كتب الأسير شادي الشرفا من زنزانته في سجن جلبوع..

المعتقلون الفلسطينيون والسلطة الرابعة:  قراءة نقدية للخطاب الإعلامي المحلي والعربي

cb831d390b52888707cbf46367b77abe.png
المصدر / السجون-حنظلة

. بقلم الأسير شادي الشرفا

أربعة عقود مرت على اعتقال نائل البرغوثي..قبل عشرة أعوام بثت إحدى وسائل الإعلام الفلسطينية رسالة "تضامنية" مع نائل الملقب بـ "أبي النور"..احتوى المشهد على مؤثرات موسيقية، ثم ينطق أحدهم بصوتٍ أجش: "نائل البرغوثي".. ثم يصمت قليلًا لبضع ثوانٍ ويخشَنُّ الصوت مرددًا: "ثلاثون عامًا في الأسر" ثم هدوء مع إيقاعات صوتية تزيد من رهبة الصوت القائل: "لننن يطول أسرك !".
تسع كلمات فقط "نائل البرغوثي..ثلاثون عاماً في الأسر..لن يطول أسرك.." تسع كلمات تُجسِّد جملة من الإخفاقات ليس أكبرها الخطاب الإعلامي بخصوص الاعتقال السياسي لمئات آلاف الفلسطينيين على مدار عقود الاستعمار - الاستيطاني الصهيوني في فلسطين.
وإن كان هذه كلمات تسعٌ فقط، فإن رد نائل لن تسعه تسع كلمات، أذكر أنه نطق تسعة حروف: "طمأنتموني!".
لقد تعودنا كأسرى وكمجتمع فلسطيني تحت الاحتلال على هذا المستوى من الخطاب الإعلامي الأجوف، لذا فلا غرابة لدينا أن نسمع تعبيرات تعكس حالة التناقض بين المسؤولية المجتمعية في تحرير الأسرى والواقع على الأرض، كتعبيري "جنرالات الصبر وعمالقة الصبر"..إلخ.
المُتتبع للتغطية الإعلامية المحلية والعربية فيما يخص قضية الاعتقال السياسي، لا يمكنه إلا أن يلاحظ أن نسبة كبيرة من وسائل الإعلام تعتمد "الإنشاء" والاجترار، حيث تُكوِّن معرفة قائمة على افتراضات تقليدية وشكلية، كونها تسير في نطاق الأسس المنهجية للنظام القائم (سلطة وأحزاب). وعجزت بالتالي، عن الخروج عن القواعد والمبادئ والمحددات السائدة والتي تُوظَّف في خدمة علاقات السيطرة والمنفعة القائمة.
يكفي أن نذكر أن هناك جيوشًا من المنتفعين من محامين وهيئات رسمية، ومؤسسات حقوقية ومدنية ومنظمات أهلية، تعتاش من واقع وجود آلاف المعتقلين خلف القضبان، في حين لا يوجد رقابة على أدائها وتمويلها وممارساتها.
نكتفي بالإشارة النظرية للمفكر (ميشيل فوكو) حول الخطاب باعتباره "ممارسة لها قواعدها، تدل دلالة وصف على عدد معين من العبارات وتشير إليها [...] ويتحدث بصورة نهائية كمجموعة من العبارات التي تنتسب إلى نظام التكوين نفسه"، للوصول إلى حقيقة الترابط الجدلي بين "السلطة" و"المعرفة" و"الإنشاء" حسب المفكر المبدع إدوارد سعيد، من هنا سأقدم جلدة حسابات أولية للخطاب الإعلامي لوسائل الإعلام ساعيًا للنقد وليس المجاملة...
ربما تعكس التغطية الإعلامية اليومية للإعلام الرسمي الفلسطيني، والموسمية نسبيًا للإعلام الغير رسمي العربي، حضور ملف المعتقلين على الأجندة، لكن هذا لا ينهي حقيقة أن المعتقلين يُقيِّمون بتباين الخطاب الإعلامي تبعًا لمستوى الوعي الثقافي أو النضج السياسي أو التحصيل الأكاديمي، وربما حتى الانتماء الحزبي وأولويات أخرى أقل تأثيرًا.
ما أصبح بديهيًا للأسف هو غياب عدة عناصر أساسية في العمل الصحافي عن التغطية الإعلامية، الرسمية خصوصًا والعربية بشكل عام، كالحيادية في تناول الحالات، أو الموضوعية في فرزها أو سيطرة التبسيط الذي يعكس السطحية في رؤية الأمور من جهة، والتهويل الذي يعكس الجهل في فهمها من جهة أخرى، عدا عن الشكلية والمبالغات التي في مجملها تضع الإعلام في موقع شاهد الزور والذي لا تقبل شهادته مهما بلغت نسبة الدقة فيها.
وهنالك بحثٌ دائم وتركيز على الإجراءات القمعية، تعكس حالة من الانفعالية الموسمية، كما يلاحظ نوع من الإسقاط الواجب في الكثير من حالات التغطية يحيث لا تغدو قضية الاعتقال كما هي، كقضية كبرى يجب أن تحظى بشكل إعلامي أكثر فاعلية، ناهيك عن التركيز في كثير من الحالات على المعتقلين في المناسبات بحيثُ تعتمد التغطية على لغة الخطاب النمطي والإنشائي.
وتجدر الإشارة هنا إلى الالتزام الذي تبديه بعض وسائل الإعلام المحلية المرئية والمسموعة تجاه قضية الأسرى بشكل كثيف ويومي، لكن أداؤها يظل أسير التمثلات النمطية والخبر الجامد، إضافة إلى استخدامها للتعبيرات المغلوطة والمضللة مثل السجناء الأمنيين، بدل من المعتقلين السياسيين، أو سجن بدل معتقل أو معسكر اعتقال، أو احتلال بدل استعمار وغيرها.
إشكالية التغطية العربية لقضية الأسرى حيث تقتصر الإشارة قي أغلب الأحيان على "الفقرة وكفى" ، بضع ثوانٍ تفتقر إلى التحليل ومشبّعة بالبعد العاطفي والمبالغة في حين أن المطلوب هو تكريس نمط التحقيق الصحفي الموضوعي والمفصّل.

ومثلما صار الشهداء على رأسهم فلان وعلتان، بات التفضيل سمة الإعلام المحلي بمعنى تفضيل معتقل على آخر اعتمادًا على انتماءه السياسي أو قربه أو بعده عن دوائر الرضى الرسمي كما هو الحال في وسائل الإعلام الرسمية الفلسطينية، أو وسائل الإعلام الحزبية الخاصة التي تعتمد التمييز المضاد وبناءً على ذات المعايير.
ومن نافل القول أن من ضمن إشكاليات الإعلام اللجوء والاعتماد على ذات العناوين الجامدة للحديث عن قضية الأسرى (وزير أسرى، مدير مؤسسة حقوقية..إلخ) وغالبية هذه الشخوص منغمسة في الخطاب الاستهلاكي الجامد والمتكلف، حيث يستسيغ المراسلات/المراسلون اللجوء لهذه العناوين ولا يُبذل جهد للبحث عن شخصيات أخرى تقدم الجديد أو التحليل النقدي الغائب عن الشاشة.
ليس جديدًا أن نحاجج بأننا أمام خطاب إعلامي ذكوري يتعاطى مع الأسيرات كضحايا تستحق الشفقة والتعاطف بدل التعاطي معهن كحالات نضالية مميزة، تستحق نوع خاص من التغطية.
إن دلالة "السلطة الرابعة" التأثيرية تكمن في الانتقال من التركيز على التقارير إلى التحقيقات الصحفية الجريئة والموضوعية. فالخطاب الإعلامي غير الحيادي نتج عنه انعدام النقد بإشكاليات الحركة الأسيرة باعتبارها محرمات، إضافة إلى العزوف عن تحدي السلطة وغياب النقد البنّاء للمؤسسات الحكومية والأهلية المعنية بالشأن الاعتقالي، وهذا الحال يفسر عدم الخروج عن الصورة النمطية القائمة وانعدام الجرأة في طرح قضايا حساسة مثل النبش في آليات عمل المؤسسات المعنية بالشأن الاعتقالي، وطبيعة عملها وإنجازاتها وإخفاقاتها، أو فضح سلوكيات المحامين الذين يتقاضون أجورًا تفوق قدرات الأسرة الفلسطينية المتواضعة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، لم نسمع أي وسيلة إعلام تتساءل عن مخرجات أكثر من "مؤتمر دولي" عقد للأسرى، ولا كيفية الدعوة لها، أو شكل اختيار المدعوين أو كلفتها، أو بالحد الأدنى، ما هي منجزاتها؟ وهو ما يدل على غياب المساءلة الإعلامية.
حرص الإعلام على تقديم معطيات رقمية حول قضية الأسرى، لكن ما هي دلالات هذه الأرقام وأبعادها؟ لا نجد وسيلة إعلام تناقش مثلًا حقيقة أن اعتقال أكثر من مليون فلسطيني من العام 1967م إلى اليوم يعني فيما يعنيه السيطرة الاستعمارية على قوة العمل الفلسطيني، وتحويل الواقع الفلسطيني إلى "وضع عبودي". أو مثلًا واقع أن 90٪ من المعتقلين من الطلاب يتراوح أعمارهم من سن 17-24 عام، الأمر الذي يحرمهم من مواصلة تعليمهم الأكاديمي، وبالتالي ضمان الاستعمار بقاءهم في نطاق قوى العمل الرخيصة في المعامل الإسرائيلية. وهذا يدخلنا في نقاش الممارسات الاستعمارية بحق المعتقلين بحيث تركز وسائل الإعلام على التنكيل والبطش والتعذيب والظروف المعيشية والحياتية وبذات الكليشيهات المعهودة ناسية أو متناسية حقيقة أن قضية الاعتقال هي قضية سياسية بالأساس، وليست مجرد مسألة إنسانية وحياتية، وأن إدارة المعتقلات ليست مجرد أداة قمعية إنما أداة استعمارية حيث يتعين إجراء تمييز أساسي بين البعد السياسي - الاقتصادي للاعتقال والبعد الإنساني المعيشي.
من حقنا أن نتساءل لماذا لا تحقق وسائل الإعلام في المماطلة والتلكؤ والتسويف بالتوجه إلى المحاكم الدولية بخصوص قضية الاعتقال، لتفرض على الاستعمار الصهيوني الاعتراف بنا كأسرى حرب والمقصود محكمة العدل الدولية في لاهاي؛ ومحكمة الجنايات الدولية في روما؛ أو حتى المحاكم التي تسمح قوانينها برفع قضايا ضد الممارسات الاستعمارية..والغاية هنا أن تتحول مسألة الاعتقال السياسي من سيفٍ مسلط على رقاب شعبنا، إلى أداة سياسية للضغط على الاحتلال، وصولًا إلى ملاحقة رجالاته في المحاكم الدولية، لعدم الاعتراف بنا والتعامل معنا كأسرى حرب وفقًا لاتفاقية جنيف الثالثة والرابعة التي وقع عليها الكيان الاستعماري الصهيوني نفسه.
ويتضح إخفاق وسائل الإعلام الفلسطينية والإقليمية في نقد الإعلام الصهيوني ونظرته الاستشراقية والعنصرية ضد المعتقلين الفلسطينيين، فالإعلام الصهيوني، ومن منطلق تجريمه للنضال الفلسطيني، يروج صورة نمطية ذات طابع جوهراني تبيح التنكيل والقمع وصولًا للتصفية الجسدية "للآخر" المستباح حقوقيًا وماديًا وربما وجوديًا، مما جعل المعتقلين محاصرون ومنكمشون ومشتتون بفعل الضغط الممارس.
فالمعتقل الفلسطيني - حسب وسائل الإعلام الصهيونية - ينبغي أن يخضع للسيطرة من منطلق الدونية، وأن توضع دماءه تحت تصرف أدوات القمع المؤسساتي الصهيوني، كما يمكن إهماله صحيًا وأخلاقيًا ووجوديًا. إن البحث في جذور التعبيرات العنصرية، ذات الطابع الجوهراني والعدائي لدى الإعلام الصهيوني، هي واجبٌ أخلاقيٌ وسياسيٌ وإنساني، فتعبير "المخربين" أو "أسرى أمنيين" في تجاوز صارخ للقانون الدولي يصوّغ إخضاعهم ويشرعن التنكيل بهم وبعائلاتهم والمساس بحقوقهم المكفولة دوليًا.
تكمن الإشكالية هنا في عدم مواجهة وتحدي هذا الخطاب الاستعماري الصهيوني القائم على التحريض العنصري الذكوري والتمثلات الاستعمارية (برابرة - مخربين - مجرمون - إرهابيون - متوحشون) التي تصوغ الاضطهاد، وهكذا يغدو المعتقل الفلسطيني مؤنثًا، كائنًا مستكينًا مواجهًا لنزوات الذكر. من هنا فإن الإعلام الصهيوني المجند يجب أن يواجه عبر تشكيل جبهة مضادة تعيد تعريف المعنى وتفضح الممارسات الصهيونية التي لا تتقيد بالقانون الدولي على اعتبار أن الكيان الصهيوني دولة فوق القانون.

كما ينبغي تسليط الضوء على الفجوة بين الشعار والممارسة الديمقراطية الزائفة للاستعمار وكذلك سطح الإجحاف القضائي الذي يكيل بمكاييل مختلفة لنفس القضايا إنما بأحكام تختلف بما لا يقاس للأسرى الفلسطينيين عنها بالنسبة للسجناء الصهاينة، الذين يمارسون جرائم بحق الفلسطينيين. الأمر الذي يستدعي من الإعلام إجراء مقاربات صحفية موضوعية بهذا الصدد وفضح هذا الإخلال القضائي العنصري الفج، ناهيك عن الاختلاف في ظروف وأماكن وشروط الاحتجاج.
وفي سياق السعي لإفقار الفلسطينيين والسيطرة على مقدراتهم، بالكاد تسلط وسائل الإعلام الضوء على الغرامات المادية التي تفرضها المحاكم العسكرية على المعتقلين الفلسطينيين، والأرجح أن قلة فقط من المتابعين يدركون واقع أن المعتقلين الفلسطينيين يمولون القضاء والنيابة، وربما كلفة الاعتقال من خلال الاستجابة لسياسة فرض الغرامات المالية الباهظة على المعتقلين عدا عن أحكام الاعتقال.
ندرك وجود كم هائل من المراسلات/المراسلون ومقدمات/ومقدمي البرامج النزيهين والمتعاطفين مع قضايا الاعتقال، من هنا ينبغي التنبيه أن على الإعلامي أن يحمل رسالة، وأن لا يميل للتنصل من واجباته الأخلاقية ومسؤولياته الوطنية، وبالتالي يستوجب البحث عن وسائل للخروج من صندوق الامتثال للخطاب الإعلامي الرسمي الذي يدفع باتجاه صياغة شكل وهوية ومكانًا في الذاكرة عن المعتقلين على شاكلة متحف وطني أو مهرجان تأبين في أحسن الأحوال. وربما تعكس التغطية الإعلامية المتكلفة معضلة يتحمل جزء منها، حالة التفتت والتشرذم البنيوي في الحركة الأسيرة، وسقوطها في مستنقع الخلافات والتناقضات والانقسام والمحسوبيات، فالواقع الاعتقالي -رغم الهالة الموضوعة على المعتقلين- ليس سوى انعكاس الواقع الاجتماعي السياسي خارج المعتقلات.