بقلم: عبد الناصر فروانة

مَن هو الأسير وليد دقة؟

كاركاتير وليد دقة.jpg
المصدر / مؤسسة الدراسات الفلسطينية

مركز حنظلة_فلسطين المحتلة

ليس هناك أشد وأقسى من أن يعيش الإنسان إحساسًا بالقهر والعذاب دون أن يكون قادرًا على وصفه وتحديد سببه ومصدره.

إنه الشعور بالعجز وفقدان الكرامة الإنسانية عندما يجتمع اللايقين بالقهر، فيبدو لك بأنه ليس العالم وحده قد تخلى عنك، وإنما لغتك قد خانتك من أن تصف عذابك وأن تعرفه، أو حتى أن تقول آخ.. آخ مفهومة ومدركة من قبل الآخر الحر. [1]

لم يكن الأسير وليد دقة يعاني أمراضًا خطِرة، حين خطّ تلك الكلمات في معالجته ما يتعرض له الأسرى الفلسطينيون من تعذيب ممنهج ومدروس. ولم يكن مصابًا بالسرطان حين وصف السجن بالمكان السيئ، وبأنه أحقر اختراع صنعته الإنسانية لمعاقبة الإنسان. [2]

لكن وليد كان يعاني ألمًا جماعيًا، سبق أن عانته أجيال فلسطينية عدة، فتميز من غيره في إعادة تعريف التعذيب ورصد أساليبه المتطورة وتسليط الضوء على تفاصيله في كتابه "صهر الوعي".

 

المثقف والمفكر وليد دقة:

برز الأسير وليد دقة على مدار سنوات أسره الطويلة كمناضل سياسي وكاتب متميز ومثقف ومفكر وقائد محنّك ومؤثر، ويُعتبر أحد أبرز مفكري ومثقفي الحركة الأسيرة، وواحدًا من أبرز الأسرى الذين أبدعوا في كتاباتهم عن الحالة الفلسطينية.

في أحد لقاءاته قال عن "الانقسام": لا أبالغ إن قلت إنه، وعلى الرغم من أن مَن يغلق عليّ باب الزنزانة هو سجّان "إسرائيلي"، لكن الذي يصنع له مزيدًا من الأقفال هو الانقسام الفلسطيني.

تأمل المسألة جيدًا، فهذه ليست بلاغة لغوية، وإنما هي حقيقة يجب أن نصرخ بها في وجه مَن ضلوا الطريق نحو الحرية. [3]

ولعل وليد هو الأبرز على الإطلاق، والأكثر جرأةً وموضوعيةً، في وصفه حال وواقع السجون والمعتقلات "الإسرائيلية" عبر كتاباته الكثيرة ومقالاته المتنوعة، ومنها مقالة "الزمن الموازي" ورسائله المهربة من خلف القضبان، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والروايات، منها "يوميات المقاومة في جنين"، "صهر الوعي"، وروايتان لليافعين، وهما: "حكاية سر الزيت"، و"حكاية سر السيف"، أما حكاية "سر الطيف" فهي مخطوطة مسرحية.

والأسير المفكر وليد دقة، وعلى الرغم من سنوات السجن الطويلة والمرض الخبيث الذي أنهك جسده، فإن عقله ظل حرًا، وبقى ملتصقًا بقضايا شعبه ورفاقه الأسرى، وما زال يكتب سرّ حكاية الآلاف من الأسرى الفلسطينيين الذين عانوا المرض والإهمال الطبي، والجرائم الطبية المتعمدة، وتعرضوا للقتل البطيء.

ولئن عانى الأسرى الفلسطينيون، من القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، جرّاء الاعتقال وظروف الاحتجاز وسوء المعاملة؛ فلقد عانت هذه الشريحة من الأسرى الفلسطينيين، من فلسطين المحتلة في سنة 1948، جرّاء سوء المعاملة والتمييز العنصري المضاعف؛ وبذا فقد دفعوا ثمنًا باهظًا لهويتهم، جرّاء هذا الازدواج القسري للجنسية، وفي المقابل، أبدوا تشبثًا بالهوية والتصاقًا دائمًا بالقضية الفلسطينية، وإصرارًا على الحياة بكرامة، وناضلوا باستمرار لانتزاع حقوقهم المدنية والسياسية، ولعل يوم الأرض أحد الشواهد العديدة.

واعتقلت السلطات "الإسرائيلية" الآلاف من فلسطينيي الداخل بحجة الإخلال بالأمن العام، وعدم الالتزام بالقوانين "الإسرائيلية"، وهكذا نشأ مصطلح "أسرى الداخل"، وأصبحنا نرى معنا في السجون "الإسرائيلية" شبانًا ورجالًا ونساء من الفلسطينيين الذين وُلدوا بعد النكبة، وينتسبون إلى حيفا ويافا واللد والناصرة وعكا والطيرة وعارة وعرعرة وباقة الغربية، وأم الفحم.. وغيرها من الأسماء المنقوشة عميقًا ومنذ وقت مبكر في الذاكرة الجمعية الفلسطينية.

وهكذا حفظنا أسماء الشهداء منهم، ورددت الألسن، بفخر وعزة، أسماء آخرين كثر، شكلوا نماذج مشرقة للحركة الوطنية الأسيرة في كافة المراحل والأزمنة. وبرز من بينهم القائد والمفكر وليد دقة.

 

من هو الأسير "أبو ميلاد"؟

وُلد وليد نمر أسعد دقة ولد في 18 تموز/ يوليو 1961، لأسرة فلسطينية تتكون من ستة أشقاء وثلاث شقيقات، وتسكن في مدينة باقة الغربية في منطقة المثلث شمال فلسطين المحتلة سنة 1948.

تعلم وليد في مدارس البلدة، وأنهى دراسته الثانوية في باقة الغربية، انتقل إلى العمل في إحدى محطات تسويق المحروقات، وفي 25 آذار/ مارس 1986، اعتقلته سلطات الاحتلال بتهمة الانتماء للجبهـة الشعبـيـة لتحـرير فلسـطين وانتسابه إلى خلية فدائية عملت بهدف تحرير أسرى فلسطينيين، بالإضافة إلى حيازة أسلحة ومتفجرات بطريقة غير قانونية (بحسب التصنيف الإسرائيلي) واتهامه بالقيام بأعمال فدائية داخل الخط الأخضر.

ثم حُكم عليه بالسجن المؤبد (مدى الحياة) في البداية، ولاحقًا، تم تحديده سنة 2012 بالسجن (37 عامًا)، أمضاها كاملة.

ولكن في سنة 2018، أصدرت المحكمة المركزية في بئر السبع قرارًا يقضي بإضافة سنتين إضافيتين إلى حُكم الأسير وليد دقة، بادّعاء ضلوعه في إدخال هواتف نقالة للأسرى، وهو ما يعني تمديد الإفراج عنه إلى سنة 2025. [4] 

تعرّض وليد خلال فترة سجنه لصنوف مختلفة من التعذيب الجسدي والنفسي، ولأشكال كثيرة من القهر والحرمان والتمييز العنصري، وتنقّل خلال سنوات سجنه الطويلة بين جدران سجون متعددة.

إلا أنه وعلى الرغم من كل ذلك، فإنه شكّل ندّاً للسجّان، وبقي مناضلًا عنيدًا وصلبًا، وأسيرًا شكّل على الدوام نموذجًا لمن عايشوه في السجون، ولرفاقه في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ولكل الفلسطينيين والأحرار في العالم أجمع.

واصل وليد دقة تعليمه وزيادة معارفه العلمية، فأنهى دراسته الجامعية في السجن، وحصل على درجة الماجستير في الديمقراطية السياسية، من خلال الانتساب عن بُعد إلى الجامعة العبرية المفتوحة، كأحد إنجازات إضراب 1992، وقبل أن توقفه إدارة السجون، ولكن الوعي والتأثير الفكري - كما يقول وليد - تصنعه أطر أوسع من الجامعة، أو المدرسة والأسرة. [5]

لم يتوقف نشاطه على القراءة والكتابة، ولم يكتفِ بدور المثقف وتثقيف الآخرين ونقل التجربة إلى المحيط، وإنما تعدى الأمر ذلك، وساهم معرفيًا في فهم تجربة السجن ومقاومتها، ويشارك إخوانه ورفاقه في تفاصيل الحياة اليومية ونسج علاقات وطنية صادقة مع الجميع، وشارك في كافة أشكال المواجهة مع السجّان، بما فيها الإضرابات المفتوحة عن الطعام، ذودًا عن كرامة الأسرى، ودفاعًا عن حقوقهم، وتمسّكًا بإنجازات الحركة الأسيرة ومكتسباتها.

ونظرًا إلى دوره اللافت وحضوره المؤثر وثقافته المتميزة والكاريزما العالية التي يتمتع بها، فإنه ظلّ في دائرة الاستهداف "الإسرائيلي"، إذ أقدمت إدارة السجون على عزله مرات عديدة في زنزانة انفرادية، في محاولة يائسة لكسر إرادته والتأثير السلبي فيه، والحد من تأثيره الإيجابي في الأسرى الآخرين.

قاوم وليد كل أشكال القهر والحرمان، وأفشلَ مخططات الاحتلال التي أرادت النيل من عزيمته والحد من تأثيره، لا بل استطاع تسجيل انتصارات عديدة على مدار سنوات أسره الطويلة، وهو ما دفع الاحتلال إلى محاربته بالمرض، فهكذا هم، يقتلون الفلسطينيين الطلقاء بالرصاص والأسرى العزل بالأمراض وسياسة الإهمال الطبي المتعمد، وهنا لا أستبعد تعمّد الاحتلال إصابة الأسرى بالسرطانات والأمراض الخطِرة، والشواهد عديدة.

مؤخرًا، ظهر وليد منهكًا ومتعبًا، ولم يعد قادرًا على الكلام مع زوجته بسهولة، أو مخاطبة ابنته "ميلاد" من دون عناء، أو حتى كتابة بضع كلمات لترجمة ما يجول في خاطره وفي ذاكرته، وقد بات بحاجة إلى مساعدة ملحة كي يتجاوز محنة المرض، فلم تعد قوة الإرادة التي يتمتع بها "أبو ميلاد" وحدها كافية لمواجهة مرض السرطان.

إذ أعلن في سنة 2015 إصابته بسرطان الدم (اللوكيميا)، وفي 18 كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي، تم تشخيص إصابته بمرض التليف النقوي (Myelofibrosis)، وهو سرطان نادر يصيب نخاع العظم، ويحتاج إلى زراعة نخاع في ظروف مناسبة. وفي 12 نيسان/ أبريل الجاري، وفي إثر فحوصات جديدة، بعد تدهور وضعه الصحي، خضع لعملية جراحية لاستئصال جزء من الرئة اليمنى، وفقاً لبيان صدر عن عائلته وحملة إطلاق سراحه. [6]

وبات الأسير وليد دقة يتنفس بصعوبة، وفي وضع صحي صعب ومقلق للغاية جرّاء التدهور الخطِر الذي طرأ على صحته في الآونة الأخيرة.

 

سناء وميلاد والحلم المشروع:

وفي الختام، وما دمنا نتحدث عن وليد دقة، فلا بد من أن نشيد بصبر أمه الحاجة فريدة وصمودها، ونضال زوجته سناء سلامة وثباتها، تلك المناضلة التي تَعرّف إليها في سنة 1996، عندما زارته في سجنه لتكتب عن الأسرى ومعاناتهم، كونها كانت تكتب في صحيفة "الصبار" التي تصدر في مدينة يافا، وعقدا قرانهما في 10 آب/ أغسطس 1999، وقد تقدما بطلب، وأصرا على عقد القران في السجن، وفعلًا تحقق ذلك، وشكّل سابقة هي الأولى والوحيدة في تاريخ الحركة الأسيرة.

كانت سناء على يقين أنها ستنتظر خطيبها طويلًا، قبل أن يصبح زوجًا لها، ثم والدًا لابنتها ميلاد التي أنجبتها في 3 شباط/ فبراير 2020، بعد أن نجح وليد في تهريب نطفة وتجسيد الفكرة التي آمن بها منذ تسعينيات القرن الماضي ودافع عنها وناضل طويلًا من أجل تحقيقها.

ولقد اختير اسم ميلاد تحقيقًا لرسالة مؤثرة كتبها الأسير وليد دقة داخل سجنه في سنة 2011 في الذكرى الخامسة والعشرين لاعتقاله، عبّر فيها عن حلمه بأن يكون أبًا، وهذا نصها: [7] 

"أكتب لطفل لم يولد بعد..

أكتب لفكرة أو حلم بات يرهب السجّان دون قصد أو علم، وقبل أن يتحقق..

أكتب لأي طفل كان أو طفلة..

أكتب لابني الذي لم يأتِ إلى الحياة بعد..

أكتب لميلاد المستقبل، فهكذا نريد أن نسميه/ نسميها، وهكذا أريد للمستقبل أن يعرفنا..

 

عزيزي ميلاد،،

اليوم، أنهي عامي الخامس والعشرين في السجن، تسعة آلاف ومئة وواحد وثلاثون يومًا وربع (9131).. إنه الرقم الذي لا ينتهي عند حد.. إنه عمري الاعتقالي الذي لم ينتهِ بعد.. وها أنا قد بلغت الخمسين، وعمري قد انتصف بين السجن والحياة.. والأيام قد قبضت على عنق الأيام.. كل يوم أمضيته في السجن يقلب "شقيقه" الذي أمضيته في الحياة، ككيس يحاول إفراغ ما تبقى به من ذاكرة.. فالسجن كالنار يتغذى على حطام الذاكرة.. وذاكرتي، يا مهجة القلب، غدت هشيمًا وجف عودها.. أهرّبها مدونةً على ورق حتى لا تحترق بنار السجن والنسيان.. أما أنت، فأنت أجمل تهريب لذاكرتي.. أنت رسالتي للمستقبل بعد أن امتصت الشهور رحيق أخوتها الشهور.. والسنين تناصفت مع أخواتها السنين.

 

أتحسبني يا عزيزي قد جننت؟؟ أكتب لمخلوق لم يولد بعد؟

أيهما الجنون.. دولة نووية تحارب طفلًا لم يولد بعد فتحسبه خطرًا أمنيًا، ويغدو حاضرًا في تقاريرها الاستخبارية ومرافعاتها القضائية.. أم أن أحلم بطفل؟

أيهما الجنون.. أن أكتب رسالة لحلم أم أن يصبح الحلم ملفًا في المخابرات؟

أنت يا عزيزي تملك الآن ملفاً أمنياً في أرشيف الشاباك "الإسرائيلي".. فما رأيك؟

 

هل أكف عن حلمي؟

سأظل أحلم رغم مرارة الواقع..

وسأبحث عن معنى للحياة رغم ما فقدته منها..

هم ينبشون قبور الأجداد بحثاً عن أصالة موهومة..

ونحن نبحث عن مستقبل أفضل للأحفاد.. لا شك آت..

سلام ميلاد.. سلام عزيزي..


المراجع/ 

[1] "صهر الوعي في إعادة تعريف التعذيب"، 9 أيار/ مايو 2017

[2] "في ثلاثينية أسره: مقابلة خاصة مع الأسير وليد دقة"، موقع "عرب 48"، 22 نيسان/ أبريل 2016

[3] المصدر نفسه https://www.facebook.com/profile.php?id=100091256805982

[4] حملة إطلاق سراح الأسير وليد دقة على الفيس بوك

[5] "في ثلاثينية أسره.."، مصدر سبق ذكره

[6] بيان عن العائلة، منشور على موقع حملة إطلاق سراح الأسير وليد دقة على الفيس بوك:

https://www.facebook.com/profile.php?id=100091256805982

[7] وليد دقة، "أكتب لطفل لم يولد بعد"، موقع "عرب 1948"، 27 آذار/ مارس 2011

بقلم الأسير المحرر، والمختص في شؤون الأسرى والمحررين عبد الناصر فروانة