كتاب على شكل حلقات يكتبها الأسير الأديب كميل أبو حنيش..

الكتابة والسجن، الحلقة الخامسة والعشرون "العزلة والكتابة"

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / السجون-حنظلة

ثمّة فارق بين الوحدة والعزلة. فالأولى تحياها بتعاسة بعد أن يهجرك الأحبة والأصدقاء، أما العزلة فهي خيار، لك أن تختار زمانه ومكانه وطقوسه في قلب عالمٍ ضيقٍ كالسجن. وهذه العزلة التي تحياها وسط رفاق دربك وقيدك داخل الحجرة، هي عزلة يومية لساعات فحسب، تختار موعدها ولا تسمح لأحد بانتهاك خلوتك مع الذات، ليتاح لك تنقية رأسك من الشوائب التي علقت به أثناء النهار، إذ تختارها مساءً وبعد استراحة قصيرة تشرع في اختلائك مع عالم الكلمات كطقسٍ يومي اعتدت عليه. 

في السجن حيث الجدران والأبواب الموصدة والزمن الأبدي يصبح همك كيف تدبر يومك المكتظ بتفاصيل السجن، وبهذا تتحول العزلة والاعتكاف لحاجةٍ إنسانية ملحة، لتخلو بنفسك بهدف استنطاقها... يحدث للمرء أن ينضج تحت نيران سنوات الأسر الهادئة. يحدث له أن يطوّع أيامه ويتصالح مؤقتاً مع الجدران. ومثلما يقول الراوي واسيني الأعرج في إحدى رواياته: (أحاول وسط هذه العزلة أن أجد الحياة ممكنة التحمل) أما أنا في عزلتي الجميلة اليومية والقصيرة أحاول أن أجعل حياتي نابضة، وأفتح نوافذ في جدران عزلتي تطل على عوالم أخرى. 

تمضي السنوات وأنا في هذه العزلة القصيرة، أصغي لنشرة الأخبار الساعة الثامنة، ثم ألج الحمام، آخذ حماماً دافئاً ثم ألوذ أسفل قوقعتي فوق البرش بعد إعداد كوب من القهوة، أسحب أوراقي وأقلامي وأبدأ طقوس العزلة والكتابة. 

أكتب حتى أشعر بالانهاك، وعند منتصف الليل أطفئ أضواء البرش، وأفرّ إلى التأمل بعض الوقت قبل الذهاب إلى عالم النوم... وأثناء تأملاتي قبل النوم، أعبر للجهة السابعة، وهي جهة أبتكرها خيالي الحالم قبل أن أحولها عنواناً لرواية... أعبر من خلالها الزمن... وهناك أحظى بالحرية المطلقة... لا تسألوني ماذا أفعل هناك، فتلك جهتي الخاصة، أيمم وجهي وقلبي شطرها، هناك عالمي الذي أثبته بالأحلام والأوهام الجميلة والآمال البكر، والتي يختلط فيها الجنون مع الواقع. 

ليس بمقدورك الانتصار على السجن بلا خيال واسع، وكما قال حسين البرغوثي: (لا بد من خيالٍ واسعٍ في عالمٍ ضيّق) ولا يوجد ما هو أضيق من السجن سوى القبر، أما الفارق، فالقبور لأمواتٍ لا خيال لهم، فيما السجون لأحياء، بات خيالهم هو حياتهم ووسيلتهم لإنقاذ الحياة من أوجاعها. 

وهنا في العزلة يحدث للشعر أن يتدفق، وينعم القلب بملكة الحب وشغف الحياة، ومثلما يضيف البرغوثي: (القلب يشبه لوح زجاج شفاف، جهةٌ تطل على العالم والآخر يطل على الغيب) والغيب في حالتنا هو عالمكم... عالم ما وراء الجدران، نحلم بالفردوس المفقود الذي انتزعنا منه أعداء الحياة، ونرى عالمكم في عين القلب. 

إذاً عالمنا هو عالم الحلم والرغبات المشتعلة، وشعلة الشوق التي لم يطفئها القيد، للأشياء الاعتيادية في حياة البشر. 

ليس بوسعك أن تحيا في السجن بلا تفاعلٍ يومي مع الحدث الاعتقالي والتنظيمي والثقافي، وكنتُ مزيجاً بين رجل التنظيم والمثقف والكاتب. ومنهمكاً من رأسي حتى أخمص قدمي في حياة السجن، وقد كانت هذه المشاغل تستنزف معظم ساعات يومي غير أن شغفي بالقراءة والكتابة جعلني أخصص جزءاً من الوقت للثقافة الذاتية، كانت قراءاتي متنوعة وليست حصراً على جانب محدد، وبالتالي فإن الكتابة ينبغي أن تعكس هذا التنوع في القراءة. من زاوية ثانية كان يتعين علينا أن نشكل نموذجاً لغيرنا من الأسرى في العمل التنظيمي والثقافي وأيضاً نموذجاً لأبناء شعبنا خارج الأسوار، الذين تتعلق أنظارهم وقلوبهم بنا، ويرون فينا فئة ملهمة وصامدة ونموذجية، وكان ينبغي أن نكون عند حسن ظن الجميع. فإلى جانب الأنشطة العامة في ساحة السجن، كان لا بد من اقتطاع مساحة صغيرة للذات. فاخترت المطالعة أثناء ساعات النهار، أما الكتابة فقد خصصت لها ساعات المساء بعد الساعة التاسعة. 

في السنوات العشر الأولى كانت سنوات الشباب تسمح لنا بالسهر لساعاتٍ متأخرة من الليل، ولكن مع الوقت تقلصت المدة التي خصصتها للكتابة، إذ لم يعد جسدي يتحمل السهر لساعات طويلة، وصارت مدة الكتابة مقتصرة على ساعتين فقط، ثم أخذت أستعير بعضاً من ساعات النهار للكتابة لا سيما في ساعات الفجر الأولى. 

ومضيتُ في هذا المشروع الكتابي طيلة سنوات السجن ولم أسمح لأحد بانتهاك وقت الكتابة الذي بات مقدساً، كنتُ مزعجاً لذاتي ولرفاقي في الغرف التي كنت أعيش فيها في مختلف السجون، بعد أن تحوّلت الكتابة لحالة مرضية لا شفاء منها. ومن الطرائف التي يرويها الرفاق عني، بأنني أشعل الضوء عدة مرات في الليل لتسجيل بعض العبارات قبل معاودة إطفائه، أجل كنتُ أشعل الضوء الجانبي قرب برشي لأسجل فكرة أو عبارة ثم أطفئه، ثم لا ألبث بعد وقت قصير أن أشعله ثانية، وقد تتكرر العملية أكثر من أربع أو خمس مرات، كنتُ أخشى ضياع الفكرة، وعليّ اقتناصها قبل هجوعها لمرقد النسيان. أما الإزعاج الآخر فهو التدخين لساعات متأخرة من الليل، وكان ثمة عدد من الرفاق النيام الذين يتأثرون من رائحة دخان السجائر، ومن جملة ما نبهني الرفاق إليه، أنني وبعد ارتشافي من كوب القهوة أعيد الكوب إلى (الإسكملة) بجانبي بطريقة تصدر صوتاً مزعجاً بالليل، أو عندما أشعل سيجارة فإني أضع الولاعة أيضاً على (الإسكملة) بطريقة تصدر صوتاً مزعجاً. 

أطلق عليّ بعض الرفاق لقب (حطّاب الليل) لشدة انهماكي في القراءة والكتابة الليلية. لم يزعجني اللقب، بل بعث في نفسي الفخر والاعتزاز بأنني مثابرٌ على عملٍ ليس بوسع الجميع احتماله. 

أما أدوات الكتابة من كراساتٍ وأقلام، فقد شكلت هاجساً مزمناً من إمكانية نفادها من (الكانتين)؛ لذا صرتُ أحرص على شراء كميات منها للاحتياط. 

ومن المعروف أن عملية الكتابة تجري على الطاولة. غير أن الكتابة على الطاولة تعد ترفاً في عالم السجن. فثمة طاولة واحدة في الغرفة وحسب تستخدم لتناول الطعام، كما لا يمكن احتكارها من جانب شخص واحد بشكلٍ دائم، لذا اقتضت الحاجة لدى أي أسير ابتكار وسائل بدلاً من الطاولة إذا كانت مشغولة، فقد ابتكر الأسرى عدداً من الأدوات للكتابة عليها أثناء التواجد على البرش، منها كرتونة التمر الفارغة، أو طاولة الزهر والشطرنج الخشبية، وقد استخدمت هذه الأدوات كافة. وفي السنوات الأخيرة استخدمتُ مفرمة الخضار البلاستيكية، مستطيلة الشكل (بطول 35 سم، وبعرض 25 سم، وبسمك 4ملم) كنتُ أشتري من الكانتين مفرمة خضار جديدة في كل سجن أنتقل إليه، وهي مريحة للكتابة وخفيفة الوزن وتفي بالغرض؛ إذا لا حاجة للكماليات أثناء الكتابة، ويكفيك التزود بالأقلام والكراسات ومفرمة الخضار إضافة للضوء الجانبي، والأهم من كل ذلك اختيار الوقت المناسب للكتابة.

ومن التجربة الطويلة، فإن تحديد هذا الوقت الصارم، مع وجود الرغبة والشغف بالكتابة، والجدية في ممارسة هذه العملية، بهذه الطريقة يتقيد الأسير الكاتب بأصول الكتابة والمثابرة عليها، وعندها بإمكانية أن ينجز كتاباته بسهولة، بعد أن تتحول العملية إلى طقوس مقدسة لا يمكن انتهاكها.

كميل أبو حنيش 

سجن ريمون الصحراوي