بقلم الأسير: كميل أبو حنيش..

مقال بعنوان: "على صفيحٍ ساخن" الحلقة الرابعة

كميل أبو حنيش.jpg

مركز حنظلة_فلسطين المحتلة

الحلقة الرابعة: مأزق التسوية

كشفت ثلاثة عقود من تجربة " السلام الفلسطيني – الإسرائيلي" عن الفشل الذريع الذي وصلت إليه، مع أنها تَرسخّت على اتفاقيات بضمانات دولية "وازنة"، على غرار الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الاتحاد الروسي، والأمم المتحدة، وبدعمٍ كبيرٍ من عددٍ من دول الإقليم الوازنة، وغير الوازنة، وأظهرت مدى عجز المجتمع الدولي، على إرغام "إسرائيل" على التقيد بالاتفاقيات المُوقعة والإذعان لشروط التسوية.

كما كشفت عن الخلل المريع، والفجوة الشاسعة، في فهم كل طرفٍ وتعريفه للسلام. وهنا تكمن العلة الأساسية، والفخ الذي وقع به الطرف الفلسطيني بقبوله من حيث المبدأ التفاوض من موقع الضعيف، وبتجزئة الحل السياسي على مرحلتين: مرحلة الاتفاقيات الانتقالية، ومرحلة الاتفاقيات الدائمة لتَتحّول التسوية برمتها إلى "حل مرحلي – دائم".

وفي ضوء الإخفاق في عملية أوسلو المُمتدة، من دون آفاق قد تسهم في كسر جمودها، وصلت عملية التسوية إلى حالة من الاستعصاء التام. فلا هي قادرة على التقدم للأمام، ولا هي قابلة للتراجع إلى الخلف، إلى ما قبل نشوء السلطة الوطنية، فيما تتواصل الممارسات الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية على الأرض، وما تنطوي عليه من سياساتها المعروفة، والمألوفة المُتسقة مع طبيعتها، كما لو لم تكن في الأصل اتفاقيات سلام بين الطرفين. 

وقد لخص رئيس وزراء العدو السابق "اسحق رابين" في بداية عملية التسوية قبل ربع قرن الموقف بعبارته المعروفة " مواصلة محاربة الإرهاب كما لو لم تكن عملية سلام، ومواصلة عملية السلام كما لو لم يكن هنالك إرهاب"، لتنقلب المعادلة منذ اندلاع الانتفاضة الثانية، وحتى اليوم وفق سياسة دائمة لا فارق فيها بين حكومات اليمين والوسط أو اليسار مواصلة الحرب على الفلسطينيين بلا هوادة، مع مواصلة الثرثرة بمفردات التسوية والسلام والرغبة في التعايش والاستقرار.

وإذا كان الموقف "الإسرائيلي" معروفاً من التسوية وحددوها وآفاقها، فإن الخطأ الفادح الذي ارتكبه الطرف الفلسطيني المُهيمن على القرار الفلسطيني هو انتظاره الطويل لما يمكن أن تسفر عنه التَحوّلات بأبعادها "الإسرائيلية" والإقليمية والدولية بهدف اقتناص الفرصة التاريخية التي ستسمح بفرض حلٍ على "إسرائيل"، وارغامها على الانسحاب من أراضي الضفة، والتسليم بالحقوق السياسية الفلسطينية المشروعة، وذلك من دون الالتفات إلى العامل الفلسطيني الداخلي، والسعي لتعزيزه بحيث يتسنى له مواجهة استحقاقات مرحلة التحرر الوطني، وأبقت على الانقسام السياسي، بهدف الاستئثار بالقرار، وقبلت الخضوع للإملاءات الأمنية "الإسرائيلية"، وهو ما أفقدها القدرة على الضغط والمناورة والتأثير، وسمح باتساع رقعة التذمر والسخط الشعبي، الصامت والعلني، حتى وصل خطاب التسوية إلى حالةٍ من الإفلاس الكلي.

لقد كشفت سياسات حكومات "نتنياهو" منذ العام 2009 عن الوجه الحقيقي لرؤية "إسرائيل" للتسوية المرتكزة على مبدأ "سلام الردع"، وتسارعت عملية النشاط الاستيطاني المحموم بهدف منع أية إمكانية لقيام دولة فلسطينية، وإبقاء الفلسطينيين تحت الهيمنة "الإسرائيلية" الدائمة، وارتكزت سياسات "نتنياهو" على افراغ التسوية من أي محتوى، مستبدلة شعار "الأرض مقابل السلام" بشعار "السلام مقابل السلام"؛ بل واقترح "نتنياهو" فكرة السلام الاقتصادي، وبموجب هذا المشروع، تجري مقايضة الشعب الفلسطيني لحقوقه المشروعة بلقمة عيشه تحت الاحتلال. 

أما خطة صفقة القرن التي رسم "نتنياهو" ملامحها الكاملة، وتبنتها إدارة "ترامب"، فقد مَثّلت ذرورة الصلف الصهيوني، لإخضاع الشعب الفلسطيني، وارغامه على التنازيل عن حقوقه التاريخية والسياسية. وإذا شئنا الدقة، تُمثل خطة صفقة القرن، رؤية الإجماع الصهيوني للتسوية النهائية مع الفلسطينيين، مع فروقات سطحية وهامشية بين مختلف التلوينات السياسية والأيديلوجية "الإسرائيلية".

إن هذا المشروع الخطير الذي رفضه الشعب الفلسطيني شَكلّ لحظة فارقة، ودق جرس الإنذار الخطير، في ضوء تواطؤ من بعض الأنظمة العربية، وبضغط من إدارة "ترامب"، بيد أن الفلسطينيين رغم ضعفهم وانقسامهم استطاعوا مقاومة المشروع وإفشاله. وبهذا أخفقت أخطر خطة كانت تواجه الشعب الفلسطيني، وتهدد وجوده المستقبلي.

لكن "إسرائيل" حصدت بعضاً من ثمار خطة صفقة القرن، و أفلحت في إرغام أربعة أنظمة عربية على توقيع اتفاقيات تطبيع معها، وقبرت إلى الأبد الخطة المعروفة "بمبادرة السلام العربية"، الأمر الذي ترك ظهر الفلسطينيين مكشوفاً، ولم يعد أحدٌ يتحدث عن عملية السلام أو المفاوضات، مع الاكتفاء بالعبارات الخجولة من جانب بعض الزعماء العرب، حول ضرورة إيجاد حل للقضية الفلسطينية.

لقد جردت "إسرائيل" السلطة الفلسطينية، طوال ثلاثة عقود من التسوية، من أية إمكانية للتَحوّل إلى دولة، وتحاول تجريدها من أية وظيفة سياسية، مع الإبقاء على وظيفتها الأمنية، والضغط عليها لملاحقة أي مظهر من مظاهر المقاومة. 

ولعل الأخطر من كل ذلك محاولة إفراغ السلطة من أي محتوى وطني، وتحويلها إلى سلطة عميلة.

ففي السنوات الأخيرة أمعنت "إسرائيل" بشكلٍ سافر، في الضغط على السلطة، للتوقف عن بعض السياسات مثل: التوقف عن دفع رواتب الأسرى والجرحى والشهداء، والاحتجاج على بعض البرامج الإعلامية، والضغط لحذف بعض المقررات في المنهاج التعليمية، وانتقاد زيارات مسؤولي السلطة لبيوت عزاء الشهداء...الخ، واتخذت مجموعة من القرارات والإجراءات: كالاقتطاعات الضريبية الشهرية، وإعادة إحياء الإدارة المدنية، وسياسة الاجتياحات اليومية للمدن والبلدات الفلسطينية، علاوةً على الممارسات الإجرامية الاعتيادية من قتل واعتقال، وهدم للبيوت، ومصادرة للأرض، واقتلاع الأشجار، وعربدة المستوطنين، والحواجز، وسياسة العقاب الجماعي، عدا عن الحروب المُدمرة على قطاع غزة.

إن الضغوط التي تمارسها "إسرائيل" على السلطة الفلسطينية بهدف تكريس وظيفتها الأمنية، من شأنها أن تسمح بانفجارها من الداخل، لأن بنية السلطة وإن انطوت على مركبات مرتهنة لمصالحها التي تتقاطع مع الاحتلال، غير أنه لا يمكن تحويلها بالكامل إلى مجرد وكيل أمني، وإلا فإنها ستفقد أية شرعية وطنية، بل وحتى مبرر وجودها. 

أما الخيار الممكن والمجند من ناحية الدوائر الأمنية "الإسرائيلية"، يَتمثّل بعدم السماح للسلطة أن تقوى وتتطور على نحوٍ يتيح لها التَحوّل إلى دولة حقيقية، وفي ذات الوقت عدم السماح بإضعافها وانهيارها. بعبارةً أخرى إبقاء السلطة على حالها: لا هي قوية ولا هي ضعيفة، مع مواصلة ابتزازها وممارسة الضغوط عليها، كما يجري هذا الأيام.

إن إخفاق عملية التسوية ووصولها إلى طريقٍ مسدود، إلى جانب الممارسات العدوانية الصهيونية المتواصلة، من شأنها أن تدفع باتجاه انفجار الأوضاع. وهذا الانفجار تتوقعه الأجهزة الأمنية "الإسرائيلية" منذ سنوات، وتستند لسيناريوهات محتملة، على نحوٍ يتيح لها الإبقاء على الحالة الراهنة، أي إطالة أمد التسوية المعطوبة.

ومن السابق لأوانه الحكم على موت التسوية؛ فالقوى العالمية والإقليمية علاوةً على طرفي معادلة الصراع يمتلكون إمكانية إيقاظها من غيبوتها العميقة، والعودة إلى المربع الأول، حيث يعاد استئناف اللقاءات السياسية، والعودة إلى طاولة المفاوضات العبثية. 

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كاتب وأديب وشاعر، ومفكر فلسطيني.