بقلم الأسير: منذر خلف مفلح

مقال بعنوان: "ناصر أبو حميد – شهيد على قيد الحياة وأسيرٌ آخر ينتظر حتفه"

منذر مفلح.jpg

مركز حنظلة_فلسطين المحتلة

هل يرحل الشهداء متأخرون عن موعدهم في أيّ مكانٍ في العالم؟ يحدثُ هذا في السجون الصهيونية، ننتظر رحيلاً آخراً لشهيدٍ سيرتقي عما قليل.. وإن تأخر شهيداً عن موعده، ساورنا القلق فلعلنا نحن من يلي في الدور لنرتقي.

فمن نحن؟

نحن من ننتظر حتفنا الآتي لا محالة، طالما سجانّنا، هو قاتُلنا.. وإن أخفى ذلك جيداً، فعيونه تظهر كل شيء، وتشي، بأن أحدنا سَيرحلُ فننتظر، مخففين من وطأة انتظار الموت باتسامة، نُجمل بها لقاءً آخراً مع الأم، الزوجة، الحبيبة، الأبناء وربما، على مقاعدِ الزيارة، موعدٌ مسروقٌ من أنياب الوحش الذي سرق السنوات من أعمارنا، ولم يبقَ لنا خيارٌ إلا الموتِ.

هذا ما حدث مع مئات الأسرى الفلسطينيين في السجون الصهيونية، وهذا ما سيحدث مع مئاتٍ آخرين سيتبعون حتفهم باسمين في وجه العجزِ الذي يعتري العالم تجاه آلامهم وأوجاعهم وموتهم.. في وجه عجز العالم المُتعمد عن رفع سيف الموت الصهيوني عن رقابهم. فاختاروا الموت بابتسامةٍ يهدونها لأولئك الذين يَصمّون آذانهم عن معانياتهم، عَلّ العالم يُصبح أفضل بابتساماتهم تلك.

وهذا ما يحدث الآن في ردهات الموت مع ناصر أبو حميد، الذي يرتقي إلى موته سُلمّاً، سُلمّاً، ليس عجزاً، وليس تردداً في ملاقاة موته، بل لقيده الذي أورثه عجزاً في معصميه وقدميه. وعجزٌ في رئتيه، زرعه السجان هناك، وحرصٌ على تهيئة التربة المناسبة لينمو في أضلع ناصر، والمئات مثل ناصر الذين لا يدركون موتهم القريب، ولا يمتلكون سر الوجع فليجأون مرغمين إلى قاتلهم.. "طبيب السجن القاتل" لعله لا يكون قاتلاً، يجادلُ ناصر، ويُكملُ قائلاً: لعله يقتلني بغيرِ عمدٍ، ويعتذرُ.

هذا ما حدث لناصر أبو حميد منذ بداية قصة موته.. عندما بدأ يتقيأ معدته، ويطردُ رئتيه وأنفاسه ممزوجةٌ بالدم ليلجأ إلى "طبيب" سجن عسقلان، الذي فحصهُ مرغماً، ليقّر له على إثر ذلك، ويسمح مرغماً بتصوير الموت الكامن في أحشاءِ ناصر، ليتبين كتلة ملتصقة برئتيه.

يخبره قاتل السجن، هذا ليس الموت. لعله بعضاً منه فقط يراودك، ولا تتلكك سأساعده للتخلص منك، الكتلة التي تختزنُ الموت تحتاجُ لمضادٍ حيوّي ينشط ذلك الموت البطئ.. وسمح الطبيب به لعل الموت يتمكن منه.

أيكون هذا الطبيب رحيماً، يُعجل الموت حتى يتخلص الأسير ناصر من آلامه، فطالما الموت آتٍ إليك، لِم لا أنشط لك هذا الخيار (كمساعدةٍ إنسانيةٍ) أقدمها لك.

صرف له "الطبيب" مضاداً حيوياً "كتجربةٍ طبية"، ربما، فالذي أمامه ليس إلا ، اختبارية الموت، استخلاص الموت من البشر، والتجارب الطبية مسموحة " بقانون دولة الاحتلال" و"الطبيب" يبقى طبيباً، طالما قانون (دولته) يجيز له القتل.

لقد أثار العديد من النشطاء الحقوقيين، والمؤسسات القانونية وحتى أعضاء "كنيست" في تسعينات القرن الماضي، قضية التجارب الطبية على الأسرى الفلسطينيين، وهي قضية موثقة في أرشيف ما يُسمى "الكنيست"، وصدرت العديد من الدراسات حول هذه الحالات وعددها، والجهات التي سمحت بذلك، وقوننت ذلك بما فيها (وزارة الصحة الصهيونية!).

ازدادت حالة ناصر سوءً، مما استدعى "الأطباء" لنقله بشكلٍ عاجلٍ إلى مشفى (أساف هاروفيه)، لاستئصال تلك الكتلة القاتلة المحايدة، التي تبرأ السجانُ منها، وجهلها "طبيب السجن"، فهو ليس قاتلاً!.

لعل حالة ناصر لم ترد في كتبه الجامعية، لعله لا يمتلك رخصة مزاولة المهنة، فاستأجر السجان خدماته كحانوتي لقتل الأسرى في (آساف هاروفيه) اكتشف الأطباء الحقيقيون أن الكتلة التي أدعى طبيب السجن أنها "دهنيات" بأنها كتلةٌ سرطانيةٌ خبيثةٌ تسببت بحدوثٍ أورامٍ عدة بمنطقة الصدر، ألا زلت تعتقدُ أن "طبيب السجن" أقل خُبثاً من أورام ناصر "تلك الأورام التي راقبها طبيبُ السجن تتكاثر، وتنمو لتحتل جسده، ويساعدها بمضاده الحيوي الاختباري"!.

(أراد وأحب أن يكتشف ذاته طبيب السجن المحُتل، كيف تكاثر ونما واحتل الأرض هو، نشعر بألفةٍ مع ذلك الخبيث الذي يشبهه كثيراً، السرطان الذي نما وتكاثر واحتل جسد ناصر، ويحتل أجساد الأسرى برعاته).

لجأ ناصر إلى الأطباء الحقيقيين، كالمستجيرُ من الرمضاءٍ بالنار، فصرفوا له دواءً اختبارياً آخراً. لعل الجسد الفلسطيني المعروض على خشبة التعذيب، أو الإعدام الطبي يشي لهم بفتحٍ طبي، ينالون عليه جائزة نوبل في الطب، ويحتفل العالم راقصاً على آلام ناصر، ودماء الأسرى الفلسطينيين في ذلك التقدم الطبي، إلا أن الاختبار فشل وازداد وضع ناصر الصحي سوءً. فهو يسمع روحه تزهق ويرى عظامه تُطحن ويشتم شواء جسده.. يا لهذا الجسد الفلسطيني، العنيد، الذي يرفض تجاربنا الجديدة، يرفض الاستسلام لاختباراتنا، كي يمنحنا نصراً جديداً على دماء الأسرى والفلسطيني، فعالجوه، بالكيماوي، ليطهروا جسده من الحياة تماماً.

بعد أربعة أشهر من المعاناة والألم والأوجاع سمحوا له بتلقي جرعات الكيماوي.. متأكدون أنه لم يعد يجدي نفعاً أمام حالة ناصر، اثنا عشر جرعةً "كيماوية" تلقاها جسد ناصر، ليكتشف أطباء هذا المكان الجهنمي بالنسبة للأسير الفلسطيني عامةً ولناصر خاصةً "المشفى" أن حالته تزداد سوءاً، وتأكدوا أن لا جدوى من علاجهم الكيماوي.

أيكون علاجاً اختبارياً آخراً؟

من يدري، فالأمر يحتاجُ للجان تحقيقٍ مختصة، أو ربما الإفراج عن ذلك الجسد الميت، لاكتشاف الجريمة.

ذلك الجسد الميت الذي لا زالت روحهُ الفلسطينية تقاوم وترفض الاستسلام، وتصرُ على فضح الجريمة وكشف المجرمين.

تصر على أن تفقأ عين المتعامين عن مرضه الخبيث الذي انتشر حتى الدماغ والعظم، ليقر الأطباء بفعلتهم ضمنياً بوقفِ "العلاج" عنه، والإبقاء على المُسكنات، علّه يتحسن بعد أن استنفذوا ذخيرتهم الاجرامية من الدواء الاختباري غير الشرعي على أجساد الأسرى الفلسطينيين.

وحالته الآن.. ناصر الآن حسبما يُفيد الأسير "إسلام أبو حميد" المحكوم بالمؤبد إلى جانب أربعةِ أشقاء آخرين إلى جانب ناصر في السجن:

(ناصر لم يعد سوى جسداً يخوض الصراع مع الموت، تماماً كروحه الحرة التي لطالما خاضت الصراع مع الاحتلال. ناصر يخوضُ الصراع مع الموت، بلا مساعدة – تماماً كما يفعل الفلسطيني الذي يخوض صراعه مع الاحتلال بلا مساعدة، دون أدوية، دون يداً ترحمهُ، تدرء عنه الألم في ردهات الوحشة والموت في مسلخ سجن الرملة.

ستطاردُ روح ناصر الموت لمدة خمسة أشهر إضافية من الانتظار على قارعة الموت، ستمتدُ في ظلمةِ الليل أو في الحُلم، لعلها في سكرات الصحو – يداً حانيةً تمسد روحه، فتنتفض الحاية فيه لتقبيل يد أمه التي تسللت إلى روحه، فتنهره القيود التي أحدثت صريراً أزعج "طبيب السجن" الذي هرع بعد منتصف الليل بقليلٍ للتأكد، وتفقد ذلك المريض الذي انتزعوا له سبعة سنتيمترات من رئتيه منذ البداية كي يزيلوا ذلك الورم.

هرع الطبيب لتفقد قيود الأسير وليطمئن أنها لا زالت موصدةٌ أمام ما تبقى له من روحٍ في الحياة، وأمام لقاءً أخيرٍ وابتسامةٍ أخيرة لوالدته.. فمت يا ناصر واتقن رسم ابتسامتك الأخيرة، وأبقي لنا من بعدك موعداً نلتقي به عما قليلٍ هناك في عالم الموت). 

بقلم عضو اللجنة المركزية العامة للجبهة الشعبية، مسؤول الإعلام في فرع السجون، مدير مركز حنظلة للأسرى والمحررين.