بقلم الأسير: نادر صدقة

مقال بعنوان: حتمية التطرف في المجتمع الصهيوني

خاص_مركز حنظلة

إن الاضطراد الذي ورد في العنوان أعلاه يمكن أن ينحى منحى المغامرة بالطرح، ويحتاج إلى العديد من الإسنادات لدعمه خصوصًا أن المتتبع لتاريخ الكيان الصهيوني منذ نشوئه يرى العديد من التيارات والمجموعات السياسية والأكاديمية التي حوّلت لواء النقد العلمي للتيار العام ورؤيته عن نفسه، وبعض المجموعات الأخرى ربما جنحت نحو اليسار والأفكار الاشتراكية والأممية، والمعارضة الفاعلة للمؤسسة وفكرها وأساليبها، مما يجعل التعميم في الحكم على المجتمع الصهيوني وكأي تعميم يأخذ الصيغ المطلقة خطأ نسعى إلى تفاديه.

وعند نقاش موضوع التطرف ووضعه في إطار من حتمية المصير للكيان الصهيوني، وليس الاستثناءات التي برزت هنا وهناك وخلال هذه الفترة أو تلك، بينما القاعدة الأساسية التي حكمت توجهات وأفكار وممارسات وحتى أصل وجود المشروع الصهيوني، وجعلت تلك الاستثناءات ونقاط الضوء التي ظهرت في سياقه مجرد طفرات وجدت وذابت ضمن إطار من التهميش والنبذ الرسمي الشعبي.

وليس مصادفة أن يرى المتتبع لمسيرة هذا الكيان وتجلياته المختلفة التي ظهرت بها خلال السبعون عامًا من وجوده، ولمسيرة هذا المشروع الذي وُضعت أساساته منذ نهايات القرن التاسع عشر يجد منحًا تصاعديًا في منهجيته النظرية القائمة على كتلة من عقد العظمة والاختيار والكراهية المرضية للآخر، أيًا كان هذا الآخر وفقًا لأولويات الزمان والمكان، وعدد من العقائد القديمة والحديثة التي تقتات على معتقدات الأرستقراطية الدينية وسموم التفوق العرقي وأمراض القومية الحديثة ورهاب الفصل والتمييز، ليّشكلوا معًا توليفة إطار نظري لكيان شوفيني إقصائي لا مفر من جنوحه في المحصلة للتطرف الفاشي، تداخلت كل توهماته عن نفسه وأعطت لمعتنقي الفكر والحلم والشعار الصهيوني هذا الشعور القائم على مصداقية كونهم الصفوة الارستقراطية المختارة إلهيًا من جهة، وطبائع المشروع القومي المتفوق التقدمي الحداثي الرائد من جهة أخرى. وهذا الإحساس لا يختلف لدى الأغلبية العظمى من مكونات المجتمع الصهيونية بتوجهاته المختلفة، علمانية كانت أو متدينة ليبرالية أو محافظة، يمينية أو تدّعي اليسار.

ومفيد الإشارة، هنا إلى أن المجتمع الصهيوني يهذي بترف التعددية والاختلاف، في حين أن مجرد نظرة على ثوابته ونقاط الإجماع فيه، تبين أن هذه الاختلافات ليست إلا مسميات مختلفة بجوهرٍ واحدٍ أدى ومازال نفس الدور في الكيان الصهيوني كمشروع امبريالي استيطاني إحلالي إجلائي إقصائي عنصري دموي منتشٍ بخمر اندماج القوة العضلية بالهوى السامي وجنون التفوق والاختيار.

أحد ثوابت إجماع الطيف السياسي والأغلبية الشعبية هي الإيمان العميق بحكمة القدر المتجلي وتحققه، وبناءً على هذه الفكرة فإن نجاح الحركة الصهيونية بتأسيس كيان في فلسطين على الرغم من كل المعيقات الذاتية والموضوعية من عدم الثقة بين جموع اليهود بالفكرة إلى معارضة الإمبراطورية العظمى المسيطرة على المنطقة بشكل فعلي، وصولًا إلى محيطٍ معادٍ مسلحٍ بأفتك أدوات الدمار والأفكار، إضافةً إلى شبح الموت الذي كان يطارد الوجود اليهودي في كل أصقاع الأرض وهلم جرا من هذه الأشباح والأكاذيب, وهذا النجاح يتجاوز التحليل المنطقي والتفسير العقلاني، وهو لم يكن لولا تحقق معجزة حقيقية رعت هذه البذرة وحمتها من كل المخاطر والمؤامرات ومازالت تفعل إلى أن صارت تلك البذرة شجرة مثمرة تهدي للعالم ثمار الخير والتقدم والحرية والديمقراطية، وعلى الرغم من علمانية الفكر الصهيوني إلا أن التصالح مع هذا الاعتقاد والذي كان بداية صيغة برغماتية تسعى إلى خدمة الفكرة والمشروع الثقافي والسياسي الصهيوني, أصبح لاحقاً حقيقة لا يرى الفكر الصهيوني تناقضاً في تبنيها وتصديقها كأمر فعلي لا سبيل لنقده.

إن مسوغات اختيار الصهاينة لأرض فلسطين دون غيره، والحديث هنا يتعلق بالمسوغ النظري الذي قُدم للاستهلاك الداخلي في المجتمع اعتمدت أساساً على حملة من المعتقدات والنصوص التوراتية التي ربطت مصير بني إسرائيل "الشعب اليهودي" حسب التعبير الصهيوني الحديث بتعبيرات الوصايا الإلهية المباشرة والوعود والضمانات بين اله اليهود وشعبه المختار إضافة إلى التعبيرات والأوامر والسنن الهجومية الدموية المتغطرسة التي تمجد إبادة الآخر وتُقدس الحرب والتدمير وتُشرعن المحرمات الإنسانية، هذا على صعيد الأصفار التوراتية، أما باقي أركان الديانة اليهودية التي صيغت وتطورت عبر تطور التاريخ اليهودي، فمليئة بأساطير البطولات والتضحيات كأُسطورة الماتسادا، أو بطولات الثورات المكابية وغيرها من القصص التي نسجت على منوالها والتي كانت بمثابة العماد التي قامت عليها الصهيونية لخلق ماضٍ قوميٍ يهوديٍ في حين لم تكن هذه القصص والأساطير سوى حكايات عن الهزيمة والفشل الذريع عملت الصهيونية على تمجيده وتحويله الى ماضٍ بطولي, وشهدت طواقمها الأكاديمية على تقديم أساس علمي له مما ساعد في تشكيل مجتمع غارق في القومية الرومانسية ذو توجهات توسعية عدائية وجنون عظمة ورهاب طرنوي مزمن.

هذه النتيجة لم تأتِ كنتيجة للمضمون المقدس وحده إنما هناك البذرة التي زرعت في تربة روايات الشتات اليهودي والمظلميات التاريخية التي مر بها هذا الوجود أينما حل مع التركيز المركزي وفي كثير من الأحيان الحصري على الحوادث والفترات التي وقع  فيها هذا الوجود ضحية التميز الديني تارةً والعنصري السياسي الاقتصادي تارةً أخرى، وهو قوس واسع طرفه في السبي البابلي والطرف الآخر في الحرب العالمية الثانية، وهذه الأخيرة إضافة إلى أنها أساسًا كانت حصيلة سباق طويل من المزاحمة والمنافسة الامبريالية الاستعمارية فقد زاد من شراستها ودمويتها أن هذا الأساس أُقحم في جملة من الدوائر الأيديولوجية الدينية المتطرفة التي اقتاتت على مفاهيم التسوق العنصري العرقي وأحلام السلطة والمجد التي سيطرت على مفاتيح القرار في معظم دول القارة الأوروبية في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين والتي كانت الحركة الصهيونية ومازالت  ربيبتها المخلصة وفي حين اطاحتها في الدول الأوروبية وأفرغت جل ما فيها من سموم التميز العرقي والعنصرية وعبادة الذات والسجود للقوة وأحلام المجد التليد والعتيد ظلت الحركة الصهيونية بعيدة عن هذا التطاحن واستمرت في اجترار مبادئه ومفرداته، والأنكى من كل ذلك الاستفادة منه حتى الثمالة في تعزيز ثنائية الشتات والعودة التي أحاطت به روايتها للتاريخ، واستغلال جرائم النازية بحق التجمعات اليهودية في المناطق التي سيطرت عليها في أوروبا -النازية- لتسويغ احتلال فلسطين وتقديم أرضها وشعبها كبش فداء لأحفاد إسحاق من جهة، ومن جهةٍ أخرى تعزيز الرهاب الصهيوني من الآخر عبر بناء مظلة من المشانق والمخانق والمحارق وإدخال المجتمع الصهيوني في ظلالها وحقنه باستمرار بأوامر استهداف تقمص دور الضحية الأزلي وضرورات استلام اليهود لزمام أمورهم وأقدارهم و مصائرهم ومفردات مثل (لا مزيد، المسادة لن تسقط مرةً أخرى، كل العالم ضدنا، المذبحة لن تعود..) وما إلى ذلك من العبارات والتصورات، إضافة إلى جملة من الأنشطة الإعلامية والثقافية والأكاديمية التي دأبت من خلالها إلى شيطنة الاختلاف والمختلفون وكل من يقف في وجه مشاريع الهيمنة والنفوذ الصهيوني.

 وبهذه الإجراءات وبأخرى كثيرة غيرها عملت الحركة الصهيونية على إغلاق الإطار القومي الرومانسي المفتوح فقط على مزيد من الاغراقية والتطرف ولم يقتصر النشاط الصهيوني على المستوى النظري فقد انتقل ومنذ مرحلة مبكرة من عمر المشروع إلى الأنشطة العملية التي خطت فيها الخطوات الأولى في مسار ما زال يمضي بتسارعٍ متزايدٍ فيه إلى يومنا؛ فمنذ أن ضربت الحركة الصهيونية أول وتد في المستعمرة الزراعية الأولى في أرض فلسطين كان هذا الوتد جزء من جدار سلكي يفصل الأرض عن محيطها في إضافة جديدة على طبيعة المجتمع المستهدف في عملية الاستحواذ والسيطرة، وبدأت نشاطها الاستيطاني الاجلائي بتشكيل المغتصبات المتلاحقة في أرض فلسطين مروراً بالقوانين التي سنتها الحركة في هذه المغتصبات والقائمة على المفاهيم العنصرية والعرقية، ففي قانون يهودية العمل مثلاً الذي  طبق في عشرينات القرن الماضي وبناءً عليه, تم الاعتماد على العمالة اليهودية بشكل حصري في المشاريع الصهيونية وما ترتب على ذلك من طرد وإقصاء للأيدي العاملة العربية الفلسطينية، إضافة إلى تأسيس النقابات اليهودية الحصرية المنفصلة عن النقابات المحلية القائمة، وصولاً إلى إقامة التشكيلات العسكرية اليهودية للضرورة والقائمة على أساس العدوانية المستمرة والمتصاعدة للمحيط.

وبالحديث عن هذه التشكيلات يمكننا أخذ عينة أوسع للإطلالة على طبيعة النهج التصاعدي للعدوانية والتطرف الصهيونيين في حين مازال المشروع الصهيوني يحبو في أول الطريق، ولمزيد من التوضيح كانت الشعارات العمالية والثورية والقيم الأممية تزين شعارات مركز القرار فيه، فأول التشكيلات العسكرية الصهيونية كانت منظمة (هاشوميرهتساعير/ الحارس الفتي) والتي بدأت بتشكيل كشفي غير مسلح يركز على التدريبات البدنية والعمل الحراكي لحماية المنشآت المختلفة في ظاهره، أما الباطن فكان منظمة تعمل على جمع وتخزين السلاح وتمر بتجنيد عملي ونظري متطابق إلى حد الذهول في الأساليب والمفاهيم النازية، ولا عجب فقد أبدى قادة المشروع الصهيوني حماسة عالية لهتلر والحكم النازي وأفكاره مطلع الثلاثينيات، وقد تفرعت من الحارس الفتي تشكيلات عسكرية عديدة سنركز على ثلاث تشكيلات شبه نظامية حفرت أسمائها بشكل أكثر عمقاً في الذاكرة الجمعية الفلسطينية وقع على عاتقها القيام بالنشاط الحزبي التأسيسي للمشروع الصهيوني، وهو ما يمكن اختزاله بعملية تطهير عرقي واقتلاع همجي وتدميري بلا حدود للمجتمع والوجود الفلسطيني، وهذه التشكيلات أو العصابات هي (الهاجانا، الارجون، شتيرن) التي اندمجت لاحقاً في العام 1949 بتشكيل الجيش النظامي في دولة الكيان.

وفي نظرة إلى ظروف تشكلها تبرز سياقاً متواصلاً ومتصاعداً من الإرهاب والتطرف، فعصابة الهاجانا تشكلت في العام 1920 لتتولى مسؤولية الدفاع -كما يوحي اسمها- عن المغتصبات الصهيونية والتي لن ندخل في تفاصيل وظروف تشكيلها وآليات عملها، فما يهمنا هنا إلا أن جزء من ضباط وضباط الصف في هذه العصابة - وعلى الرغم من كل إبداعاتهم الإرهابية ضد الوجود الفلسطيني بعد حوالي عقد على إنشائها وتحديدًا في العام 1931 - انفصلوا عنها بحجة أن نشاطاتها دفاعية أكثر مما ينبغي، وقاموا بتشكيل عصابة الأرجون، والتي بطبيعة الحال مارست نشاطاً أكثر تطرفاً وعدائية، إلا أنه وعلى ما يبدو تطرفهم ذاك لم يكن كافٍ لإقناع جزء من أعضائها وبعد عقدٍ آخر تجديداً عام 1941 انشق عن الأرغون عدد من نشطائها وشكلوا عصابة شتيرن بحجة أن الأرجون ليست حازمة كما يجب، أو لا تنافس على العدوانية, وهو ما يميز وما يزال كل الوجود الصهيوني بمختلف تشكيلاته وتعبيراته عسكريةً كانت أم سياسية أم ثقافية، لذلك فهي تستمر بالانشقاق من المتشدد الى الأكثر تشدداً من العدواني إلى الأكثر عدوانية ومن الغوغائي إلى الأكثر غوغائية، في محاولة لكسب ود مجتمع يعيش في دائرة من المفاهيم التي سبقت الإشارة إليها، فلا يمين في المجتمع الصهيوني ولا يسار ولا وسط إلا من رحم ربي إذا ما تعلق الأمر بتحديد الوجود الصهيوني, فما بالك بكيان قائم بكل مرتكزاته السياسية والاقتصادية والفكرية والمجتمعية على هاجس التهديد الوجودي المستمر.

إن فهم مكونات المشروع الصهيوني لحقيقة التهديد المستمر الذي  يحيط بوجوده وكيانه والناتج تلقائياً مع فهم الطبيعة غير المنسجمة لهذا الكيان مع ثقافة وتاريخ وحضارة المحيط من جهة، وللطبيعة التي تم من خلالها زرع هذا الكيان في الجسم العربي عموماً والعربي الفلسطيني  خصوصاً، وما تركته من آثار في الذاكرة الجمعية القومية والوطنية العربية، ناهيك عن استفزاز المشاعر الدينية الحاصل بالضرورة كنتيجة لحساسية أرض فلسطين لما تمثله من قيمة ورمزية دينية للديانات السماوية كلها، وما ساهم به هذا العامل بزيادة في حدية التناقض الوطني والقومي بين المشروع الصهيوني وما يمثله من اتجاه قومي ديني، وبين الأمة العربية بخلفيتها الثقافية المختلفة، كل هذه العوامل وغيرها الكثير والتي تزداد حدةً ونفوراً بالتقادم وليس العكس على الأقل على مستوى الشعوب أدخلت المجتمع الصهيوني في حالة من الدوران حول نفسه وعبادتها والسجود لها ودأبت المؤسسة الرسمية على تحصين هذه الحالة التي سعت من خلالها وكمؤسسة دولة استعمارية إلى احتواء المجتمع الصهيوني داخل دائرة الموافقة والإقرار بكل ما يصدر عنها من قولٍ أو فعلٍ دون امتلاك أي حس نقدي منطقي في محاكمة الأمور، ولقد ركزت المؤسسة الصهيونية في ذلك على جانبين أساسيين في المجتمع هما التعليم والعسكرة ودمجهما معاً.

ففي الجانب التعليمي خضع المجتمع الصهيوني منذ بدايات مشروعه إلى مسلسل من التلقين العقائدي المرتكز على المركزية العرقية والانتخاب الإلهي والمجد التاريخي والبطولة الأسطورية والنهضة العصرية ومفاهيم الرقي الأخلاقي، وما إلى ذلك من أساليب أدت بمجملها إلى تجليات متزايدة طرديًا من التعصب واللاعقلانية وتغول إيديولوجية الهيمنة، وهكذا تأسس في المشروع الصهيوني نظام عقائدي عنصري مغلق ليس سوى أداة محافظة تحكمية تجرم كل نقد وتحرم كل اختلاف يعمل على تخريج أجيال متعاقبة محملة بالعنصرية الإقصائية ومسكونة بالطهورية والاستكبار وكره الآخر في داخله ومن حوله، وهذا الآخر ليس سوى العربي الفلسطيني أولًا وكل ما هو غير يهودي الذي يتعلم كيفية إنكار معاناته وحقوقه ربما وجوده أيضًا.

وبأخذ فكرة عن هذه المنهجية في المؤسسة التعليمية الصهيونية يمكن الاستعانة باستطلاع رأي نشرته إحدى المؤسسات المتخصصة في الكيان بين طلاب المراحل الثانوية في أعقاب تنفيذ أحد المتطرفين الصهاينة لمجزرة الحرم الإبراهيمي عام 1994 في الفترة التي من المفترض فيها أن تعكس توجهات ايجابية لإنهاء الصراع العربي الصهيوني حول رأيهم في المجرم وجريمته، وكانت النتائج على النحو التالي 15% من المستطلعة آرائهم من بين الطلبة أسفوا لأن المجرم لم يكن يحمل قنابل يدوية في جعبته، 40% منهم لم يروا في العمل جريمة وإنما نتيجة طبيعية لجرائم الشعب الفلسطيني، 20% فقط عبروا عن نفورهم من الجريمة، وللتذكير فإن المجرم "باروخ جولدشتاين" والذي تحّول قبره إلى مزار تئمه جموع الحجيج فتح نار رشاشاته على جموع المصلين من خلفهم بينما هم سُجد، وهذا الاستطلاع تم على عينة من طلبة مدارس مدينة "تل أبيب" وليس مستوطنة "كريات 4 " في الخليل، بمعنى أن النتائج ستكون متطرفة أكثر في هذه المستوطنة.

أما عن العسكرة فالثقافة اليهودية ولاحقاً الأيديولوجية الصهيونية تركز على السجود لفكرة القوة وتمجد الأساطير التي يظهر فيها الطرف اليهودي الذي لا تنقصه القوة ولا يدخر جهدًا في  استخدامها، فمن يعقوب وصراعه إلى موسى وعصاه، فيوشع ومزاميره، مرورًا بداوود ومقلاعه وسليمان وجبروته، وصولًا إلى شمشون وجدائله وحتى المعجزات المتكررة التي لازمت الوجود اليهودي ورعت وجدوه في شتاته خلطت الرواية اليهودية الإنساني بالإلهي وهو ما استثمرته المؤسسة الصهيونية في الحديث ليُبنى مجدها على القوة المنضوية تحت جناح المعجزة.

وعلى الرغم من قوة وحجم وهيمنة الصناعات العسكرية في الاقتصاد والسياسة الصهيونيتين ومستويات النمو الهائل لها في السنوات الأخيرة وبشكل أثر سلباً على مجمل الاقتصاد في دولة الكيان، فإنما يعنينا هنا هو العسكرة كثقافة شائعة في المجتمعات ذات التوجهات القومية المتطرفة الأقرب إلى الفاشية والتي يعبر المجتمع الصهيوني بكل تجلياته على عينة مثالية له؛ فهذا المجتمع لأسباب موضوعية تتعلق بحقيقة وجوده الهش في وسطٍ معادٍ من كل النواحي سيتحول للعسكرة بالضرورة، إلى أن هنالك عوامل ذاتية لا تقل أهمية في الأيديولوجية القومية الصهيونية تدفع بقوة في هذا الاتجاه؛ فاستخدام القوة العسكرية كان ومنذ نشأة المشروع جزء من هذه الأيديولوجية وليس مجرد تحرك تكتيكي فمن شأن عسكرة المجتمع أن تضمن الحصول على الالتزام التام من كل مواطن في الدولة، وتحالف الذاتي مع الموضوعي هو ما يفسر سبب التجنيد المستمر للفتيات في الكيان ودعوة الرجال لقوات الاحتياط حتى سن الخامسة و الخمسين.

وللتدليل على القيمة العسكرانية في المجتمع الصهيوني يمكن ملاحظة التقييم العام لكفاءة الفرد في المجتمع للانخراط في الجيش الصهيوني حيث يتم التركيز على القدرة الفردية للالتحاق بالوحدات القتالية، فإن أهلت تلك القدرات صاحبها فإن فرص الحصول على مستقبل مهني أو تعليمي بالنسبة إليه أفضل بكثير من أولئك الذين لم تؤهلهم قدراتهم، والذين لا يتم استيعابهم في الجيش أو يتم إدراجهم تحت بند أن لديهم ميول نحو السلمية.

تلك الهالة التي تحيط بأفراد الوحدات القتالية وتلك الثقة التي يمنحهم إياها المجتمع بحيث تشّكل الصفوة منهم مخزون القيادات السياسية في المجتمع وهكذا يحمل هؤلاء نظرتهم إلى العالم، وطريقة فهمهم فيه إلى أساليب التعاطي فيه إلى مراكز الخلاص في المجتمع، وهو ما ساهم ولا يزال في إبراز الكيان الصهيوني كعنصر بالغ النشاط والعدوانية في المشهد الإقليمي.

 وقد كشفت العديد من الأبحاث الأكاديمية من داخل الكيان أو خارجه عن مدى التأثير السلبي لتلك المساحة المسكونة بالحس العسكري لدى الصهاينة على إمكانيات التغير فيما يتعلق بقضايا السلام والديمقراطية والمساواة ومدى إسهام هذا الحس في المقابل بمزيد من مدعمات ودوافع التطرف القومي والديني، خصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار رجاحة كفة التيار الوصولي في المجتمع الصهيوني داخل المؤسسة العسكرية وهو ما يضيف للعدوانية الصهيونية العسكرة بعدًا مقدسًا.

أما عن دمج العسكرة في التعليم فللمؤسسة الصهيونية باع طويل في هذا المجال وقد عمدت منذ البدء إلى بث الروح العسكرية في النظام التعليمي عبر متابعة الأفراد من مرحلة رياض الأطفال وحتى الثانوية بطريقة تضمن إعدادهم للبيئة العسكرية وقيمها حتى بلغ الأمر وزارة الثقافة في الكيان إلى اعتماد مستوى اللياقة البدنية اللازم للالتحاق في الجيش شرط التخرج من الثانوية، إضافة إلى خطط التعليم التي تشتمل على المشاركة في المناورات العسكرية والحربية ودروس العقيدة العسكرية ودراسات أرض وشعب "إسرائيل" وهي كلها أجندات تهدف إلى زيادة الحماسة لدى الطلاب للالتحاق بمؤسسة الجيش.

 هكذا ضمنت المؤسسة الرسمية في الكيان الصهيوني التزام المجتمع بالسردية المؤسساتية في الواقع والماضي والحاضر، وتحكمت بمفاتيح الوعي الشعبي الذي قدمت له وجبات دسمة وبدون انقطاع عبر وسائل الإعلام والثقافة والتعليم من الأفكار والمفاهيم والتصورات شكلت خلالها تصور المجتمع عن نفسه وعن دوره التاريخي ورسالته الإنسانية وكأنه لا يخطئ ولا يعتدي ولا يهزم، ومهما كانت الصورة المقابلة واضحة فإن الذهنية الجمعية الصهيونية ستبحث عما يبرر قتامة المشهد، وبما أن الهوية الثقافة لمجتمعٍ ما تتشكل وفق الواقع التاريخي وطريقة تأثير السلطة السائدة لهذا الواقع فان نتائج التأشيرات السائدة في المجتمع الصهيوني فتحت أبواب التطرف على كل مصارعه، وليس هناك من مفر يجنب هذا المجتمع النتائج الوخيمة لهذا النهج.