بقلم الأسير: منذر خلف مفلح

مقال بعنوان: "الانتفاضة المنتظرة.. ومآلات السلطة"

منذر مفلح.jpg

مركز حنظلة_فلسطين المحتلة

لا زالت الحالة الشعبية الفلسطينية غير ملتحمة مع تضحيات الشباب الفلسطيني، الذي قَررّ إطلاق انتفاضة، متجاوزاً الواقع، متأملاً أن يحيي بدمه خيار الانتفاضة والمواجهة عبر ما يُسمى الانتفاضة الثالثة.

ورغم التقدير العميق لهذه التضحيات، والإجلال أمام الدماء الراعفة والنازفة من أجل فلسطين، والانحناء أمام هذه الشجاعة والإقدام التي يبديها الشباب رغم عقود من العمل على إنهاء ثقافة المقاومة، وإلغاء الهوية الوطنية الكفاحية لصالح إنماء هوية مواطنية يكون ولاؤها للسلطة كممثل للوطنية الفلسطينية على حساب م.ت.ف، والقوى السياسية الأخرى، وهو ما نجد آثاره في الانقسام وتبعاته، وشكل النضال "العمليات الفردية"، والتي تأتي للرد على ثلاثة تحديات يرفضها الشعب الفلسطيني:

1. رفض للاحتلال، وتعبيرًا عن استمرار المقاومة والانحياز لخيارها.
2. رفض للانقسام وتبعاته، وتقديم نماذج  وحدوية، عَبّر عنها الشهداء في وصاياهم، وعدم انتمائهم لفصيلٍ بعينه، أو الأشكال الوحدوية لمنظمات محلية في جنين ونابلس والقدس، وربما غيرها.
3. احتجاج على الوضع الداخلي الفلسطيني سياسياً واجتماعياً، وتجاوز لدور السلطة المفروض، ولدور الأحزاب المغيب.

 

بكل الأحوال، فإن العمليات، والمقاومة وأشكالها في الضفة الغربية تحديداً يجب أن تتواصل وتتراكم، وصولاً لتحقيق نتائج منها:

1. تركيم حالة مقاومة لاستكناه شكل وأساليب المقاومة الناجحة، ونقاط الضعف في المنظومة الأمنية والعسكرية الصهيونية، "ولكن" يجب التأكيد على أن هذه الأشكال من المقاومة ليست بديلاً عن المقاومة الهادفة والمنظمة ذات البعد الوطني العام والسياسي، وكذلك عدم الركون للمقاومة الفردية لتغطية غياب مقاومة منظمة عمادها "التنظيم"، كما أن توسع حالة المقاومة وانتشارها يجب أن يهدف لتجاوز الانقسام، و توسع المقاومة على مساحة فلسطين التاريخية، وإعادة الاعتبار لأشكال تنظيمية قديمة وتجديدها، أو خلق الشكل الجديد الذي يوائم أساليب العصر في التنظيم والإعلام، و توسّع دور الشباب والمرأة.

2. وضع المجتمع الفلسطيني وقواه الحية أمام مسؤولياته التاريخية ليس انتظاراً، بل للمحاكمة الشعبية لأولئك الذين تخلوا عن اللحظة التاريخية.

3. أن يترافق مع النضال عمليات بناء سياسية وطنية تنظيمية، ذلك أن الحوار لإحياء القديم قد تجاوزه التاريخ، بدليل "احتفالية الجزائر"، وبما يتضمن البناء إعادة تشكيل القوى السياسية نفسها مع الواقع الجديد.

4. تجاوز دور السلطة ووجودها، وما أنتجته من قيم وثقافة، فردانية واستهلاكية، وغياب المفهوم التضامني والجماعي، وتعزيز القيم السلطوية الأمنية، وتبلور فئات وطبقات اقتصادية سلطوية، وفئات أخرى متحالفة مستفيدة من وجود السلطة بشكلها الحالي المرتبط مع وجود الاحتلال، ومستفيدة من الانقسام كنظرية للحكم والسيطرة، وغير راغبة عن وجود أي حالة مقاومة أو انتفاضة، بل تعمل ضدها، وضد إعادة توحيد الشعب الفلسطيني.

فمن الملاحظ أن خيار المواجهة الشعبية مستمر، ولم يخفت منذ قرنٍ من الصراع مع الصهيونية، إلا أن وجود حالة انتفاضة أو مقاومة مثمرة تحتاج لعدة شروط أولها: القيادة الثورية والجذرية، كما ذكرنا في مقالٍ سابق، كما حالة التوحيد لكل الجهود النضالية، ويظل وجود السلطة باعتبارها شكل قيادي سياسي أعلى للشعب الفلسطيني لها حضور سلطوي اقتصادي أمني سياسي على الأرض، فإن إمكانية انطلاق انتفاضة شاملة غير ممكن وغير مثمر، ولن تنجح الحالة الشعبية بالانتقال لحالة الانتفاضة لهذا السبب بالتحديد، فقد كانت القوى الفلسطينية، والفئات الشعبية والجماهير والشعب بكل المسُميات المُمكنة كلها كانت صاحبة مصلحة في تحويل أدنى اشتباك لحالة مواجهة شاملة لأنها كانت صاحبة مصلحة بإنهاء الاحتلال، أما اليوم فحضور السلطة هو العائق أمام تَشكّل مثل هكذا انتفاضة، إلا إذا قرر أحد الأطراف تجاوز هذه السلطة كأن تقوم السلطة الاستعمارية والاحتلالية بالانقضاض عليها، وإنهاء وجودها بسبب استنفاذ دورها، أو أن يتجاوزها الشعب الفلسطيني، أو أن تقوم بحل نفسها لذات الأسباب.
 

ومن السهل على المتابع لتطور دور السلطة الفلسطينية عبر تاريخ تَشكّلها ووجودها أن يلاحظ تبلور ثلاثة أطوار متتابعة لهذه السلطة طبقاً للتطورات الداخلية والدولية، وتفاعل الشعب الفلسطيني، وفاعلية دور الاحتلال العسكري على الأرض، وهذه الأطوار هي بالتتالي: 

1. الطور السياسي: وهي المرحلة التي رغب الاحتلال في تعزيزها في بداية التسعينات لـ م.ت.ف، بعد فشله في إيجاد صيغ تمثيلية أخرى مثل " روابط القرى، التقاسم الوظيفي، الإدارة المدنية، وتشكيل البلديات، أو خلق حالة تمثيلية وصيغ أخرى لضرب م.ت.ف، مما رغب الاحتلال باستخدام هذه الصيغة التمثيلية وتوسيع دورها عبر اتفاق أوسلو ومؤتمر مدريد، مما أعطاها المُبّرر لعقد الاتفاق والاعتراف بالكيان، وقيادة عملية سياسية داخلية، وأسهمت في نزع حالة الاشتباك مع الكيان وتحويله لشريك سياسي في عملية تفاوضية partner " هناك شريك"، وقد انتهت هذه المرحلة مع الانتفاضة الثانية، ودور القائد أبو عمار في هذه الانتفاضة، مما استدعى اغتياله، وعلى الدور السياسي للسلطة وعلاقتها بـم.ت.ف ( 1995-2005).

2. الطور الاقتصادي، وهو الذي ترافق مع انتخاب أبو مازن لقيادة السلطة، ومشروعه المؤسساتي بالترافق مع رفع المستوى الاقتصادي و خلق سوق ومؤسسة تحمل بذور "الدولة"، وهو الذي أخضع السلطة كلياً للدعم الدولي المالي لإنشاء مشروع البناء الاقتصادي، فلعبت السلطة دوراً في تنمية اقتصادية ورفع مستوى وتحسين المعيشة، و تضخم الرواتب والجهاز البيروقراطي "للدولة"، والعمل على إنهاء الدور السياسي - أي نقل المشروع الوطني من مشروع تحرر إلى مشروع "دولة"، وهو ما عمق الانقسام بين فتح وحماس، ونقول عمق وليس أسس، كما عمق الخلاف داخل م.ت.ف، مما أضعف دورها باعتبارها الممثل السياسي، وقد توجت هذه المرحلة باعتبار البناء المؤسسي والاقتصادي باعتباره هدفاً للسياسة الفلسطينية عبر مؤتمرات دافوس وهو الذي تُوّج بمشاريع سياسية قديمة – جديدة/ صفقة القرن 2017، ومشروع السلام الاقتصادي 2005-2015.

3. الطور الأمني: وهو الذي تم تعزيزه بعد الانقسام، وتحويل مشروع السلطة لمشروع استثماري – اقتصادي، يتطلب تنسيقاً وهدوءً أمنياً عالياً توافق مع ازدياد الدعم المالي والمشاريع الدولية المشروطة بحيث تم تضخيم الدور الأمني للسلطة مثال مشروع دايتون الذي حَولّ العقيدة الأمنية من عقيدة وطنية لعقيدة مهنية خاضعة لالتزامات أمنية، وعقيدة تنسيق أمني للحفاظ على المصالح العليا،  وهو ما تواءم مع معتقدات الفئة الاقتصادية التي ترعرعت ونما دورها في المرحلة الاقتصادية واثر الانقسام، ولاحقاً بعد رسوخ الدور تمت المساومة على الوضع المعيشي والاقتصادي في الضفة لإنهاء دور السلطة السياسي نهائياً، و تَحولّه لدور أمني خادم للمصلحة الاقتصادية،  التي أصبحت مدخلاً لحل القضية الفلسطينية عبر صفقة القرن، والتطبيع ومشروع السلام الاقتصادي الإقليمي، مما عزز مفهوم الحل السياسي للفلسطينيين، و تطويع السلطة لهذا الدور بمفهوم تقليص الصراع (Shrinking the Conflict )، وفيه تتعاون السلطة والاحتلال لخفض التوتر والصراع، وفسح المجال لتبلور حالة أمنية هادئة، ومُسيطر عليها لتمرير المشاريع الاقتصادية، وهو ما ترافق مع تطابق الرؤية الصهيونية مع الرؤية العربية والدولية، في ظل تبرير أخطار مثل فزاعة التهديد الإيراني للكيان والخليج، والحرب الروسية وقطع امدادات الطاقة، ومن المعتقد أن يستمر هذا الطور الذي بدأ مع 2015، وتبلور بعد التطورات اثر صفقة القرن، ومنع التمويل عن السلطة دولياً وعربياً و"اسرائيلياً" من أجل تعزيز دورها الأمني مقابل المساعدات وهي مرحلة قد تستمر حتى 2025.

إن السنوات القادمة إذا ما بقي الوضع الحالي للسلطة على هذا الحال تحمل في طياتها دور جديد للسلطة في ظل الحديث عن المشاريع السياسية الصهيونية – العربية، والبحث عن بديل لأبي مازن الذي استنفذ سنوات عمره، ودوره لصالح إيجاد قيادة أمنية للسلطة تأخذها نحو الدور المُكمل، أو الدور السياسي المُهندس من قبل الكيان، وبعض الأطراف العربية والدولية، خاصةً بعد غض البصر من قبل المقاومة في غزة، ودخولها في معترك سياسات إعمار غزة وتحسين المعيشة...الخ، وهو ما سيدخلها في "ممرٍ إجباري"، وهو المصطلح الذي سمعناه سابقاً لتبرير مشروع أوسلو.

وعلى ذلك، فإن الشعب الفلسطيني مدعو لأخذ زمام المبادرة، وتركيم حالة المقاومة التي يشنها الشباب في القدس ونابلس وجنين والعديد من المواقع، وتعزيزها للدفاع عن الذات أمام الهجمة الصهيونية التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية من خلال حالة مقاومة أو انتفاضة.

فقد أثبتت الوقائع السياسية خلال الثلاثة عقود الماضية على فشل مشروع السلطة سياسياً، وهو حَولّها في مرحلةٍ من المراحل لمشروع اقتصادي يُعني بتحويل الاهتمامات الشعبية نحو الهم الاقتصادي، و تبديل الأجندة الوطنية من التحرير إلى البناء المؤسساتي والاقتصادي، وهو ما ضخم دورها الاقتصادي، وجعله اليد التي يمكن أن يؤذي الشعب الفلسطيني من خلالها، فتحاصر السُلطة دولياً وعربياً وصهيونياً لصالح تمرير أجندات سياسية، أو لتعزيز توجهات داخل السلطة والمتسلطين، خاصةً بعد صفقة القرن، والتَحولّات العربية نحو التطبيع مع الكيان.

لتنقضي الأبعاد السياسة والاقتصادية للسلطة لصالح الدور الأمني الذي أصبح مقدساً، ويُؤمّن خيط الحياة للسلطة والمتسلطين والمستفيدين من هذا المشروع.

فما يحدث في هذه الأيام من هجمات صهيونية عسكرية وأمنية على الشعب الفلسطيني مقابل صمت وعجز، بل وذهول المتسلطين من الفعل الصهيوني، يثبت فشل مشروع السلطة، وتحَولّه لمشروع شخصي يخدم تَغوّل المتسلطين، وهو ما يظهر من خلال تبلور تيار شعبي، كان دوماً إلى جانب قيادة الحركة التي تَحولّت في رأسها القيادي لمجموعة من المتسلطين، ذلك أدى إلى الاتجاه نحو بناء تيار شعبي مقاوم في جنين ونابلس، والعديد من المدن الأخرى وفي غزة، وللأسف، فإن ظاهرة المدن هذه أيضاً تدلل على أن العديد من الصراعات التي تدور في أعلى هرم السلطة على مصالحها ومناصبها، يدار في بعضه في الشارع.

بكل الأحوال، دائماً الظواهر تستنفذ دورها التاريخي، هذا دقيق من الناحية الفلسطينية، أما من الناحية الصهيونية فإن السلطة كمشروع لا زالت مكسب أمني للاحتلال، يحاول إدامته عبر تجديد رأسه القيادي وهو ما حدث مع الشهيد أبو عمار، الذي أدرك الخديعة، فتمترس خلف شعبه، وهو ما يحدث الآن من حيث بحث الصهاينة عن إعادة هندسة السُلطة والمتسلطين بما يخدم مشروعهم القادم أو رؤيتهم للحل، وهو ما يؤكد المتغولين في السلطة، وربما انتظار ما ستسفر عنه النتائج على الأرض بعد انجلاء غبار المعارك، أو ربما التنسيق، لهندسة الميدان والأرض لصالح متسلط على حساب آخر.

وعلى أيةِ حال، فإن استنفاذ السلطة لدورها التاريخي فلسطينياً يستدعي من الكل الفلسطيني أن يتداعى لانجاز أو بلورة مشروع وطني وإبراز معالمه الجديدة، وعدم ترك الميدان للمتسلطين للعب في مستقبل القضية الفلسطينية، ومشروعها الوطني، وخاصةً أن الشباب الفلسطيني قد بدأ هذه المعركة بمحاولة ترسيخ مشروع وطني وحدوي مقاوم عبر تجربة عرين الأسود وكتيبة جنين وغيرها، لعل الكثير من القيادات والقوى تلتقط هذه المبادرة وتأخذها إلى معبرها الوطني الجامع والسياسي والمؤسساتي كمدخل لإنهاء الانقسام، وإصلاح المشروع الوطني، وإعادة بناء م.ت.ف على أسسٍ وطنيةٍ مقاومة، بدلاً من المؤتمرات الاحتفالية لمشاريع المصالحة والتي كان آخرها الجزائر، رغم تقديرنا لجهود الأخيرة ومواقفها الثابتة من قضية فلسطين. 

بقلم عضو اللجنة المركزية العامة للجبهة الشعبية، مسؤول الإعلام في فرع السجون، مدير مركز حنظلة للأسرى والمحررين.