موجب".

- بتعرف يا صاحبي.. - ملت بأنظاري يمينًا نحوه - الحياة مش 1+1=2 زي ما بعرف، كنت أقصد عني وعنه، رمقني بضرة غرابة، لكن لم تكن دهشته بلا نتيجة تعود عليه، فقد تمخض بركاني بقاعدة وقانون للحياة جديد.

- الحياة مش حساب يا جبر يا صاحبي، قلتها بنبرة خشنة، تجرعها وتذوقها، تشممها، تفحص بنظراته شفتاي بعناية، فعل كل شيء وقد خصص لها بالذاكرة مكانة بعد أن ألقى فوقها كل حواسه وعقله وقلبه، ليضرب بكفه على الجسر الحديدي

- هاي اجت بوقتها ومكانها الصح..

فها نحن سويًا نتفتح على الحياة معًا وعلى صفعاتها وعلى أزهار الفرح، نراقب الحياة بكل عناية، نخوض المغامرات والمعارك في المجهول وحتى الأحلام، فلنا سويًا ومعًا مساحة على الأرض نحتاز عليها بموطئ القدم، ولنا زمان خاص عليها، نجري في كل لقاء تحت الشمس وبراويز النجوم أو حتى بالعدم، حسابات وأفكار وشعائر وطقوس..

قبل أن ننطلق الى الحياة لنبحث عن حياة الفرح، فليس كل حياة هي حياة، فحياة الفرح هي وحدها ما تسمى حياة، تداولنا بعدها عدة أفكار سويًا، ونحن على هذا الحال، وقبل أن تنتهي موعد الفورة لذلك اليوم، كان اليوم العاشر من نيسان من عام 2021، وقد وصل بنا الحديث إلى حوار عفوي آخر .

- بتعرف شو يا صاحبي؟، التجربة قيمة كبيرة من راس مالنا بالحياة.

= طبعًا بس برضوا الحلم والحب والفرح ما بتركهم.

أراد بكلماته أن يخلط كل هذا بقالب واحد بشكل واحد ومعنى واحد، هي الحياة، فيجب أن تكون أثقل من كفة العدم، وأن نهتم لأن نضع في كفة الحياة كل ما نملك من حياة وفرح، لنغلب كفة العدم تلك.

- بالك شو أكتر اشي تحتاجوا بالحياة؟

= أيد تهدي على "الشتف".

وبكل هدوء أخبره عن ملامحها يد محبة وصدق وإخلاص وأمل، لم أكتفي، يد كل ما زاد الحمل على كتفك تعدل كفة الميزان لتظل بكل قوة وثقل.

وما أن تذكر بداية مجيئه ليقف جانبي ما فعل، هلقيت عاد ليفعل الشيء نفسه ويسحب ذراعه ويرمي بكفه على كتفي، ليؤكد لي القرب وأكثر ويقول:" أنت ترباية ذراعك، وزلمة وقدها"، كانت كلماته لوحدها تكفي لو أنه لم يكن معي..

بقلم الأسير الرفيق الطالب في جامعة بيرزيت إصرار حاتم معروف 24 عامًا من قرية عين كينيا شمال غرب رام الله، والذي ما زال رهن الاعتقال الإداري، ويحرمه الاحتلال من استكمال دراسته