بقلم الاسير كنعان كنعان .

الإضراب ، عندما يلاطم الكف المخراز .

67CBEB4B-A71C-4B3D-AA6D-AF52FF2EDE77.jpeg

هي حرب معلنة بين ذبيب الحياة وهدأة الموت، حين يكون الجسدُ الإنساني وحيدًا كالروح المطاردة، يبدده نزف الوقت البطيء، جوعًا ووحدة وحزنًا لا ينمحي، وهو كأنه من نسل الحجارة والغربان والصقور والفراغ والخوف المجهول والأمل كلها تزاوجت وأنجبته في هذه البقعة المعزولة والقذرة، والمفتوحة على كلِّ شيءٍ إلا الحياة وقد مضى على إضرابه وجموع المنسين عن الطعام، ما يربو عن الأربعين يومًا في عزل سجن الرملة، ينهشه الوجع وتخونه حواسه باضطرابها، يهربُ بأنفهِ عبثًا من رائحته ومن رائحة المكان كالغريق الذي يلتقط آخر أنفاسهِ وقد امتلأَ على آخرهِ، برائحة الأجساد التي أخذت تموت وتهذي في داخله ومن حوله وعلى امتداد الجوع في الزنازين المجاورة، الضيقة كوحدته، وسقف منخفض كغيمة ضلت طريقها على قمةِ جبلٍ فحجبت عنه المدى، تصطدم أنفاسه وتعود إليهِ بطعم الصدى، وفي لحظة غياب كأن حُلمًا طيبًا اقتحمَ صدرهُ، واستقرَ في تلك النقطة التي تنتشر فيها دوائر ودوامات الأماني والحرمان، امتطى صهوة الحلم المرتعش وأمسك بلجام الجوع الهائج واستجمع ذاكرته التي أخدت تخونه في ومضاتٍ ومضى..

وقد كانت بدايات الحركة الأسيرة قبل تبلورها قاسيةً جدًا ومريرةً في العام 1967م، حيث افتقاد للتنظيم ولأية قوانين داخلية تحكم حياة المعتقلين، وكانت ممارسة السجان غاية في القمع والتنكيل، فكان الأسرى يُجبرونَ على ارتداء الزي الخاص (بنطال وقميص وطاقية برتقالية اللون)، وكانوا يُجبرونَ على الوقوف على العدد الصباحي بذات اللباس، وكانت لدى الأسير ثلاث بطانيات فقط واحدة كفرشة والثانية كمخدة والأخرى كغطاء، وهذا صيف شتاء يُجبرُ الأسير على ترتيبها وطيها ولا يسمح له بفتحها إلا بعد المساء عند النوم، وكان التدخين فقط 4 سجائر والولاعة مع السجان وكان يُشترط على الأسير عند طلبها قول: "هل تسمح سيدي"، وكان الخروج إلى الفورة "ساحة النزهة" ساعة واحدة فقط يسيرون فيها اثنين اثنين دون أن يتحدثا مع بعضهما البعض، أيديهم للخلف معقوبة، والرأس للأسفل، وكان أي تجاوز لهذه القوانين الصارمة والمذلة تُعرض الأسير للضرب المبرح وحتى التكسير، كما كان الأسرى يُجبرون على العمل في مصانع الاحتلال الصهيوني، وقد امتدت هذه المرحلة بما حملته من معاناة حتى العام 1970، وهو تاريخ أول إضراب تخوضه الحركة الأسيرة بسجن عسقلان، في سبيل تحسين ظروف حياتهم والعيش حتى داخل الأسر بكرامة، فاستمر إلى ما يُقارب الأسبوعين في الإضراب، وقد سقط في اليوم العاشر أول شهيد للحركة الأسيرة وهو الشهيد عبد القادر أبو الفحم، إلا أنهم انتصروا وحققوا إنجازات كبيرة على بساطتها إلا أنها تعني لهم الكثير، فألغوا كلمة "سيدي" وحرية المسير في الفورة والتفاعل بحرية بدون ربط الأيدي للخلف والرأس للأسفل،  بالإضافة لجومه (قطعة بلاستيك أو المطاط توضع مكان البطانية للنوم عليها)، وفي هذه المرحلة أدرك الأسرى أهمية الوحدة، ليبدأ تبلور الوعي السياسي والتنظيمي والأمني الذي كان مفقودًا، وصولًا لوضع أولى أسس العمل التنظيمي في العام 1976م، ليعلن عسقلان بالتنسيق مع باقي السجون في نفس العام الإضراب عن العمل في مصانع العدو، وقد استمر الإضراب لـ45 يومًا، وقد واجهت إدارة مصلحة السجون هذا الإضراب كعادتها بالقمع والحرمان والعزل، إلا أن الأسرى أصروا وصمدوا وانتصروا، ولينتهجوا بيدن المواجهة في سبيل تحسين ظروف حياتهم والقتال على الحياة الكريمة، لم يمضي أكثر من شهرين على الإضراب السابق، ليعلن عسقلان إضرابه عن الطعام من جديد في العام 1977م لعشرون يومًا وينتصر، ويحقق الفرشة الإسفنج وتستمر المواجهة..

الى بيسان... طفلة الحلم الهارب من سطوة الحرمان والذي ظلَّ يجتاحه طوال عقدين من الغياب، فهي أكثر المنى التي أحبها وأرادها بقوة كالغصة تدق جدران عينيه بالدمع الحبيس، كلما حلَّ ذكرها وجالت في روحه الأماني، حقيقةً لا يُخالطها خداع أو خيال الرؤى، كالندى كالصدى تتردد بنداء أبي، وقد ملت اللهو والنوم والتخفي بين شقي صدره ورأس معدته كعصفور لم يكسي جسده الريش بعد، كانت تتكعبل هناك، وكأنه أنجبها في حمل تك الحلم عبر النطف المهربة، لم يتسنى له رؤيتها بعد، فهي منه ممنوعة بعرف العدل الصهيوني، وارتباك أمها وما بين الأماني وبينه، ووفاء أهله الكرام، وأملاك الغائبين، فليس السجان وحده صاحب السلطات، فذويه أيضًا قرروا وضع يدهم على ممتلكاته، في لحظة غيابٍ ستطول أو كما قالوا لن يرى النور.. 

وسيقضي حتماً في الغياب، ولفظوا حبيبته كما يلفظُ الجسدُ خراج جرحٍ غائر، فخرجت من نفسها ومنه، فكل صباحات العشق المُنتظر وليالي الاشتياق وكل سيءٍ جميلٍ حاكوه معاً.. ولكن كيف استطاعت؟ كيف؟ قتل الحنين ووأد الأمل، فتركتنا في منتصف الحلم والحقيقة يا بيسان.. وهي التي كان يصنعها بقلبه فتنتشر في شرايينه كل دفقةٍ قبل آذانه، فكان يتردد صوتها في صدره كآذان، ليبتهل كل ما فيه بمحرابها، كيف استطاعت؟ كيف؟ أن يصبح على رفوف الذِكر والنسيان، وقد كسرت قيود أسره مذ عرفها وصار للصبح معنى وللحلم أمل، كيف استطاعت؟ كيف؟ بأن تمسح من ذاكرتها الغبر بكائيات الشوق وزهد الليل وانتظار الموعد، كأن الحياة فاصل لا معنى له في صيرورة عشقها، كيف استطاعت؟.. وأخذ حصان أملي يتهادى ويهوي وقبل أن يصلَ الأرض بمترٍ ونصف اسقطه (ارتفاع برشه العلوي)، ارتطم بالأرض بقوة الجسر الساقط من علو، ولكن يد القدر ضمته لكانت النهاية المتوقعة لمثله، جنود وحدة المتسادا يطوقونه من كل جانب، لا يرى من خلف دروعهم الا عيونهم ورفض الحقيقة القائمة، حيث فتح عيونه بتثاقل فاقد الوعي، ولولا خيط الدم الراعف من أنفه، لظن أن هذيانه أخذ منحنى اللاعودة، وبدأ يغوص في المجهول، فعلى ما يبدو أنهم ظنوا أنه فارق الحياة بعد أن حاولوا ايقاظه مراراً وتكراراً كما قيل، فأسقطوه من على برشه العلوي هو بالنسبة لهم في احسن الأحوال الجوييم (روح شريرة تسكن روحاً بشرية) وفق تربيتهم التوراتية الصهيونية القذرة ..
عام 1980 أعلن سجن نفحة اضرابه والذي كان مفصلياً في حياة الأسرى، فقد قامت مصلحة السجون بتجميع قيادات الفصائل وكوادرها في سجن نفحة الصحراوي بأوضاع مريرة جداً والتي كانت تهدف لتمزيق الوضع الداخلي للحركة الأسيرة، ولكن مع سقوط الشهيدين راسم حلاوة وعلي الجعفري، استجابت الأخيرة للعديد من المطالب أهمها البرش (السرير) والغاء اطعام الأسير المُضرب بالقوة، بالإضافة الى توسيع الشبابيك من طاقة 10*10 سنتيمتر الى 50*50 سنتيمتر، وكما استشهد ايضاً على اثر الاضراب الشهيد اسحاق مراغة، فقد تغير اسلوب المعاملة من قِبل مصلحة السجون مع الأسرى، وبالتالي اشتد عود الحركة الأسيرة وتحولت حياة الأسرى بالانتقال التدريجي الى ممارسة الحياة التنظيمية والثقافية بل مدراس ثورية.
عند افتتاح سجن جنيد في عام 1984، وبعد 9 شهور على ذلك أُعلن الاضراب الذي استمر لثمانية عشرة يوماً والذي يعتبر مفصلي في حياة الحركة الأسيرة والذي حقق انجازات أساسية في حياة الأسرى مثل التلفزيون والراديو وزيارتين للأهل في الشهر بدلاً من زيارة واحدة وزيادة زمنها من 30 دقيقة الى 45 دقيقة، بالإضافة لإدخال الملابس المدنية كاملة، والأكل فوق الحد الأدنى، وزيادة الفورة من ساعتين الى 4 ساعات، الى فورة الرياضة.

إلا وأنه بعد أن تسلم ادارة مصلحة السجون من قِبل المدعو ديفد ميمون قام بسحب كل الانجازات التي تحققت بالدم والشهداء وأطنان اللحم التي ذابت، والامعان والاستخفاف بالأسرى وحقوقهم، قام هذا المدعو ميمون رسم الشمس داخل الأقسام وقال (تشمسوا بقدر ما تُريدون، ما في فورة بعد اليوم)، ليُعلن سجن الجنيد الاضراب عن الطعام والذي استمر لعشرين يوماً وانتصروا وأوقفوا الهجمة وتراجع هذا المأفون وإعادة كل ما تم سحبه من انجازات.

وليستمر البذل والعطاء للحركة الأسيرة واشهار سيف المواجهة وانتزاع حياة كريمة، وليدخل سجن نابلس بالإضراب في العام 1992 الذي استمر لعشرين يوماً فكان الأكثر تميزاً وألماً بحيثُ المشاركة الجماهيرية في الخارج في دعم صمود الأسرى في اضرابهم وقد سقط 20 شهيداً في المحافظات التي هبت لنُصرة الأسرى، كما واستشهد الأسير حسين عبيدات، فقد حقق الأسرى البلاطة (الموقد الكهربائي) والمروحة وادخال الأغراض عن طريق الأهل وما يُسمى التفريط وهو ما يحق للأسير في دولة الكيان من حقوق تتعلق بالأكل والمُشتريات.
استعاد توازنه الى الحياة بعد أن فرغوا من تفتيشه وزنزانته التي لا تحوي سوى فرشةٍ وغطاءٍ باليين قذرين بالمقصودية كأداة ضغط اضافية وقد استغرقهم ذلك طيلة الليل حتى الصباح وهو مُلقى على الأرض شأنه شأن الغطاء، استجمع ما تبقى في الرمق الأخير من قواه متكأً على جدران زنزانته النتأة تجاه الحمام ليغل ما جف من دم وجسد وملابس بالماء فقط ليوجد في معركة هذه سوى الماء ليسد جوعه ووجعه وعطشه وحلمه وخندق دفاعاته الأولى والأخيرة في مواجهة اقذر سجان عرفه التاريخ..

أخذ يبتسم وهو يتحسس عضلاته التي ذابت كالثلج في لهيب، بعد أن فرغ من ازالة آثار العدوان وأيام المعركة الطويلة وهو جالس على طرف سريره بلباسه الداخلي فقط، في انتظار أن تجف ملابسه أو أن يتوهم ذلك، وقد التصق بطنه عموده الفقري وذهب كل ما بناه خلال سنين تلك اللحظة، وهذه اللحظة لا يزيد عن 30 كيلوجراماً، وصار يشبه الصورة النمطية للاجساد جففها الجوع والفقر والترحال واللجوء في الصومال واليمن وسوريا وفي كل بقاء الأرض ممن تقطعت بهم السُبُل وجارت عليهم الأزمان وظل يبتسم ويُحدثُ نفسه ما أعظم امكانية هذا السجان القذر، موسيقى يُسمعنا ليرفه علينا؟! وكانت الأُغنية بالعربية تحكي عن فقدان الأم والحزن الذي يصاحب ذلك لأي شخص خارج هذه الزنازين فكيف سيكون أثرها على من بداخلها! ونحن لأكثر من شهر ونصف معزولين تماماً عن العالم الخارجي، وهذا اسلوب تعذيب نفسي يستخدمه السجان من بين الكثير من الأساليب كالإذاعة عبر مكبرات الصوت بأن من يُضرب يفقد خصوبته وقدرته على الانجاب ويتساقط شعره وتلازمه العاهات المستديمة مدى الحياة، بهدف كسر الروح المعنوية لدى الاسرى بكل السُبل.

وبعد عقد اتفاق اوسلو سيء الذكر عام 1993 واعطاء السلطة بنبونة الأسرى وترك أكثر من 500 أسير لمصيرهم المجهول ظلوا يعيشون تحت وهم الدولة والتحرير من الأسر وارتهنوا لذلك، وبعد التراجع والتراخي وسحب الانجازات وما صاحب ذلك من ضياع الكراسات التنظيمية والأمنية، إلى أن اندلعت انتفاضة الأقصى، وبعد توافد أعداد كبيرة من الأسرى، فكان من الصعب استيعابهم وتأطيرهم وزجهم في العمل وعمت الفوضى والارتجال في العمل، وبموازاة ذلك تغلغلت ادارة مصلحة السجون أكثر وأكثر من خلال مجنديها من جهة ومن تعطيهم بعض الانجازات من جهة أُخرى، فكان لا بُد من اعادة الأمور الى نصابها عن طريق زج الاسرى بالإضراب وبذلك يذهبون برجل مكسورة سلف وكأنه هروب الى الامام، كان الاضراب 2004 الذي استمر لثمانية عشر يوماً، وقد استخدمت مصلحة السجون بالمقابل وسائل قمعية جديدة لم تستخدمها من قبل، فسحبوا كل شيء حتى الملح والماء البارد والدخان وأشياء أُخرى لم تكن ممنوعة في الاضرابات السابقة، وعملت كل شيء في سبيل كسر الاضراب وللأسف نجحت في ذلك، وكان هذا التاريخ فارق في حياة الحركة الأسيرة فقد تقسمت الحركة الأسيرة وتشظت ولم يعُد هنالك قوانين تحكم الحركة كما والكثير من الحالات السلبية التي مازلنا نعاني آثارها حتى اليوم، فالأقسام حسب التقسيم الجغرافي والسكني، والشلليات والبلديات التي أصبحت تحكم السجون، ولم تستطيع الحركة الأسيرة توحيد صفوفها على موقفٍ واحد والشواهد كثيرة، سياسات العزل الانفرادي والاهمال الطبي والذي سقط بسببه الكثير من الشُهداء الذي فاق 226 شهيداً كان آخرهم الشهيد كمال أبو وعر، والعديد من الأسرى المرضى بأمراض مستعصية وخطيرة بدأت تتفاقم حالتهم المرضية بسبب عدم تقديم العلاج المناسب والمماطلة في ذلك والظروف الصحية الصعبة التي يعيشها الأسرى بشكل عام، كما وتمارس ما يسمى بعيادات مصلحة السجون تجارب الأدوية الجديدة حسب تقارير منظمة حقوقية اسرائيلية (بيتسيلم) علينا.

وما زاد الطين بلة، الانقسام الافق  والعامودي بين فتح وحماس والذي شظى قرار الحركة الأسيرة أكثر وأكثر، وصار من شبه المستحيل الاجماع على قرار مُوحد، وصار كل تنظيم يعمل لصالحه وبمفرده وللصالح العام ان أمكن وهذا ثانياً، إضافة لذلك أصبح يغلب على الحركة الأسيرة الاضرابات الفردية التي يخوضها بعض الأسرى من أجل تحقيق مطالب خاصة كإضراب الاداريين، أو العلاج، أو الخروج من العزل الانفرادي، فأي مُناضل له مطالب أصبح ينتهج هذا الاسلوب مما أدى إلى رفع سقف الاضراب الى أيام طويلة.

وفي عام 2011 دقت الجبهة الشعبية جدران الخزان بإعلان الاضراب لوحدها بعد نفاذ مشاوراتها مع الفصائل دام لإحدى وعشرين يوماً، حيثُ استفردت بهم ادارة مصلحة السجون ومارست ضدهم أبشع وسائل القمع والتنكيل والعزل، وكانت مطالب الاضراب اخراج المعزولين من الفصائل والذين أمضوا فترات طويلة في العزل الانفرادي وعلى رأسهم الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القائد أحمد سعدات، وكان الاتفاق على ذلك مبدئياً مع ادارة مصلحة السجون كإنجاز، إلا أن الأخيرة تنصلت من الاتفاق فيما بعد، كان من الصعب العودة للإضراب في ظل حالة الاحباط التي سادت الحركة الأسيرة بعد انجاز صفقة الاحرار.

وبعد ستة شهور من اضراب الجبهة الشعبية أي في 17 أبريل 2012 دخل ما يقارب نصف الحركة الاسيرة كل من الشعبية وحماس والجهاد والديمقراطية وبعض الفتحاويين في اضراب دام لثمانية وعشرين يوماً وكان المطلب اكمال ما بدأته الشعبية بإخراج المعزولين واستعادة زيارات اسرى غزة الذين تم منعهم بعد الانقسام وسيطرة حماس على قطاع غزة، بالإضافة لتحسين الظروف الحياتية واعادة بعض ما تم سحبه، فكان لهم ذلك وانتصروا على السجان بعدما امعن فيهم تنقيلاً وتنكيلاُ.

لِمن أراد، المعتقل مدرسة للصمود وجامعة ليس لها حدود فيها يُعطي الأسير أقصى ما عنده من صبر وتحمل وتعالي على أوجاعه الشخصية، بحيث يكون قدوة لغيره من المعتقلين ممن كانوا أقل منه صلابةً وتحملاً لأوضاع الاعتقال والاضراب بشكل خاص، وبعد ثلاثة وأربعين يوماً في اضاربه الاخير عام 2017 والتي خاضته معه نصف الحركة الأسيرة، بهدف الحياة الكريمة ووضع حد لاستفحال ادارة مصلحة السجون هذا الحدث المُعلن، ولكن بعد تعليق الاضراب تبينت حقائق أُخرى وتحالفات واستغلال جموع المضربين لأسباب شخصية.
رغم بللها ارتداها وسار ببطء وثقة ليشد من أزر زملائه في الزنازين المجاورة على مدى البؤس والألم، كما دأب على فعل ذلك طوال فترة الاضراب، فكانت كاجداف تحتضن ساكنيها وتكتم انفاسهم فلا صوت إلا الأنين لمن وقع وتهشم وجهه وما أكثرهم فبعد هذا الزمن الطويل من الجوع والتنكيل والتعب، فالوقوف مرةً واحدة كفيلاً بأن يوقعك كجذع شجرة ميت دون مقدماتٍ أو أي قدرةٍ لمنعه، تخونه قدماه ويداه جملةً وتفصيلاً كالمشلول تماماً، لذا نحرص أن نقف على مراحل كي لا نواجه هذا المصير ونعمم ذلك على المعتقلين الجدد وكيفية ادارة طاقة الجسد والحفاظ عليها لأطول فترة ممكنة كي يكونوا قادرين على المواجهة وعدم السقوط.
لم نحقق في هذا الاضراب سوى الصمود وبعض المشاكل الصحية التي ستُلازمنا طِوال حياتنا وقد تحالف ضدنا زملائنا من الحركة الاسيرة المرتبطين بالأجهزة الأمنية الفلسطينية للأسف، فقد تركونا في منتصف الطريق وعلقوا اضرابهم بالمئات وضغطوا على من يليق بهم وقريب عليهم بأن يعلقوا اضرابهم، استجابةً لأسيادهم في الأجهزة الأمنية، وكان المبرر حاضراً بأن أحد قيادات الاضراب وهو مروان البرغوثي كان يخطط لقلب الطاولة على السلطة لأنهم استثنوه من المحاصصة في المؤتمر الأخير لفتح، وهذا تكشف للأسف فيما بعد، مما جعل السلطة تعمل ضدنا وحتى تعتدي على أهالي وأمهات الأسرى المضربين، ومنعهم من التضامن معنا ومنعهم من الوصول الى نقاط التماس للضغط على الاحتلال للاستجابة لمطالبنا، وقد تكشف ذلك أيضاً بعد تعليق الاضراب، وبذلك كانت الهزيمة المعنوية مدوية أعمق وأكبر حد البكاء، هذا من جهة ومن جهة أُخرى انحدرت الحركة الأسيرة الى منعطف اللا عودة، لن تعود الا اذا هُزت كل عروش المنتفعين من المُنسقين داخل السجون وخارجها وحدوث شيءٍ جلل، فمزيد من العزل مزيد من الاهمال الطبي ومزيد من مصادرة الحقوق ومزيد من تجاوز الخطوط الحمراء كترك أسير حتى الموت كما حدث مع الأسير المقدسي الشهيد عزيز عويسات، دون أن يكون رداً يرتقى الى تاريخ الحركة الأسيرة وتضحياتها الجسام.