كتبت الأسيرة المحررة دعاء الجيوسي..

الزمان والمكان في الحلم الفلسطيني

dzn9f.jpeg

بقلم: دعاء الجيوسي

غُرابية هي ذاكرة السجين لا يَنسل إليها النسيان ولا يرقى لها سهو ولا ضياع....وتبدو بحالتها هذه نوعاً من الدفاع الإيجابي عن الذات والقدرات الذهنية وربما الأحقية التاريخية التي يظهر أمامها الثمن الذي يدفعه المُعتقل بخساً مهما عَظُم.

ولكن دعونا نُغادر السجون قليلاً ونحملها معنا للخارج ونتساءل ألا يحيا السواد الأعظم من أبناء شعبنا أسرى سيان كان السجان عدواً سرق الأرض أو نظام حكمٍ أفرد لإحكام طوقه علينا منظومات إجتماعية وإقتصادية وجيوشاً من العسس والمخبرين....وربما يأتي السجن على صورة واقع إقتصادي وطبقي وحياتي مُعاش ولكنها بالمُحصلة كلها سجون لذا تجد القابعين فيها يتمتعون بذاكرة جماعية حديدية لا تفوتها شاردة ولا واردة تؤرخ وتحفظ ما قد يبدو أنه عبثياً لكثرة تفاصيله التي لا تبدأ بحفظ سنوات القحط والمطر والتأريخ للمواليد والوفيات والأحداث عموماً بسنوات سقوط الثلج وحدوث الجفاف وفيضان الأودية ولا تنتهي عند حفظ الأنساب الذي يتطور لتحميل أوزار أفعال الجد الثاني أو الثالث لأحفاده أو أحفادهم فتجد الوصم الإجتماعي مقولباً في الأمثال الدارجة وتجد مقولة هذا كان جده عميلاً للعثملي أو الإنجليز فلا تصاهروه (وهذا موضوع يحتاج دراسات سلوكية وإجتماعية علاجية لسنا بصدد الخوض فيها الآن) لأننا نستعرض هُنا الذاكرة الجماعية بشكلها المُجرد كإحدى أدوات الصراع و مُحفزات إدامته ،،،

وبالتتبع الدقيق لمرحلة تبلور الذاكرة الجماعية الفلسطينية نجد أنها كانت ذاكرة شعبية في نهايات مرحلة التَخَلُق يتداخل فيها الزمان والمكان بجدلية ليبدو كل واحد من العاملين مُحدداً للأخر يرسم ملامحه وينسحب عليه ولكنها وعلى رغم حالتها شبه الطبيعية هذه لم تكن تمضي على سجيتها البحتة ولم تتبلور وفقاً لعامل الزمن الذي يمضي داخل مكان معروف بعينه وكذا لم يُحدد مكانها الجغرافي تفاصيل الزمان وصيرورة حركته ذلك أن العاملين تداخلا مع عوامل سياسية اقتحمت خصوصياتهم وساهمت معها ومن خلالها في صياغة الذاكرة فتجد أن لكل إحتلال قادم بالقطع من خارج حيز المكان تأثيراته في بلورة الذاكرة وتغذيتها وهو بذلك يؤثر في عجلة الزمان تسريعا أو إبطاءا فترى زماننا الفلسطيني تاريخيا يسير في خطوط منحنية صعوداً وهبوطاً وينحو غالباً تجاه الطفرات لا التطور الطبيعي بفعل الاحتلالات المتعاقبة على المكان الذي عبثت بشكله وذواكر اهله، وهذا التشوش في صيرورة الزمان والمكان وجدلية العلاقة بينهما يبدو واضحاً جلياً فترة ما بعد النكبة عام 1948 لذا تجد الذاكرة الشعبية تحيا حالة من السلفية أو لنقل عدم القدرة على تخيل المكان بعدما مر عليه الزمن بطفراته فإن سألت اللاجئين من القرى مثلاً عن شكل الوطن الذي سيعودون إليه ستُصدم بحديث عن سهول القمح ومقاثي البطيخ وبيارات البرتقال وكذا الحال مع لاجئي المُدن والبادية وهذا أمر لا غضاضة فيه إن اعتبرناه بالمعنى العاطفي حنين لفردوس مفقود أو حللناه وفقاً لعلم النفس بأنه إنسحاب من الواقع ونكوصاً نحو الماضي ويمكننا كذلك بالمعنى السياسي تصنيفه تحت باب التمسك بالثوابت والحق وإذكاء لنار الجرح كي تبقى لاهبة ولكن حين نضع الذاكرة الجمعية تحت ضوء الشمس نجد أن من الواجب علينا إيجاد جسر أو وسيلة ربط ما بين حنيننا وواقعنا فنحن سنعود لأرضنا ذات يوم ولكننا قطعاً لن نعود لفلسطين الإنتدابية حيث سواقي المياه وبيادر القمح وبوابير البحر سنعود إلى أرض غادرناها منذ سنوات طوال فتغيرت معالمها وتبدلت أزمنتها سنعود لنزرع ونحيا نُسافر ونتاجر نُحب ونتزوج ونبني الحياة بشكل مغاير عن تلك التي توقفت عندها ازمنة أبائنا وأجدادنا....أن إدراك التغيرات التي حدثت وستحدث قبل أن نُنجز مشروع العودة يُمنطق مشروعنا ويُجَود أدواته ويقربنا من تحقيقه وعندها يسير المكان والزمان في مسلك طبيعياً يبني ذاكرة متوازنة يرثها من سيأتي بعدنا بلا تشوهات.