كتبت الأسيرة المحررة دعاء الجيوسي..

يا صوتنا الأبي ما أبهى صداك

thumbgen.jpg

بقلم : دعاء الجيوسي.

الرفيق أحمد سعدات يعرفه العامة ، رواد السجون من مروا بها أو يسيرون إليها بأبي غسان...بينما أعرفه وأبناء جيلي من أسرى الجبهة الشعبية ومُحَرَرِيها بالختيار....نناديه كذلك تحبباً لا تزلف ولا تصنع فيه....وأبو غسان الرجل الذي إنغمس في العمل الثوري السري معظم مراحل حياته يبدو أنه إصبطغ بصبغته في كل شئ فمن العناوين المتعددة والغير ثابته إلى الحركة السريعة التي تُربك من يتقصى الأثر وحتى الكُنى الكثيرة والملكات الشخصية الأكثر جاءت حياة الرفيق صاخبة على عكس شخصيته الهادئة الميالة للصمت والتدبر.....فكان أبو غسان أبن زمنه وكنا ولا زلنا نفخر أننا عشنا زمن أحمد سعدات.
أذكر وأنا بنت الإنتفاضتين أني وأبناء جيلي لم نحظى برفاه الاختيار في مكتباتنا الذهنية الموسيقية تربينا على أغاني وطنية ونقطة.. لا مجال للإستماع لغيرها ومن أكثر ما سمعناه في أوائل التسعينات أغنية لفرقة موسيقية من غزة كان مطلعها يقول (نسر التحقيق بيتألق هو أحمد سعدات ما خلى الهدف يتحقق للمخابرات) وبمرور الأيام كبرنا وتبدلت أساليب المخابرات ودارت الدنيا حول أبو غسان وظل هو على حاله نسراً يفشل مساعي المخابرات....
في كل مراحل حياته التي سارت بإتجاه واحد صوب الوطن والسجن ظل ختيارنا كما هو حربة فولاذ لا ينثني ولا يرتد لم يلوثه زمن الإتفاقات ولا مائها الدنس...تولى الأمانة العامة للجبهة بعد مصابها الجلل بالرحيل الملحمي لأبي علي مصطفى فإتخذ قراره رأس برأس ومضى نحو المطاردة من كل الأطراف ثم عاد للسجن الذي ظهرت فيه ملكة جديدة كنت أجهلها ولا أدري إن كان بقية رفيقاتي ورفاقي الأسيرات والأسرى مثلي فكلنا عرف الرفيق ثورياً عقائدياً، جبل في التحقيق تتحرك الدنيا ولا تتحرك عضلة لسانه ، خطيباً بليغاً جَزل اللفظ والتعبير ومحللاً سياسياً ومُنظراً فذاً....أما أنه كاتب من طراز رفيع فهذه عرفتها فيه من خلال كتابه صدي القيد الذي يصف فيه الحياة داخل السجن وأقسام العزل الإنفرادي وأساليب المخابرات ومصلحة السجون في التنكيل بالأسرى ومحاولات تحطيمهم نفسياً ، وكعادته دفع أبو غسان الثمن ثم إنزوى بعيداً عن الأضواء، تحدث عن الأسرى مكانهم وزمانهم الهلامي ووجه نحو علم النفس السلوكي الذي يُمكن من الحفاظ على الذات داخل محارق العزل والتحقيق ولم يتحدث عن نفسه لا تلميحاً ولا تصريحاً وهذا ليس جديداً ولا مُستغرباً....ولكن الجديد في الكتاب القدرة العالية على وصف المكان بحيث يرسم لقارئه صورة ذهنية تكاد تكون ثلاثية الأبعاد للسجن ومكوناته المحسوسة والمعنوية كما أنه تطرق لما يمكن أن نُطلق عليه التحليل العلمي لهندسة المكان بقالب لغوي سلس وواضح.
في كتابه صدى القيد حمل أبو غسان فكرة فأوصلها ونفث فيها روحاً فباتت جسداً من لحم ودم يحيا خارج أسوار الحيز المكاني المخنوق بالقيود والجدران....ربما لو جاء الرفيق في زمن غير هذا الزمن لكان كاتباً أو أديباً من رواد أدب الرحلات والوصف ولكن الحال يغني عن المقال...جاء ختيارنا في زمن الدم والنار فكتب بأحرف من لهب....أعرف أن ما كتبت سيصل رفيقي أبو غسان بطريقة ما وآمل أن لا ينزعج وألا يعاتبني لأني خالفت وصاياه وتعاليمه الصارمة بأننا أبناء مدرسة لا تؤمن بالبطولة والصورة الفردية بل تُريدها وترسمها مشهداً جماعياً...عموماً إن عاتبني سيكون عتابه أحب وأقرب عتاب أتلقاه