بقلم الأسير: كميل أبو حنيش..

مقال بعنوان: "على صفيحٍ ساخن" الحلقة الخامسة

كميل أبو حنيش.jpg

مركز حنظلة_فلسطين المحتلة

الحلقة الخامسة: إشكالية المقاومة 

احتلت مقولة (المقاومة)، في العقدين الأخيرين، حيزاً كبيراً في الخطاب السياسي الفلسطيني، وحَلتّ مكان مقولتي (الثورة والكفاح المسلح) التي كانت قد هيمنت على الخطاب السياسي منذ نهايات ستينيات القرن الماضي، وحتى نهايات الثمانينات من ذات القرن.

وينطوي هذا التَبدّل في استخدام المقولات، على تَحولّين بارزين، الأول: يَتمثّل في تبني الطرف المهيمن على القرار الفلسطيني لخيار التسوية منذ نزوح المقاومة عن بيروت عام 1982، الأمر الذي يعني، التخفيف من حدة الخطاب الثوري، و التخفيض من وتيرة الفعل المُسلح لصالح خيارات وأشكال نضالية أخرى، أما الثاني: فَيتمثّل في انتقال ثقل النضال الوطني من الخارج إلى الداخل المحتل، بعبارةٍ أخرى تَحوّل الداخل إلى الركيزة الأساسية في مقاومة المشروع الصهيوني، وهو ما أعاد الاعتبار للمقولات الشعبية التاريخية المُستمدة من التجربة الكفاحية الفلسطينية في عشرينيات وثلاثينات القرن الماضي، كالهبة والانتفاضة، وذلك ارتباطاً بالدور الذي كانت تلعبه الجماهير الشعبية في مقارعة الاستعمارين البريطاني والصهيوني، ويُستثنى منها ثورة العام 1936، التي كانت تعُبّر عن ثورة حقيقية، شاملة وفاعلة، ومُسلحة، وكان من المُقدر لها أن تنجح في إفشال المشروع الصهيوني، لو توفرت لها عوامل الانتصار.

وبالرغم مما قيل وما يمكن أن يُقال عن التجربة الثورية الفلسطينية الطويلة، وما انطوت عليه من أخطاءٍ واخفاقاتٍ واشكاليات، غير أنه وللإنصاف، يتعين علينا الكف عن الإمعان في جَلد الذات، والسعي لتقييم تلك التجربة ودراستها بصورةٍ موضوعية، تليق بنا وبتضحياتنا الجسام، وإذا أردنا تكثيف الموقف، يمكننا أن نقول: لقد خاض الشعب الفلسطيني صراعه الوجودي مع الغزوة الاستعمارية الصهيونية، ولم يتوانَ منذ مئةِ وثلاثين عاماً عن النضال ودفع التضحيات، و تجسيد بطولاتٍ خارقة على مذبح معركة التحرر الوطني، بالرغم مما اعترت هذه التجربة من أخطاءٍ قاتلةٍ في كل محطةٍ من محطات الصراع، مما يستوجب دراسة التجربة في مراحلها المختلفة، واستقاء العبر والدروس التي من شأنها، أن تساهم في تصليب أوضاعنا وتصويب مساراتنا، حتى يكون بوسعنا انجاز الانتصار التاريخي، وتحرير بلادنا المغتصبة.

لقد واجهت التجربة الثورية الفلسطينية، مجموعة من العوامل الموضوعية والذاتية، التي كانت تعيق تقدمها، وتَحدّ من إمكانية مراكمتها لنجاحاتها، وتمنعها من انجاز أهدافها البعيدة، وتوصلها في أحيانٍ كثيرة إلى حالةٍ من الإخفاق التام.
 

ويمكننا أن نُلخص هذه العوامل على النحو التالي:

العوامل الموضوعية:
أولاً: واجه الشعب الفلسطيني ولا يزال يواجه، مشروعاً استعمارياً من العيار الثقيل، و مدعوماً من أعتى القوى الاستعمارية في العالم، ولا يزال يستمد عوامل بقائه وقوته من تلك القوى، مما يعني أنه مشروع له أبعاده الاستراتيجية بعيدة المدى، التي لا تخص الشعب الفلسطيني وأرضه وحسب، وإنما تستهدف المنطقة برمتها.. ومن هنا لا يمكن للشعب الفلسطيني وحده أن يتصدى لهذا المشروع الخطير، ومن ناحيةٍ واقعية، ليس بمقدوره إحراز انتصارٍ تاريخي على هذا المشروع بمفرده، وإنما يتعين أن تتضافر جهود شعوب المنطقة، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني لدحر هذا المشروع، فإذا كانت عوامل إقامته وقوته وبقائه، عوامل خارجية في الجانب الأهم منها، فإن عوامل الخلاص منه، ينبغي أن تكون في معظمها خارجية.

ثانياً: يتعين علينا ألا ننسى، أن مجمل البلاد العربية في بداية المشروع الصهيوني، كانت خاضعة إما للاستعمار خاصة البلاد العربية في القارة الأفريقية، وإما خاضعة لسيطرة الدولة العثمانية التي كانت في تلك الحقبة في أسوأ أحوالها، ولم يكن بمقدورها التصدي لهذا المشروع، مع أنها سمحت بحكم ضعفها وفساد أجهزتها الإدارية، بتسرب المستوطنين الصهاينة وتمكينهم من السيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية، والسماح لهم بتشييد عشرات المستعمرات قبل وقوع فلسطين في قبضة الاحتلال الإنجليزي الذي تبنى المشروع الصهيوني بالكامل. ولم تلبث أن وقعت بقية البلدان العربية في الشطر الآسيوي تحت الهيمنة الاستعمارية. 

إن وقوع العالم العربي برمته في قبضة الهيمنة الاستعمارية، حرم الشعب الفلسطيني من عمقه الاستراتيجي، حيث انشغل كل بلدٍ عربي بمعالجة مشاكله ومواجهة الاستعمار داخل حدوده، وثمة قسمٌ آخرٌ تواطأ مع المشروع الصهيوني، والتقت مصالح بعض الأنظمة مع مصالح الاستعمار، الأمر الذي أعاق من إمكانية التصدي للمشروع الصهيوني مُبكراً، وحين جاءت لحظة قتاله، كما جرى في العام 1948، كان قد فات الأوان، بعد أن تمكن الصهاينة من تثبيت وجودهم على الأرض، وبناء قوة مقاتلة كان بوسعها، بحكم عدد مقاتليها وتسليحها، إلحاق الحزيمة بالجيوش العربية، التي كان قتالها من دون استراتيجية أو خطة، عدا عن الإشكاليات الأخرى التي صاحبت العمليات القتالية في الميدان.

في المحصلة جرى تكريس الواقع العربي الضعيف والمجزأ، ومواصلة الضغط العسكري وإفشال أية تجربة وحدوية، أو بروز دولة عربية مركزية، وإلحاق المزيد من الهزائم بالجيوش العربية، وإرغام بعضها في وقتٍ لاحق، على توقيع اتفاقيات سلام مع "إسرائيل"، وليصل الحال إلى تفتيت العالم العربي، وإذكاء حروبه الأهلية الطاحنة، وتحويل أنظمتها إما لدول صديقة متحالفة مع "إسرائيل"، وإما متواطئة معها في الباطن، وإما لا حول لها ولا قوة، والنتيجة غياب أي عمق عربي حقيقي من شأنه أن يسند كفاح الفلسطينيين باستثناء بعض المحطات، وبعض البلدان، ولكن في ظروفٍ متحركة تفتقد للصلابة والثبات، الأمر الذي أبقى كفاح الشعب اللسطيني في مختلف محطات الصراع، يعاني من الضعف والانكشاف.

ثالثاً: افتقد كفاح الشعب الفلسطيني للحيز الجغرافي الواسع، والحيز السكاني الملائم، اللذين يسمحان لأيةِ تجربة ثورية أن تنمو وتتطور وتحافظ على عمقٍ استراتيجي؛ فالجغرافيا الفلسطينية تفتقد للعناصر الطبيعية (المساحة الكبيرة نسبياً، الغابات الشاسعة، الجبال الشاهقة، البوادي الواسعة.. الخ)، كما أن معظم سكانها كانوا يقطنون في قرى وبلداتٍ صغيرة، أما مدنها فكانت صغيرة نسبياً من حيث المساحة وعدد السكان، إذا ما قورنت بمدنٍ تأوي ملايين السكان في بعض البلدان، التي كانت تخضع لتجربة استعمارية وتخوض ثورة مماثلة.

 وإذا ما استثنينا ثورة العام 1936 التي تمتعت بميزة الجغرافيا الواسعة نسبياً في تلك الحقبة، واضطرت سلطات الاحتلال البريطاني إلى إغلاق الحدود بالأسلاك الشائكة لمنع تسلل المقاتلين، وتوفير العتاد والسلاح، وملاحقة الثوار من جبلٍ إلى آخر، ومن قريةٍ إلى أخرى، غير أنه وبعد العام 1948 تَقطّعت أوصال الوطن الفلسطيني، وصار يتعين على الجزأين المحتلين بعد العام 1967، أي الضفة الغربية وقطاع غزة، اجتراح أساليب في المقاومة، تتلاءم وصغر المساحة الجغرافية في كلا الإقليمين، والغير متصلين أصلاً جغرافياً، واللذين يفتقدان الحدود الشاسعة والطبيعية التي تسمح بتزويد المقاومة بالرجال والسلاح على نحوٍ ملائم، فضلاً عن خضوعهما للاحتلال العسكري المباشر، وهو ما مَكنّ قوات العدو من ملاحقة والقضاء على آلاف الخلايا الفدائية منذ العام 1967، وإفشال أعداد لا تحصى من العمليات الفدائية، الأمر الذي دفع الساحة الفلسطينية لتفجير الانتفاضة الأولى، التي تواصلت لسبعِ سنوات، ومروراً بمرحلة أوسلو، ووصولاً إلى محطة الانتفاضة الثانية، التي تمكنت "إسرائيل" من اجهاضها بعد أربعةِ أعوام في الضفة، فيما استطاع قطاع غزة من تطوير نموذج مسلح يكاد يلامس المستحيل من ناحية الجغرافيا (365 كم2) والكثافة السكانية (2 مليون نسمة)، والاشكالية الجيوسياسية مع مصر.

إن افتقاد التجربة الثورية الفلسطينية في سياقها التاريخي الطويل لتلك المقومات الطبيعية، تركها عرضةً للحصار وسهولة كشفها، والحد من تطورها وفعاليتها، وصولاً إلى ضربها وتفكيكها. أما التجربة الثورية الفلسطينية في الخارج فقد لوحقت وأُقصيت مُبكراً عن الساحة الأردنية، وغرقت في وحلِ الصراعات الداخلية في الساحة اللبنانية، وصولاً إلى شن حربٍ قاسية عليها في العام 1982، أفضت إلى إقصائها بعيداً عن الحدود الفلسطينية.

رابعاً: واجهت التجربة الثورية الفلسطينية منذ العام 1948، عدواً مدججاً بأحدث ترسانة عسكرية، وجيشاً من أقوى جيوش العالم، وأذرعاً أمنية واستخباراتية، تتسم بالدقة والفعالية والذكاء، وبمؤسساتِ دولةٍ حديثةٍ وقويةٍ ومتطورة. وفوق كل ذلك مجتمعاً مُسلحاً بأيديولوجيا استعمارية استيطانية توسعية وعنصرية ذات ديباجات دينية وأسطورية وتاريخية، لم تعرفه التجارب الاستعمارية الأخرى من حيث الإمكانات العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية والاستخباراتية.

إن هذه الدولة "الخارقة القوة"، والمدعومة من أعتى الدول والقوى الكبرى، تَمكنّت من إحكام قبضتها على الحدود والأرض والسكان، وأفلحت في ردع دول المنطقة بعد سلسلة من الحروب استطاعت من خلالها تحقيق انتصاراتٍ كاسحةٍ في مجملها.

وفي المحصلة فإن إمكانية إطلاق ثورةٍ مستدامةٍ، فاعلةٍ ومؤثرة، وتحقيق انتصارٍ ملموس، على دولةٍ تتمتع بكلِ تلك المواصفات، يكاد يكون مهمةً شاقةً وعسيرة، ولا نقل مهمة مستحيلة، ما لم تتوفر عوامل خارجية، مساندة للكفاح الفلسطيني.

إن هذه العوامل الموضوعية المجافية، قَلصّت من قدرة الشعب الفلسطيني، على إحراز إنجازات متراكمة، تتيح له إنزال الضربة القاضية بعدوه، أو ارغامه على التسليم بجزءٍ من حقوقه، وصار يتعين عليه ابتكار وسائله الخاصة في المقاومة والنضال، و خلق تجربته الثورية، متعددة الأشكال، بما يتلاءم مع ظروفه وامكانياته المحدودة.

 

العوامل الذاتية:
أولاً: بالرغم مما اتسمت به التجربة الثورية الفلسطينية، في مختلفِ محطات الصراع، من زخمٍ وكثافةٍ في الفعلِ المقاوم، وجسامة في دفع التضحيات، انطوت على بطولات خارقة، غير أن أبرز اشكالياتها التاريخية، تَتمّثل في تشرذمها وانقسامها وصراعاتها. فلقد رافق الانقسام والصراع تلك التجربة منذ بدايات مواجهتها للمشروع الصهيوني، حيث شهدت عقود العشرينيات والثلاثينات والأربعينيات من القرن الماضي انقسامات وصراع سياسية، بسبب التنافس بين العائلات السائدة في تلك المرحلة، والتي سارعت لتشكيل أحزابها، ولم تفلح تلك التشكيلات الحزبية – العائلية، من التصدي لتمدد المشروع الصهيوني، وهو ما سمح، باندلاع الثورة في العام 1936، حيث وجدت تلك الأحزاب نفسها على هامش الثورة، ولم تفلح تجربة "اللجنة العربية العليا" في تشكيل تجربة سياسية وحدوية تقود الثورة والشعب، وتحرز إنجازات سياسية ملموسة.

كما أن الثوار، عجزوا عن توحيد صفوفهم وقواهم، وبهذا بقيت الثورة من دون قيادةٍ سياسيةٍ حقيقية، ومن دون قيادةٍ ميدانيةٍ موحدة. 

أما التجربة الثورية المعاصرة بعد نكسة العام 1967، فقد انطوت على انقسامٍ سياسيٍ وميداني، وبقيت فصائل الثورة تخوض معاركها منفردة، وبخطاباتٍ سياسيةٍ متباينة، وإن انطوت في مجملها تحت سقف منظمة التحرير الفلسطينية، التي كان من المفترض أن تُمثّل الفرصة التاريخية المهمة في توحيد الرؤى السياسية والأطر القيادية والقتالية، وتصوغ استراتيجيتها لعملية التحرير والدولة، لكن اشكاليتها البنوية التي انطوت على خللٍ في الإدارة والتنظيم والتفرد في القرار، وتخلف مؤسساتها.. قاد إلى خلافات حادة بين مكوناتها، أفضت في نهاية المطاف إلى إخفاقها في انجاز مهمتها التحررية، وأوقعها في مصيدة التسوية، الأمر الذي فاقم من أزمتها، ولم تفلح حتى اليوم في استيعاب باقي المكونات السياسية الأخرى (الفصائل الإسلامية وغيرها)، وما الانقسام السياسي الراهن إلا ثمرة، لتعثر المنظمة، واخفاقها في إعادة إنتاج شروط قوتها وبقائها، بوصفها البيت الوطني والسياسي والكفاحي الجامع، والممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.

إن إشكالية التشرذم والانقسام، والاقتتال في بعض المحطات، التي صاحبت ولا تزال تصاحب التجربة الثورية الفلسطينية، تعد من أهم عيوب معركة التحرر الوطني، و سبباً رئيسياً في تعثر تلك التجربة، واخفاقها في الوصول إلى أيِ انجاز ملموس من شأنه أن يُسرعّ في تقويض المشروع الصهيوني، أو يساهم في لجم اندفاعه وعدوانيته.

ثانياً: هيمنت النزعات الارتجالية والانفعالية، وطغيان النزعة الثأرية الانتقامية على الفعل المقاوم، في معظم الثورات والانتفاضات الشعبية، علاوةً على غياب الثقافة الأمنية، وتأصيل البنى التنظيمية، وفوضى السلاح والانضباط، والخلط بين التكتيكي والاستراتيجي في أداء المقاومة، وذوبان الحدود بين الوسائل والغايات، بين الحزبي والوطني، الدائم والمؤقت، الثابت والمتَحوّل، المجدي وغير المجدي، الكمي والنوعي.. الخ، حتى غدت المقاومة برمتها في مختلف محطات الصراع، مجرد تجارب واختبارات من دون تبني الأساليب والأشكال التنظيمية والإدارية والعلمية الملائمة واللازمة لإدارة الثورات على نحوٍ يسمح لها بإنجاز مكاسبٍ ميدانيةٍ وسياسية، ومراكمة الانتصارات الصغيرة في الطريق إلى احراز الانتصار التاريخي. إذا ما استثنينا التجربة الفدائية في لبنان قبيل اجتياح العام 1982، وكذلك الحالة المقاومة السائدة حالياً في قطاع غزة، والتي على ما يبدو، قد استفادت من أخطاء الماضي، وسعت إلى تأصيل التجربة الثورية الحديثة وتعزيزها، والأخذ بأسباب الانتصارات بعيداً عن الارتجاب وردود الأفعال.

ثالثاً: اعترت التجربة التاريخية الثورية إشكالية افتقادها للقدرة على الاستثمار السياسي المُجدي للعمل المقاوم، فيما جرى التركيز على الجهد الإعلامي لغايات حزبية وفصائلية وحتى شخصية على الحساب الوطني، فبالرغم من حجم التضحيات الجسام التي كان يجري بذلها في العمل المقاوم، إلى جانب الخسائر الضخمة التي كانت تدفعها الجماهير الشعبية الحاضنة للمقاومة، مقارنةً بخسائر العدو، غير أن الاستثمار السياسي بهذه التضحيات، كان يعادل الصفر في كثيرٍ من المواقف. حتى صارت تُثار تساؤلات مشروعة حول الجدوى من العمل المقاوم إذا كانت خسائرها أكبر كثيراً من مكاسبها، وهو ما أفسح المجال أمام بروز بعض الدعايات المغرضة الساعية لتثبيط العزائم، والترويج لثقافة الهزيمة، وضرورة البحث عن وسائل أخرى، وذلك لغايات مختلفة.

وفي المقابل كانت تجري عملية تقديس التضحية والشهادة، وكأنها هي الغاية، مع الإسراف في تركيز الفعل المقاوم نحو زيادة خسائر العدو البشرية من دون التساؤل عن الجدوى والمكاسب التي من الممكن حينها إذا ما قورنت التجربة الفلسطينية مع  التجربة اللبنانية التي أحسنت الدقة والتركيز في الفعل المقاوم، وأفلحت في الاستثمار السياسي لهذا الفعل، وكانت النتيجة احراز انتصارها المدوي على عدوها عام 2000.

ولإنصاف تجربتنا المقاومة، ينبغي القول، أن ثمة نجاحات تحققت في أكثرِ من محطةٍ على صعيد الاستثمار السياسي لعمل المقاومة، وأبرز هذه المحطات، محطة معركة الكرامة التي كانت لها نتائج مذهلة من ناحية تثوير الشعب الفلسطيني، وتزويده بطاقاتٍ معنويةٍ وقتاليةٍ، أسست لمرحلةٍ ذات زخمٍ كبيرٍ في الفعل المقاوم، وأعادت لفلسطين مكانتها ومكانها على الخريطة العالمية، وكانت هذه المعركة بمثابة الانطلاقة الفعلية للثورة المعاصرة.

أما المحطة الثانية، فقد تَمثّلت بمعركة "سيف القدس" الأخيرة في أيار من عام 2021، حيث تحققت في تلك المعركة مكاسب وانجازات سياسية وإعلامية ومعنوية، لم تفلح في تحقيقها ثلاثة حروبٍ سابقةٍ على قطاع غزة.

رابعاً: تُعد الإشكالية الأمنية، إحدى أهم المعضلات التي واجهت المقاومة الفلسطينية في مختلف مراحلها ومحطاتها، حيث تَمثّلت تلك الإشكالية بالتخلف والاستهتار الأمني، والاستهانة بإمكانيات العدو الاستخبارية والتقنية، ولم تجرِ عملية مكافحة ظاهرة العملاء والجواسيس بالشكلِ المطلوب، ولم تخضع الفصائل الفلسطينية تجاربها للدراسة والتقييم الضرورية، وكان ثمة استهتار بالقواعد الأمنية، لا سيما في مرحلة الانتفاضة الثانية، حيث سادت علنية السلاح والمقاتلين، وسوء الاستخدام الأمني لأجهزة الاتصالات الحديثة، وهو ما مَكنّ العدو من إحباط آلاف العمليات الفدائية، ومن تنفيذ المئات من عمليات التصفية والاغتيال التي كانت تتم بصورة نمطية. ولعل أبرز إخقاق يُسجل لفصائل المقاومة طوال أكثر من خمسين عاماً، يَتمثّل بظاهرة "العصافير" في السجون. تلك الظاهرة التي أمكن للعدو تطويرها والاستفادة منها في الكشف عن عدد لا يحصى من المعلومات الخطيرة، بعد الإيقاع بعشرات الآلاف من الأسرى، وهو ما ساهم في تقويض البنى التنظيمية، وكشف أساليب المقاومة السرية، والحد من إمكانية تطور المقاومة.

لقد أخفقت فصائل المقاومة قاطبةً في توعية وتثقيف أعضائها، وتحذيرهم من الوقوع في مصيدة العصافير، ولا تزال أعداد كبيرة تقع في هذه المصيدة، من دون أن تسعى الفصائل جدياً لاغلاق هذه الثغرة الخطيرة.

إن هيمنة مقولة " المقاومة" في العقدين الأخيرين على الخطاب السياسي الفلسطيني، يُعبّر عن مرحلةٍ جديدة في الكفاح الفلسطيني، وينطوي في ذاتِ الوقتِ على إشكالية كبيرة، تَتمّثل في الانقسام السياسي، الأول بعد توقيع اتفاقيات أوسلو ونشوء السلطة الوطنية، وتفاقم هذه الإشكالية بعد الانقسام السياسي الثاني، في أعقاب فوز حماس بالانتخابات عام 2006، ووقوع الاقتتال على السلطة في العام 2007.

لقد باتت مقولة "المقاومة"، مادةً للمماحكات والمزايدات السياسية والإعلامية، بين طرفي الصراع، التي باتت لكل واحدٍ منهم سلطة على الأرض، واحدة في الضفة محكومة ومُكبلة بالاتفاقيات السياسية والأمنية، والأخرى في غزة حَولّت نفسها لسلطة مقاومة، مع الأخذ بالاعتبار عيوب ومزايا هذه التجربة، وما بين السلطتين المتصارعين انقسمت الساحة الفلسطينة، حول الموقف من المقاومة وأشكالها المتاحة والمقبولة، والأكثر جدوى، فيما تبنت سلطة الضفة، خيار المقاومة "السلمية"، كإحدى الوسائل الممكنة في التصدي لممارسات الاحتلال حسب تبريرها، في حين تَبنّت سلطة غزة، خيار المقاومة المسلحة، وتَمكّنت من بناء قوة عسكرية، مَكنّها من الصمود والمواجهة في أربعة حروب مع العدو.

وبالرغم من صحة مزاعم كل طرفٍ حول الشكل الذي يتنباه، وبصرف النظر عن بعض المكاسب الذي أحرزها كل طرفٍ، في ممارسته للفعل المقاوم. بيد أن تلك الأشكال الكفاحية المتبناة، لا تعكس الدراسة الملموسة لخصوصية كل ساحةٍ من ساحات المواجهة، وإنما تعكس أزمة الانقسام المتفاقم بين الطرفين، هذا الانقسام الذي وفر فرصةً سانحةً للعدو، للإمعان في ممارساته الاجرامية بحق الشعب الفلسطيني بكلا الساحتين، وتعميق الشرذمة والخلاف، وإذكاء الصراعات، والاحتواء المزدوج – إذا صح التعبير- لكلا السلطتين، جاعلاً من تجربة المقاومة المسلحة في غزة باهظة التكلفة، ومن تجربة المقاومة "السلمية" أو الشعبية في الضفة، محدودة التأثير والفعالية، وابقائها تحت السيطرة، مع المبالغة في قمع وملاحقة أي فعل مسلح، وجعل فاتورته باهظة الكلفة على أهالي المقاتلين، وأماكن سكناهم.


شَكلّ النموذج المسلح في قطاع غزة، حالةً متقدمةً في تطور المقاومة الفلسطينية على الأرض، وتحديها الجدي لدولة الاحتلال. ذلك على الرغم، من الإشكاليات التي أعاقت أداء المقاومة، على صعيد الجغرافيا، وضيق مساحة القطاع، علاوةً على الاكتظاظ السكاني، واستطاع هذا النموذج أن يتغلب على جملةٍ الاعاقات، و بناء قوة عسكرية تعتمد بالأساس على القوى الذاتية، في ظل شروط مجافيةٍ تكاد تلامس المستحيل، وتُمثل ابداع هذا النموذج في إرغام الاحتلال على الاندحار عن أرض القطاع، ومن ثم السعي الحثيث لمواصلة تطوير النموذج، الذي تمكن من الصمود في وجه الحصار الشامل، والتصدي للعدوان العسكري الصهيوني المتواصل طوال العقدين الماضيين.

لقد مثلت المقاومة الغزاوية تحدياً حقيقياً للاحتلال، فسعى لحصارها، ومحاولة إنهاكها بالحروب والاغتيالات، وابتكار أدوات تكنولوجية غير مسبوقةٍ في تاريخ الصراع، للحد من فعاليتها وحرمانها من مكتسباتها، كالقبة الحديدية، والجدار الذكي تحت الأرض، المصمم لاكتشاف الأنفاق، فضلاً عن إغراق سماء غزة بالطائرات المُسيّرة متعددة الوظائف والأشكال، والسيطرة التامة على الحدود البرية والحرية، حتى غدت كل مواجهةٍ عسكريةٍ باهظة التكلفة من ناحية الخسائر البشرية والمادية والاقتصادية.

وبالرغم مما تُمثله المقاومة الغزاوية، من تهديد جدي، وإزعاج مزمن لدولة الكيان، غير أن العدو رأى فيها وسيلة لمواصلة تأزيم الحالة الفلسطينية، وتكريس الانقسام السياسي والجغرافي، مع مواصلة الضغط عليها وحصارها، والحيلولة دون السماح لها بالتطور أو احراز أية إنجازات عسكرية ذات طبيعة استراتيجية، وحرمانها من تحقيق مكاسب سياسية، على غرار المكاسب التي تحققت في المعركة الأخيرة " سيف القدس" في 2021.

وبالرغم مما يُمثله هذا النموذج البطولي الخارق على أرض القطاع، غير أنه يتعين علينا الاعتراف، بأنه ليس بوسع المقاومة الغزاوية وحدها التصدي لكافة المهام الوطنية، ولا بإشعال حرب، كلما تنامت الممارسات العدوانية الصهيونية في الضفة والقدس أو السجون. أي أن تكلفة الصراع المُحتدم، يتعين أن يدفع فاتورتها الجميع كلاٌ في مساحته وميدانه، مع إبقاء المقاومة المسلحة في غزة، قوةً رادعةً للعدو، وكابحةً لسياساته ومخططاته.

أما ساحة الضفة، فقد شهدت في السنوات الأخيرة، التي أعقبت انتكاسة الانتفاضة الثانية، سلسلة من التطورات والأحداث التي انطوت على تحَوّلات مهمة، أفسحت الجال أمام بروز عددٍ من الظواهر المتناقضة، فمن ناحية الإجراءات والسياسات الصهيونية على الأرض، أمعنت سلطات الاحتلال في ممارساتها العدوانية، مستغلة حالة الضعف والانقسام في الجسم الوطني، مما سمح لها بتهميش القضية الفلسطينية، وإزاحتها عن أجندة الجدل السياسي اليومي في "إسرائيل" وحتى في العالم، كما سمحت إجراءاتها بتعزيز السلطة الوطنية وأذرعها الأمية، ومواصلة الضغط عليها لملاحقة المقاومة، وتطوير آليات التنسيق الأمني. ومن ناحية ثانية ساهمت سياساتها المشتقة من خطة" السلام الاقتصادي" في إشاعة جو من الاسترخاء، والانتعاش الاقتصادي أسهمت هذه السياسات الاقتصادية الليبرالية التي أنتهجتها الحكومات الفلسطينية المتعاقبة منذ حكومة سلام فياض وحتى اليوم، في تنامي النزعات الاستهلاكية التي لم تكن معروفة في المجتمع الفلسطيني على هذا النحو من الحدة، وتسارعت حدة التفاوت الطبقي، واتسعت الفجوات في مستوى المعيشة بين الطبقات، وتعززت ثقافة البحث عن الذات واقتناص الفرص، وأدت هذه العملية إلى بروز طبقات وفئات ونخب اجتماعية جديدة، وإلى تَحوّلات اجتماعية وثقافية، تنطوي على العديد من مظاهر التفكك والانحطاط، وفي المحصلة سادت أجواء من الإحباط والسخط الشعبي على تردي الأحوال العامة، في ظل تصاعد إجراءات وسياسات الاحتلال بحق الأرض والإنسان الفلسطيني، وأفضت إلى بروز بعض مظاهر المقاومة، والتي كانت تتصاعد وتصل إلى مرحلة الهبة، ثم لا تلبث أن تتلاشى (المقاومة الشعبية، التظاهرات، الطعن، الدهس، القاء الحجارة والمولوتوف، اطلاق النار.. الخ)، ولكن من دون أن تصل إلى شروط تسمح باندلاع انتفاضةٍ جديدة.

لقد أظهرت السنوات الأخيرة، مدى التطور الاستخباري، والتقني، الذي يمتلكه العدو في مواجهة الشعب الفلسطيني، وملاحقة المقاومين، وإحباط العمليات، تَمثّلت في الكشف عن مئات الخلايا، وسرعة الوصول إلى منفذي العمليات، وإحاطته بكمٍ وافرٍ من المعلومات بفعل استخدامه لطرق جديدة ومتطورة ودقيقة في أنشطته الاستخبارية (الكاميرات، الطائرات المُسّيرة، والأقمار الصناعية، اختراق الهواتف والحواسيب، اختراق منصات وحسابات التواصل الاجتماعي.. الخ). حتى صار بمقدوره رصد الأراضي الفلسطينية، بشوارعها، ومفترقاتها وجبالها ووديانها وأماكنها العامة، ورصد تحركات كل مواطن من خلال متابعة هاتفه المحمول.

ومن ناحيةٍ ثانية، واصل العدو ضرب البنى التحتية للفصائل الوطنية والإسلامية، من خلال انهاكها بالملاحقة والاعتقال وإغلاق المؤسسات، وتجفيف مصادر التمويل، الأمر الذي أدى إلى تراجع فعاليات الفصائل وأنشطتها، وانحسار الفعل المقاوم، مما ترك المجال مفتوحاً لاتساع ظاهرة المقاومة الفردية، التي جرى التعبير عنها بعمليات الطعن والدهس واطلاق النار، وهي ظاهرة أربكت العدو، لأنه لم يعتد على مواجهة هذا الشكل من المقاومة، والتي ليست لها أيةِ بنية أو مرجعية يمكنه تتبعها والقضاء عليها بسهولة.

وفي العامين الأخيرين اتسعت ظاهرة العمل الفردي، وتطورت لتنتج ظاهرة الخلايا والمجموعات العنقودية، وانتشرت في مختلف محافظات الضفة، وباتت تعمل في غالبيتها من دون أيةِ مرجعية تنظيمية، متأثرة في فعلها المقاوم، بممارسات الاحتلال اليومية، ثم ما لبثت أن تطورت في العام الأخير، لتنتج بعض الظاهر، ولا سيما في شمال الضفة، كظاهرة "عرين الأسود"، و"كتيبة جنين"، والتي تأتي استجابةً للواقع الوطني والسياسي المتأزم، ونتيجة لانحسار فعالية ونشاط الفصائل الوطنية والإسلامية، المُنهكة بسبب عوامل مختلفة، أبرزها الضربات التي تلقتها في السنوات الأخيرة على أيدي قوات الاحتلال.

وبالرغم مما باتت تُمثّله هذه الظاهرة، من تحدٍ للاحتلال وقطعان مستوطنيه، وما تحظى به من تأييدٍ شعبيٍ كاسح، وما تُقدّمه من بطولاتٍ عظيمةٍ وهي ترفع راية النضال في الزمن الصعب، وما تُمثله من بارقة أملٍ في ظل حالة الاستعصاء السائد، إلا أنها تعاني، بحكم تركيبتها وسرعة تكوينها، جملةً من الإشكاليات التي تعيق من تطورها، وتَحدّ من فعاليتها، فهي

أولاً: تُعبّر عن مأزق الحركة الوطنية.
وثانياً: احجامها عن الإمساك بزمام المبادرة النضالية بسبب ضعفها، وتَكلّس بناها التنظيمية.
ثالثاً: افتقارها للدعم في المال والسلاح والخبرة التي تُمكّنها من الصمود والفعالية.
رابعاً: افتقارها للحاضنة الجماهيرية الجدية، واقتصارها على حواضن صغيرة وتقليدية مثل مخيم جنين، وبلدة نابلس القديمة.
خامساً: ملاحقتها الحثيثة من قبل قوات العدو، وإلحاق الخسائر الفادحة في عناصرها. 

إن هذه الإشكاليات التي تعاني منها هذه الظاهرة، من شأنها أن تحّد من نموها وتطورها، وتبقيها في حالة من الانكشاف والحصار والملاحقة الدائمة، مما يُسهم في عملية ضربها وتكفكيها، لكن أخطر ما يمكن أن تُمثله هذه الظاهرة على الاحتلال، هو قدرتها على التأثير والالهام، والتحفيز على الفعل المقاوم، وأشد ما يخشى منه الاحتلال، بروز المزيد من الظواهر، والبؤر المقاومة، في مختلف المدن والمخيمات والبلدات في الضفة، مما يوفر مناخاً يسمح بالتَحوّل الثوري، ويخلق أرضيةً لاشتعال انتفاضة مسلحة يشارك فيها عموم الشعب الفلسطيني، و ينذر بولادة مرحلةٍ جديدةٍ في الكفاح الوطني، بقوى وأدوات وقيادات جديدة، تتجاوز الحالة الحزبية والفصائلية السائدة، وتتقدم عليها، على غرار ثورة العام 1936، حين التقط الشعب زمام المبادرة الثورية، لتجد الأحزاب والنخب التقليدية نفسها على هامش الثورة، لذا لن يتراجع الاحتلال عن محاولة وأد هذه الظاهرة في مهدها، وعدم السماح لها بالاتساع، ورفع كلفة المقاومة من خلال الإمعان في القتل وهدم البيوت وسياسة العقاب الجماعي. 

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كاتب وأديب وشاعر، ومفكر فلسطيني.