كتاب على شكل حلقات يكتبها الأسير الأديب كميل أبو حنيش..

الكتابة والسجن، الحلقة الرابعة والعشرون "على هامش النشاط التنظيمي"

iriHK.jpeg
المصدر / السجون-حنظلة

قد يندهش البعض إذا علم مجمل ما سجلته من كتابات في سياق الحلقات جاء على هامش النشاط التنظيمي الاعتقالي الثقافي في السجن، وهنا قد يقول قائل: إذا كانت هذه الكتابات قد أنجزت على الهامش، فماذا كنت ستفعل إذا كنت متفرغاً للكتابة بالكامل.. أو قد يقول البعض: أنت تبالغ، ومع أنني أسال ذاتي السؤال ذاته، ماذا لو كان بوسعي التفرغ بالكامل لعملية الكتابة؟ ربما كان بإمكاني إنجاز المزيد؟ 

وربما كان الانهماك في أنشطة السجن المختلفة وتشكل عوامل محفزة للكتابة فضلاً عن اكسابي للمزيد من التمرس والتجربة؟ مخطئ من يعتقد أن السجن مكان للراحة أو الاسترخاء والفراغ. فالحياة في السجن حافلة بالنشاط والمتابعة والجهد على الأقل في تجربة الجب هة الشع بية في السجون. 

ففي تجربتنا التنظيمية وبالأخص منذ تشكيل منظمة فرع السجون في أواخر العام 2006، باتت أنشطتنا ومهامنا تتسع وتتشعب، وفي موازاتها تزداد إجراءات القمع الممارسة ضدنا من مداهمات وتنقلات وعقوبات وزنازين وعزل انفرادي. 

فأنشطة حياة السجن تشمل، التنظيمية الحزبية الانتقالية المالية الثقافية والإعلامية، وهذه الأنشطة تستدعي الكتابة بصورة متواصلة. 

فعلى الصعيد التنظيمي والحزبي، لدينا إجراءات وتقاليد موروثة من عشرات السنين، ككتابة التقارير الشاملة والبيانات والتعاميم والنشرات والوثائق واللوائح والمراسلات الخ، وهذه عملية متواصلة، وباتت جزءاً مهما في حياتنا. 

فكل مستوى من الهيكلية التنظيمية له عمله ووثائقه وأنشطته، وتتكشف العملية الكتابية في المهام المراتبية الأعلى رابطة، منطقة مركزية فرعية، قيادة فرع، ويتعين على كل مرتبة أن تنجز مهامها وتقاريرها وأنشطتها على الأصعدة كافة، وهذه الكتابات ملاحقة من قبل السجان؛ لذا يتعين أن تتقيد بقواعد السرية الأمر الذي يستدعي كتابتها أكثر من مرة، ونسخها للسجون والخلايا، واعتماد أسلوب الكبسولة، وهذا يعني أن الناشط في هذا الحقل ينبغي أن يظل قلمه متحفزاً. 

أما المهام الثقافية فهي تحتاج إلى جهد مضاعف من إعداد كراسات للتثقيف العام، والتحضير للجلسات اليومية، وإحياء المناسبات الوطنية والحزبية، وذكرى الشهداء بالتقارير والبيانات والنشرات، والمجلات الثقافية، والتحضير لدورات كادرية فصلية .. الخ. 

وكذلك ثمة أنشطة أخرى تستدعي الكتابة كالأنشطة الوطنية الاعتقالية والمالية أما النشاط الأكاديمي، فهو أيضاً بات يحتل حيزاً مهماً في النشاط اليومي الاعتقالي فبعد فرضنا للتعليم الجامعي رغماً عن إرادة مصلحة السجون بات الأمر يتطلب منا العمل على إنجاح المشروع الأكاديمي، وصار يتعين علينا نحن حملة الشهادات الجامعية العليا بالقيام بعبء التعليم من تحضير للمحاضرات والامتحانات والمتابعة الأكاديمية، وهو ما يعني الكتابة شبه اليومية. 

أما الجانب الإعلامي فقد بات يحتل حيزاً كبيراً في أنشطتنا اليومية داخل السجن في السنوات الأخيرة، وأنشأنا لهذا الغرض موقع حنظلة في العام 2015 وساهمت الهواتف المهربة في تطوير إمكانياتنا وأنشطتنا في هذا الصعيد، وقد بذلنا جهدًا في الساحة الاعتقالية، حيث كنا نصدر البيانات والأخبار، ونعدّ التقارير الإعلامية عن أوضاع محددة، كالمرضى والمعزولين والاضرابات والبوسطات، والمداهمات والأحداث المختلفة.. الخ، وقد أصدرنا المئات من التقارير والبرامج والبيانات والرسائل المفتوحة والأخبار المتنوعة.

كل هذه الصناديق والأنشطة تشكل وتشغل مساحة مهمة في الساحة الاعتقالية، وكان يتعين من الناشطين العمل وبذل الجهد في مختلف هذه الأنشطة. 

ومن ناحيتي الشخصية وبصفتي ناشطاً في مختلف هذه الفعاليات، وأعدّها أدباً وطنياً وإنسانياً، لم أجد الوقت الكافي للتفرغ تماماً للكتابة والمطالعة، فعلى هامش هذه الأنشطة كنت أقتطع وقتاً محدداً يتراوح بين ساعة إلى ثلاث ساعات في اليوم أخصصها للقراءة والكتابة، وكنت أخصص ساعات النهار للمهام التنظيمية والعامة وأقتطع منها ساعة أو ساعتين للمطالعة، أما ساعات المساء وبعد الساعة التاسعة فأخصصها للكتابة التي كانت تمتد حتى منتصف الليل.

 

فالحياة الاعتقالية برمتها مرهقة وتحتاج إلى أعصاب ومرونة وصبر؛ حيث لا إجازات ولا استراحات إما الذهاب إلى العزل أو الزنازين، أو النقل أو البوسطات فتعد استراحة إجبارية وما دونها يظل السجين المنظم منهمكاً في تفاصيل السجن.

 

كنت أعمل كالبندول ثمانية عشر ساعة في اليوم، وتذهب معظمها في الأنشطة التنظيمية والثقافية والأكاديمية، وعلى هامشها أقرأ وأكتب، وكثيراً ما كنت أصحو في الليالي الصامتة لأسجل فكرة أو عبارة أو نصاً أدبياً كي لا أنساه، وفي غمرة انهماكي في العمل، والكتابة في السجن متعة وعذاب في نفس الوقت. متعة لأنها كانت تنأى بي عن بعض تفاصيل العمل وهمومه ومنغصاته، وعذاب لأنني كنت ملزماً ذاتي ببرنامج صارم لا يعرف الرحمة. وكانت تنازعني شخصيتان واحدة تدعوني للإشفاق على حالي، أما الشخصية الأخرى الصارمة والمتوهجة فكانت تضغط علي بضرورة مواصلة العمل. كانت هذه الشخصية طاغية ومستبدة، ولم تسمح للشخصية الأخرى أن يكون لها أي رأي. ولم تلبث هذه الشخصية أن رقدت ولم تستيقظ بعد، فيما فباتت الأخرى تتحكم بي. فبقيت في قلب المتعة والعذاب بعد أن استعبدتني الكتابة، وباتت جزءًا ومكوناً أساسياً من مكونات حياتي داخل الأسر.

كميل أبو حنيش 

سجن ريمون الصحراوي