كتاب على شكل حلقات بقلم الأسير الأديب كميل أبو حنيش..

الكتابة والسجن، الحلقة التاسعة عشر "الجهة السابعة"

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / السجون-حنظلة

رافقني هذا العنوان لسنوات طويلة، وبدأ ببيت شعرٍ كنتُ قد قرأته في إحدى قصائد الشاعر أحمد شوقي الرثائية:

ولو أنّ الجهات خلقن سبعاً لكان الموت سابعة الجهاتِ

مسّ بيت الشعر جزءًا من صميمي، إذ أنّه ينطوي على فلسفة عميقة، فجهات العالم هي ستٌ وحسب. فيما الموتُ، العالم الآخر، هو الجهة السابعة بلغة الأدب والشعر. سجلتُ بين دفاتري عنوان (الجهة السابعة) على أن يكون مشروعًا أدبيًا إذا ما اكتمل في ذهني بأبعاده الفلسفيّة الوجوديّة.

ومع الوقت تلبسني العنوان، وأخذت أتساءل عن جهة الموت عالم الصّمت المطلق والإنطفاء والعدم، حيث لا زمان ولا مكان. وما هي العوالم الأخرى الشّبيهة بالموت، لتمثل الجهة السابعة. وأخذ يتشكل في ذهني عدد من العناوين كالنّوم والحلم والحبّ، وهي عوالم شبيهة بالموت من حيث الانطفاء واللّحظات الوارفة التي يموت فيها الزمن.

في السّجن، حيث المكان الأكثر قسوة، يحيا الأسير مع الخيال، ويظلّ يعيد اجتراره من الماضي الغارب، مستعيدًا في خياله لحظات من العمر محولًا إيّاها إلى لحظات حالمة، ويكسو رفاتها لحمًا، ويعيد إحياءها، وفي ذات الوقت يرسم عالمًا آتيًا يحلم أن يحياه، وتشكل هذه الحالة الذهنية حياة أخرى للسجين الذي يرفض واقع السّجن، ويستظّل في ظلال الزمن الماضي أو الزمن الآتي. من جهتي أسميت هذه الحالة بالجهة السّابعة في كل يومٍ أيمم روحي شطرها... أعبرها بالخيال هروبًا من واقع السجن المرير فأحيا لحظات سعيدة ولو بالخيال!!

أخذت الرّواية تتشكّل في ذهني، وشكّل الخيال الحالم لي حجر الزاوية في هذه الرّواية، وكان المطلوب المباشرة في كتابتها، وانتظرتُ اللّحظة التي تشعل فتيلها، إلى أن جاءني الصّديق المحامي حسن عبادي ذات حزيران من عام 2019 وأثناء جدالنا وسؤالي عن مشروعي الكتابي الجديد لمع عنوان (الجهة السّابعة) في الذّاكرة، وأفصحتُ له عن رغبتي في كتابة هذه الرّواية. تحمّس حسن للفكرة وشجّعني على الشّروع في العمل، فكانت تلك شرارة البداية. 

كنتُ لتوي قد انتهيت من كتاب (دولة بلا هوية) وبحاجة إلى فترة من الرّاحة بعد إعادتنا إلى قسم 1، وفي هذا القسم لا توجد إمكانية للتواصل الهاتفي المناسب واللازم للكتابة، واقتصرت المهاتفات على الحاجات الضروريّة والملحّة لدقائق محدودة في اليوم، لكن فترة استراحتي لم تدم أكثر من ثلاثة أيام، ولم أقاوم الرّغبة في استئناف الكتابة، وبدأت أكتب بالرّواية الجديدة.

وقد يقول قائل: إنّ الكتابة بهذا الشكل الغزير، قد تأتي على حساب الإبداع... وهذا صحيح إلى حدّ ما، غير أنّ عامل الوقت يلعب دائمًا كمحفّز للعمل في حياة الكاتب في السّجن، فإلى جانب الهواجس المشار إليها في حلقة سابقة، ولد هاجسٌ جديد أخذ يحثني على ضرورة المسارعة. فبعد موافقة مصلحة السجان على تركيب الهاتف العمومي في السّجون، تلبّسني هاجس محدودية الوقت الذي سيتاح لإجرائنا الاتصال الهاتفي، إلى جانب محدوديّة الأرقام المسموح التواصل معها، والمقتصرة على الأهل من الدّرجة الأولى، ولا يتعدّى الخمسة أرقام، كما وأشيع أن؟ه مع نهاية العام ستكون الهواتف العمومية مشغّلة في السّجون كافّة.

إذًا صار يتعيّن عليّ المسارعة في إنجاز الرّواية. وبدأت أعمل بتشجيع من الأصدقاء منهم حسن عبادي، ورائد حواري وفراس الحج محمد، وعفاف خلف وآخرون، إلى جانب صديقي أيمن فرحات الذي تحمّس لتسجيل وطباعة الرّواية. وساهم انتقالي إلى قسم 5 في شهر تموز، حيث تتوافر إمكانية أفضل للتواصل الهاتفي في تسريع الكتابة والتشجيع من قبل الأصدقاء إلى إنجاز الرّواية. واعتكفت مجددًا، وفي غضون أربعة أشهر كنتُ قد أنجزت المسودّة، وكانت جاهزة في نهاية شهر أيلول، والآن حان وقت إعدادها وإعادة تنقيحها والبدء في تسجيلها. 

كان الوقت الذي يحصل عليه الأسير يوميًا في هذا القسم لإجراء المكالمات الهاتفية لا يتعدى نصف ساعة، وعليّ أن أتدبّر أمري في التسجيل اليومي. كما وتعهّد الصديق ربيع أبو الربّ، والصّديق منير أبو شحدة، بإسعافي بهاتفهم في أيّام الجمعة في ساعات الصباح الباكر. واتفقتُ مع أيمن أن أبدأ التسجيل لدى عدد من الرّفاق والرّفيقات في غزّة، على أن يرسلوا بدورهم التّسجيلات لأيمن الذي يتولّى بدوره أمر طباعتها، فيما أسجّل لديه في أيام عطلته يوم الجمعة، على أن يكون الوقت صباحًا من الساعة السادسة والنصف وحتى الثامنة صباحًا، وهو الوقت الذي خصّصه الأصدقاء ربيع ومنير في كل يوم جمعة. 

وبدأنا العمل في التسجيل وكانت العملية منهكة. أكتب في ساعات اللّيل والنهار وحين يأتي وقت مهاتفتي، كنتُ أبدأ بالتسجيل لمدة 25 دقيقة يوميًا، وأخصّص خمس دقائق وحسب للمهاتفات الأخرى، أمّا الذين كنتُ أسجل مادّة الرّواية لديهم فهم: أمل أبو القرايا، إيمان الحاج، محمد شرافي (أبو أحمد) وأسامة رشاد. أما أيمن فكنتُ أسجل لديه كل يوم جمعة من الساعة السادسة والنصف صباحًا وحتى الثامنة. 

استغرقت عملية التّسجيل أكثر من شهر، واحتاجت لأكثر من 25 ساعة تسجيل متقطعة، وأحيانًا كنتُ أضطر لإعادة التسجيل بسبب رداءة الصوت، وفي المقابل بدأ أيمن بطباعة التسجيلات، وتزامن ذلك مع وقوع بعض الأعباء الأخرى على كاهله؛ بحكم عمله الوظيفي ونشاطه التّنظيمي، فكان يعمل بصورة غير منتظمة؛ فأحيانًا يبدأ بطباعة تسجيلات من البداية وأحيانًا أخرى من وسط الرّواية أو من آخرها، فبدت الرّواية أشبه بالثوب المجزأ الذي تجري عملية حياكته والرّبط بين أجزائه، وكنتُ أتوقع أن ننتهي من طباعتها وإعدادها وتدقيقها مع نهاية العام.

أنجزتُ عملية التسجيل حتى نهاية أكتوبر، وتولّى أيمن أمر طباعتها... ارتحتُ نفسيًا بعد إنجاز عملية التسجيل. غير أنّي لم أقاوم الرغبة في استئناف الكتاب، وولد في تلك الفترة مشروع جديد شرعتُ في كتابته على شكل حلقات أنشرها حال الانتهاء منها، وأسميته (وقفات مع الشّعر الفلسطيني الحديث) وسآتي على ذكره في مكان آخر.

انتقلتُ ثانية إلى قسم 7 أواخر العام 2019 وفي هذه الأثناء فقدتُ الاتصال بأيمن، وأدركتُ أن ثمّة خللًا قد وقع أثناء طباعته للرّواية، فأيمن الصديق الذي واكبني طوال السّنوات السّابقة، ولم يتردّد في طباعة أيّة مادة مكتوبة نرسلها إليه، فما باله محجمٌ عن الردّ على اتصالاتي؟ فوجئت برسالة صوتية أرسلها لي من خلال شقيقي كمال، وأبلغني من خلالها بضياع معظم التّسجيلات، ونسبة مهمّة من المادّة المطبوعة، حيث كان قد اضطّر لدخول المشفى بسبب الإنهاك، وفي هذه الأثناء بقي اللاب توب في المكتب، وثمّة من عبث به وفقدت التّسجيلات وبعض من المادّة المطبوعة. 

أصبتُ بخيبة أمل كبيرة بعد هذه الأخبار المزعجة، فها أنا أعود لنقطة الصّفر، ولكنّي لم أيأس، ولا بدّ من معاودة التسجيل مرّة أخرى. بعد شهرين تمكنت من التّواصل مع أيمن مجددًا، عاتبته بمودّة على إحجامه في الردّ على اتصالاتي، فأجابني أنّه كان يشعر بالخجل مني؛ لأنّه أضاع المادّة المسجّلة، ولم يكن بوسعه إنجاز الرّواية كما وعدني، لكنّي طمأنته بأنّ ما وقع شأنٌ خارج عن إرادته، وطمأنته بأنّني باشرتُ بإعادة تسجيل الرّواية، وإذا كان لديه أيّة تسجيلات أو مادة مكتوبة، يتعيّن عليه إرسالها لشقيقي كمال، حتّى يوفر عليّ بعض الوقت في التسجيل وبالفعل أرسل لي مادة مطبوعة مقطعة الأوصال تشكّل حوالي ربع الرّواية، وتولّت شقيقتي ميساء عبء إكمال الرّواية وإعدادها. ثم بدأنا بعملية التّسجيل من جديد لدى شقيقتيّ ميساء ونداء. وكانت نداء تتولّى إرسال التسجيلات لميساء لتباشر بطباعة الرّواية، وتدقيق المادّة المطبوعة. وأثناء عملية التّسجيل المرهقة، توفرت إمكانية أكثر تطورًا في إخراج المادّة. سررتُ لهذه الأخبار التي من شأنها أن توفر عليّ الكثير من الوقت والجهد، فسارعنا لتصوير المادّة جميعها مرّة واحدة، وأرسلت لميساء -التي ابتهجت بهذه الطريقة التي تريحها في الطباعة- مقارنة بتفريغ التسجيلات التي غالبًا ما تحمل أخطاءً كثيرة بسبب رداءة الصّوت بفعل التّشويش الذي يعمل على مدار الساعة.

بدأت ميساء بطباعة ما تبقى من الرواية، ووصل أجزائها المقطعة، ثم بدأنا بتصحيح الأخطاء، وأنفقنا وقتًا ثمينًا بهذه العملية يقدر بأكثر من عشر ساعات، وكانت ميساء في ذلك الحين بصدد وضع اللّمسات الأخيرة على رسالتها لنيل شهادة الماجستير، ولم أشأ أن أثقل عليها، وصبرت لأسابيع حتى أنجزت الرسالة، ومن ثمّ تابعنا العمل على الرّواية سطرًا سطرًا، كنتُ أصغي لها وهي تقرأ نصوص الرواية ونعمل على تصحيح الأخطاء وإجراء بعض التعديلات، إلى أن تمّ إنجازها في صيف 2020. 

تنفستُ الصعداء بعد الانتهاء من هذه العملية التي استغرقت أكثر من عام في الكتابة والتّسجيل والتّدقيق، وإعادة التّسجيل والتّدقيق من جديد إلى أن أنجزت بعد جهد جهيدٍ. 

وفور الانتهاء منها أرسلتها إلكترونيًا لعدد من الأصدقاء لمعاينتها وتسجيل ملاحظاتهم عليها؛ لأسعى فيما بعد لإعادة تعديل ما يمكن تعديله، وإرسالها للتدقيق اللّغوي، قبل رفعها للطباعة. 

لم أكن متعجلًا في إصدارها لأكثر من سبب. أولها أنّ مجرد تسريبها للخارج بعد عناء كبير، يعد نجاحًا وستجد طريقها للطباعة في يومٍ ما، المهم أنّها لم تضيع... أمّا السبب الثاني فيتعلق بتراكم بضعة أعمال كتابية تنتظر الإصدار، ولم أشأ أن تصدر هذه المطبوعات بأوقات متقاربة، أما السبب الثالث فيرتبط بأزمة تفشي وباء الكورونا الذي عرقل الكثير من إصدار بعض المطبوعات، وأخيرًا لكي أتيح لأكبر عدد من الأصدقاء الاطلاع عليها، وإحاطتي بملاحظاتهم المهمة التي تفيدني في تجاوز الكثير من الأخطاء. 

أرسلتها للأصدقاء الأعزاء: حسن عبادي، ورائد حواري، والدكتور عادل الأسطة، والدكتور فيصل دراج، وعفاف خلف، وفراس الحاج محمد، وأمل أبو حنيش، وأيضًا إلى صفا في تركيا. 

طالعها الجميع، وسجّلوا ملاحظاتهم ومواقفهم المختلفة من الرواية التي تباينت من واحد لآخر... لكني أخذت جميع ملاحظاتهم في الحسبان في إعادة تدقيقها، وإجراء بعض التعديلات عليها لتكون جاهزة للإصدار في الوقت المناسب، وتولت تدقيقها لغويًا الأستاذة منال الزعبي.

علمت مؤخرًا أنّ الدكتور فيصل درّاج قد كتب مقدمّة للرواية، والفنّان التشكيلي عبد الهادي شلا رسم لوحة الغلاف بعد أن اطلّع على المخطوطة، وقام الفنّان ظافر شوربجي بمنتجتها وإعدادها للطبع وأنّ الروائي أحمد أبو سليم قد تعهّد بشأن طبعها في عمان.

كميل أبو حنيش 
سجن ريمون الصحراوي