بقلم الأسير: كميل أبو حنيش..

مقال بعنوان: "دورٌ يبحثُ عن بطل" الحلقة العاشرة والأخيرة

كميل أبو حنيش.jpg

مركز حنظلة_فلسطين المحتلة

الحلقة العاشرة والأخيرة: الجبل والغنائم 

لا تزال حكاية الجبل والغنائم في معركة أُحد التاريخية ماثلة في الوجدان العام، وإحدى الرمزيات التي يمكن استحضارها كمثلٍ يكاد يُلامس الحالة الفلسطينية، وتتلخص حادثة معركة أحد، حين تهامس المكلفون بحراسة الجبل، وآثروا مغادرة مواقعهم، ظنًا منهم بانتهاء المعركة، وأنه صار يتعين عليهم المسارعة لأخذ نصيبهم من الغنائم، مما نجم عنه خسارة المعركة لصالح عدوهم ولم يَتحصّلوا على أيةِ غنائم.

وتعد إشكالية تداخل مرحلة التحرر الوطني بمرحلة تشكيل السلطة/ الدولة في الحالة الفلسطينية، إحدى أهم الأخطاء الفادحة التي وقعت بها حركة التحرر الفلسطينية؛ فالمرحلة التحررية لها قوانينها وشروطها وأولوياتها المنطوية على دفع استحقاق الواجب الوطني في حين مرحلة السلطة/ الدولة لها أيضاً قوانينها وشروطها، وما تنطوي عليه من صراعاتٍ وتناقضاتٍ اجتماعية وطبقية عنوانها العام البحث عن الحقوق. بعبارةٍ أخرى ثمة صراعٍ وتناقضٍ بين الواجبات والحقوق.

إن إقامة سلطة أو كيان سياسي قبل إنجاز معركة التحرر الوطني، من شأنه أن يُفجر تناقضات اجتماعية لم تشهدها المرحلة التحررية، إذ تَتحوّل السلطة الجديدة (الغنائم) إلى نقطة جذب لتحقيق المصالح الذاتية والفئوية والحزبية وحتى العشائرية والاجتماعية، فيجري نسيان المعركة، وتصور نهايتها مما يعني مغادرة الحالة النضالية (النزول عن الجبل) والبحث عن الحقوق والمغانم في إطار السلطة.

إن ما حدث مع الفلسطينيين في مرحلةِ تشكيل السلطة وما بعدها يشبه إلى حدٍ بعيد ما وقع مع حراس جبل أحد ومغادرتهم مواقعهم لنيل حصتهم من الغنائم. ففي مرحلة تشكيل السلطة تسابق الناس إلى الغنائم بعد أن ساورهم وهم انتهاء المعركة، وأننا قاب قوسين أو أدنى من الدولة.

وتعتبر المرحلة بين سنوات 1993-2000 هي المرحلة الأولى لتدافع الفلسطينيين نحو السلطة وامتيازاتها وغنائمها الصغيرة والكبيرة، وهو ما أدى إلى انحسار النضال ضد الاحتلال، علاوةً على حدوث انقسام وطني في تلك المرحلة، فضعفت المقاومة إلى أبعد حد نتيجة لملاحقتها من الطرفين: السلطة والاحتلال. 

وحين وصلت المفاوضات السياسية إلى محطة كامب ديفيد وجد الفلسطيني ظهره مكشوفًا، ومن دون أدوات وأوراق قوة تسنده في العملية التفاوضية، فاندلعت الانتفاضة الثانية، ولكن من دون مشاركة الغالبية العظمى فيها مقارنةً بالانتفاضة الأولى، ويكمن السبب في وقوع الشعب الفلسطيني في أغواء السلطة، وبالتالي عزوف الغالبية عن الفعل النضالي، وكشفت الانتفاضة الثانية عن ضعف وعجز النخبة السياسية، حيث لم تتمكن من قيادة الانتفاضة، عبر تشكيل الأطر القيادية اللازمة لإسنادها وتوجيهها. وبعد انحسار الانتفاضة آثر الجميع النزول عن الجبل والمشاركة في السلطة السياسية والنتيجة وقوع الاقتتال بين طرفي السلطة، وانقسامها إلى سلطتين وخطابين، ولا نزال حتى الآن في مرحلة الانقاسم الوطني، وهي المرحلة الثانية ( 2006 حتى اليوم).

إن إشكالية تجسيد السلطة في خضم المعركة التحررية، ينطوي على مخاطر جمة، وأول تلك المخاطر، افتقاد السلطة للاستقلالية التامة عن السلطة الاحتلالية، حيث تبقى مفاتيح التحكم بأيدي الاحتلال، بهدف السيطرة على السلطة الوطنية واستغلالها وابتزازها وسلب سيادتها الفعلية، والعمل على تحويلها إلى أداةٍ في خدمة الاحتلال؛ فتظل السلطة الوطنية معتمدة على السلطة الاحتلالية، التي تمعن في إضعافها، وتعميق تبعيتها للاحتلال، وتجد السلطة نفسها عاجزةً عن اتخاذ أي قرار مصيري من دون إذن السلطة الاحتلالية صاحبة السيادة الفعلية على الأرض.

وثاني تلك المخاطر يَتمثّل بالاحتمالية الكبيرة لحدوث الانقسام؛ فانجاز جزء من المعركة التحررية دون حسمها بالكامل، يحمل في طياته الانقسام، ما لم تتفق مكونات الحركة التحررية سلفاً على مشروع السلطة، فيندلع اقتتال أو صراع سياسي بين الذين يفضلون مواصلة العملية التحررية، وبين الذين يؤثرون تشييد السلطة، فينجم عن هذه العملية إضعافاً للحركة التحررية وافتقادها لزمام المبادرة، ويتهم كل طرف الطرف الآخر بافتقاده الشرعية الوطنية.

وثالثاً، تؤدي عملية التدافع على تشكيل السلطة وغنائمها، إلى بروز التنافس بين الفئات الاجتماعية والسياسية، وانفجار تناقضات متنوعة، كانت مؤجلة في المرحلة التحررية، كالصراعات الطبقية والاجتماعية والسياسية، وتنشأ مراكز قوى في لب السلطة وعلى أطرافها، لن تلبث أن تتطور وتتنامى لتصبح صاحبة القرار الفعلي، وتنهمك السلطة القائمة في محاولة إحداث توازن بين متطلبات تصديها وتوفيرها للاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبين مهمة استكمال المرحلة التحررية.

وفي المقابل تواصل القوى التي لم تشارك في السلطة أعمال المقاومة، وإن بزخمٍ أقل بكثير، وبشرعية أقل ما لم تتنامى قوتها وتكتسب حلفاءً جدداً، وتثبت بالملموس أنها الأجدر بالقيادة السياسية والتحررية، في حين يسعى الاحتلال إلى إضعاف الطرفين السلطة والمقاومة، وفي المحصلة تبدو المعركة التحررية عرجاء ومشوهة بفعل انقسام الحركة الوطنية التحررية.

ورابعًا، ينشّد المجتمع مع الوقت للسلطة القائمة، التي تفرض بوجودها واقعًا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا يتعذر تجاوزه، إذ أن السلطة تتطور مع الوقت لتصبح كيانًا دولانيًا له شرعيته المستمدة من الواقع، وبما تُمثّله من مصالحٍ طبقيةٍ لعموم المجتمع، علاوةً على الاعتراف بها من قبل معظم الأطراف الدولية والإقليمية، أما المقاومة فتبدأ بالاضمحلال لصالح الانشداد للسلطة، فتجد المعارضة نفسها منخرطة في صيغة ما في السلطة، مع بقائها في موقع المعارضة، وتغدو مرتهنة لقواعد اللعبة السياسية الجديدة. وهكذا تنعقد شروط المعركة التحررية، وتتفاقم أزمتها، فتجد جميع الأطراف نفسها مُكبّلة غير قادرة على إنجاز عملية التحرير بشروط العملية السياسية، ولا هي قادرة على العودة إلى مرحلة التحرر الوطني، فتبرز بعض الظواهر المقاومة الهامشية التي تفتقد لأي مرجعية، وتأتي تعبيرًا عن أزمة الحركة الوطنية التحررية.

إن هذه الإشكاليات الأربعة، كانت في صلب التجربة الفلسطينية في العقودِ الثلاثة الأخيرة، والآن وبعد مرور هذه السنوات على تجربة السلطة فإنها لن تجد آمالها خيارًا سوى الخيار السياسي، لأنها بحكم تكوينها وضعفها إزاء عددها، لن يكون بمقدورها ممارسة الخيار العسكري، الذي يصبح باهظ الكلفة كما حدث بعد اجتياح السور الواقي والحروب الأربعة التي شنها العدو على قطاع غزة، فلا خيارات أمام السلطة القائمة، لا هي قادرة على العودة إلى الخلف ولا التقدم إلى الأمام، وفي هذه الحالة يصعب عليها ضبط أي حراك اجتماعي، الذي قد يظهر على شكل موجات من الأزمات المتنوعة كتعبيرٍ عن تفاقم التناقضات الاجتماعية.

وفي كلا الخيارين، السياسي والمقاوم، يتَولّد نوع من الاستعصاء وهو ما يحدث في الوقت الراهن، وفي هذه الحالة تصبح جميع الأطراف، بما فيها الاحتلال، في حالة من عدم اليقين وانتظار ما ستسفر عنه التطورات، أما الانفكاك من هذه الأزمة فلا يتم إلا عن طريق الوصول إلى اتفاقيات داخلية بين مكونات الحركة التحررية، ويجري بموجبها تقاسم أعباء السلطة والمقاومة وتحدي السلطة الاحتلالية بفرض وقائع على الأرض، واتخاذ قرارات سياسية من شأنها إرباك الاحتلال. غير أن من سيتصدى لأيةِ تحَولّات ثورية، هي مراكز القوى المُشكّلة للسلطة، لأن أي تغيير جذري، قد يهدد مصالحها ومكاسبها، فتسارع لكبح أي تطور من شأنها أن يُشكّل تهديدًا لها، ونجاحها أو إخفاقها مرهونٌ بقوة الحركة التحررية التي إذا تمكنت من استعادة دورها التحرري، ستقلص من هيمنة مراكز القوى التي لن تلبث أن تخضع إذا كانت التطورات أكبر من قدرتها على لجمها أو عرقلتها فتكون في هذه الحالة مخيرة بين الصدام أو الكمون أو السيرمع التيار.

وبهذه الحركة بالإمكان استعادة الحركة الوطنية لدورها التحرري، وإعادة الاعتبار لذاتها، بوصفها حركة تحررية مسؤولة، وملخص العملية يَتمثّل بالتالي: تحويل السلطة إلى سلطة للجميع، والإعلان عن نفسها أنها دولة مُحتلة، وأنها مسُتعدة لخيار الصدام المسلح إلى جانب الخيار السياسي، وبهذا تضع قضيتها بالقوة على أجندة القوى الإقليمية والدولة، وتجري عملية الدخول في مرحلةٍ نضاليةٍ تحرريةٍ جديدة تتزاوج فيها السلطة والمقاومة، ولكن على قاعدة الوحدة والمقاومة والتمسك بالثوابت، وليس على قاعدة الانقسام وبرنامج التسوية.

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كاتب وأديب وشاعر، ومفكر فلسطيني