قصة قصيرة تكتبها الأسيرة المحررة "دعاء الجيوسي"

باقية، بقلم دعاء الجيوسي

IMG_٢٠٢١٠١٢٦_١١٤١٢٩.jpg

إلى العجائز الذين أبتهل إلى خالقي أن يمنحنى نصف إيمانهمن....وكل يقينهن بقرب إنبلاج الفجر....

إلى القابعات على الحلم في دور المخيمات يطفن حول الأضرحة والأحلام طواف مؤمن يخشع في حمى الحرم وظل البيت أهدي عملي هذا...

 

باقية

١-عجوز عشرينية

عجوز غريبة الأطوار أو هكذا يقول السابلة والجيران الذين يصدفونها تعتلي مصطبة بيتها في قلب المُخيم....يستفزك سيل من الأوصاف يطلقونها عليها ويتندرون بسلوك يؤكدون بتلمظ أنه لا يُناسب عجوزاً في عمرها الذي يجهلونه وتَضِن هي بالكشف عنه...تضحك إن سألتها وتقول الأيام فضاحات...أنا صبية بِكرٌ في أول العمر لولا هذان الخطان اللعينان اللذان يتدليان تحت عينيّ .....

ترفع يدها تتفقد خطي وجهها بقلق تحدق في المرآة فيلوح للناظر وشم في باطن الكف المشققة ....يبدو عميقاً بين أخاديدها حبرٌ أخضر زيتي غُرس في لحمها على شكل وشم بإسم فارس....تنظر في المرآة ثُم تُحملق في وشم يدها :هييه يا معود أخدوك البنات الشقر مني...تتنهد وكأن صوتاً يتخلق في أحشائها مُعلنا رفض التهمة وبراءة المتهم...تضحك وترد على الإعتراض بأنها كانت تمزح لا أكثر وتحاول إختبار شغف وتوقد عِشق من كانت قبل قليل تتوهم أنه خان حُبها.

في اللقاء الأول والثاني وبعد عشر مرات تظل باقية على مراوغاتها لا عمر تكشفه ولا أسم عائلة ترفع عنه الحُجُب ولا أي معلومة تعطيك إياها...أنا باقية عمري عشرين سنة من مواليد الجاعونة وهذا ما يمكن أن تعرفه.....

قيل ذات مرة أن باقية على علاقة حُب بشخص مجهول تغني له ظريف الطول بملئ صوتها....وقيل إن الموضوع برمته من نسج الخيال ومن يُحب عجوزاً بهذا العُمر ويتطوع آخرون لنسج حكايا عن أن باقية أحبت شاباً من قرية فرعم كان يعمل حراثاً عند أبيها وأن هذا الأخير رفض تزويجهما بسبب التفاوت الإجتماعي فأصيبت حينها بلوثة في عقلها يشتد أوراها عندما تسمع بحفل زفاف فتعتقد أن فارس وخيّالة من أهالي فرعم أتوا ليأخذوها عروساً رغم أنف أبيها فتتزين وتخرج للعُرس....

قصص على هذا النحو وغيره يتناقلها الناس عن باقية تختلف الرواية بإختلاف الراوي ولكن عُقدتها وحبكة الدراما فيها واحدة : باقية أحبت ذات يوم وفارس هذا الذي تزين كفها بإسمه شخص موجود أو كان كذلك على الأقل.

 

٢-بوح في موسم الحصاد

آوائل مايو كانت الشمس كفتاة مخملية أنهت لتوها نوم مُترف طويل فأفاقت تتمطى بتثاقُل....خيوطها الدافئة تَنسج فوق المخيم غلالة ذهبية وتجاهد كي تنسل لبيوته الواطئة وأزقته المخنوقة التي لا تخلو جنباتها من غبار أثاره حصّادون في سفح قريب عملت أيديهم بهمة فكوموا تلة من السنابل المحصودة فوق ربوة تُطِل على كومة الصفيح والبؤس....شكل القمح مُكدساً وفحيح آلات الحصاد مشهد يحرك في النفس الكثير وحين تأتيه أهازيج عرس قريب تختلط بأغاني الحصّادين يبدو المشهد ريفياً مثالياً إن تمكنت من إغماض عينيك عن المخيم....الذي يبدو لعيني الناظر أن أمراً يحدث داخله فتية يتضاحكون بصخب وأطفال يغنون موكب يخترق الأزقة الضيقة صوب ساحة المُخيم باقية تتقدم الركب بثوب أبيض مطرز و طويل يدها اليُمنى مُشبعة بالحناء والأُخرى على حالها دون صبغ يتوسطها إسم فارس...تتفلت العجوز من صخب الصبية وتطفل عاطلي المُخيم وتهرع للسفح القريب تعتلي صخرة وتغني : 

إحنا نوينا عالفرح...يا ناس صلو عالنبي

قديش مهرك يا عروس....وأهداني ليرة مذهبة

سيروا على ما قدر الله ......وإلي كاتبو ربك بيصير 

هييه يا هالعروس مزينة بجوخ وحرير.....

كل مشهد باقية السريالي وزفتها لنفسها لم يُحرك في حصّادي السفح شيئاً فهو مشهد ألفوه طيلة مواسم الحصاد لسنوات خَلت...واحداً كان قد إلتحق بجيش الحصّادين حديثاً يبدو ذلك من التعب الذي يكسو محياه ويداه اللتان ترشحان دماً بفعل الحصى والأشواك المتناثرة بين القمح شدّهُ مشهد باقية فتسلل لقربها بهدوء ثنى قدميه تحت جسده المنهك جلس بصمت وظلت باقية على حالها أغاني العرس وتراويد الزفة تعلو وصاحبنا متكوماً في مكانه.....تنبهت العجوز لسيجارة مدُلاة بين شفتيه فأومئت له تُريد مثلها...وهكذا سيجارة وأخرى حتى أتت على صندوق سجائره الرديئة وبات كأنها في شوق لحديث ما،، سألته ما إسمك ؟؟؟ قال أنا فارس أبو الِعز من مُخيم عقبة جبر بأريحا أدرس في جامعة بيرزيت وأحاول أن أتلقط رزقي على هامش الدراسة كي لا أُثقل ......أراد أن يُكمل فقاطعته وإنتفضت كمن لدغته أفعى ما إسمُك قال فارس إقتربت أكثر حتى بات وجهها مقابلاً لوجهه وسألت مُجدداً فارس!!! كم عمرك ؟؟؟ أجابها عشرون عاماً.... زَفَرَت بمرارة وعمق وبات أن باب حصنها سيُفتح أخيراً وستجود على الدنيا بكنز أسرارها.

 

٣-في المغارة وُلدت القصة

عادت العجوز لمجلسها أخرجت من جيب صدرها قروشاً قليلة أودعتها يد الشاب وطلبت منه أن يبتاع صندوق سجائر عوضاً عن الذي أحرقته وهي تزف نفسها عروساً وتجتر ذكرياتها وقالت له أتعلم يا فارس ليس على ظهر الأرض أحب إلي من أسمك ربما لو تزوجت لكان لدي أحفاداً بعمرك ويحملون إسم فارس أيضاً فعادتنا أن نُسمي حفيداً أو أكثر بإسم جده....فتح الشاب فمه حتى آخره نسي الحصاد وآلام يديه وتجاهل أن أُجرة يوم عمله الذي قطعه تكفيه ليبتاع كتاباً جامعياً أو أكثر عَدّل جلسته وسأل العجوز أولم تتزوجي يا خالة ؟؟ 

قالت لا لم أتزوج ولكني قد أفعلها إسمع سوف أقص عليك خبراً أخفيته عن الناس رغم تطفلهم أنا لا أعرفك ولكني أعرف أن إسمك محفور هنا....أشارت للجهة اليُسرى من صدرها وقالت إسمي باقية من قرية الجاعونة أمي كانت تقول أني وُلِدت عام إعدام الشهداء الثلاثة في سجن عكا ،،، كان أبي يمتلك أراضٍ كثيرة في قريتنا بعد أن تزوج ثلاث مرات أنجبني أسماني باقية لأنه كان يقول أنني سأنجب عشرة أبناء يرثون أرضه ويحيون هم و نسلهم ذكره حتى قيام الساعة.

كُنت مدللة أبي ورفيقته خلال رحلات بيع المحصول في صفد ، لا أذكر أني مارست في حياتي السابقة أي عملاً بيتياً أو زراعياً سوى التجول في القرية والحقول المحيطة بها.

كان فلاحو أبي وهو السخي الكريم يبدون في عافية من العيش إلا واحداً كان طويل القامة شديد السُمرة لفتت مهارته في الحراثة نظري تابعته فكان لا يأكل إلا خُبزا وبصلاً لا يُغير قمبازه صيفاً أو شتاءً سألت فقالوا هذا فارس شاب يتيم الأبوين وليس له أقارب في قرية فرعم التي يسكنها .

صار الجلوس على رابية تُشرف على الحقل ومراقبة فارس شغلي الشاغل حتى لمحته ذات يوم ينسل من خلف المحراث بهدوء ويتجه غرباً صوب جبل كنعان سرت خلفه بهدوء حتى دخل مغارةً ليست عميقة حدقت جيداً رأيته يُخرج شيئاً من باطن الأرض ويتجه صوب فوهة المغارة إنزويت خلف صخرة فبدا والشمس مُتعامدة على رأسه مارداً جباراً يحمل بين يديه بندقية تتوهج لمعاناً قلبها بين يديه ثم عاد للمغارة وقبل أن أنحدر على سفح الجبل كان يقف أمامي منتصباً كشجرة بلوط هذا أنت تراقبينني منذ فترة ثم تصعدين الجبل خلفي ماذا تريدين ؟؟؟ إستجمعت شجاعتي وقُلت لاشئ في البداية لفتتني مهارتك وأنت تشد سكة المحراث خلف البِغال في أرضنا ثم أثارني إهمالك لملابسك ونوع الطعام الذي لا تُغيره قلت ربما له أهل يوفر قوت يومه لأجلهم وعندما علمت أن أهلك في ذمة الله وأنه لا زوج ولا أطفال لك قلت ربما له عشيقة في صفد أو بيسان يُنفق عليها ماله... تنهد فارس مط شفته السفلى وقال التي رأيتيها في يدي هي عشيقيتي ولكي أشتريها من صاحبها قضيت عامان مضيا وأنا لا أكل إلا خبزاً وبصلاً وسأُمضي نصف عامي هذا كذلك!!!!!

 

٤-الطريق

هبطت أنا وفارس صوب القرية وكلي دهشة سألته لمَ السلاح؟؟؟ واحد مثلك لا يمتلك من الدنيا شيئاً إلا ثوبه ما حاجته لبندقية أو حتى سكيناً لو أنك أشتريت بغلاً تشد عليه محراثك لكان أفضل لك....تبسم لم يُبدي أي غضب وقال لو لم أشتري بندقية سيأتي يوم لن أجد فيه أرضاً أحرثها ولن ينفعني بغل ولا حصان ولن أجد عملاً حتى لو شددت المحراث إلى ظهري....

على إمتداد الطريق المؤدي إلى الجاعونة حدثني عن الكيبوتسات والموشافات والإستيلاء على الأراضي والمهاجرين الصهاينة ثُم سألني كم عمرك ؟؟؟ قُلت لا أعلم ولكن أمي تقول أنها ولدتني في نفس عام إعدام الشهداء الثلاثة في سجن عكا....هز رأسه وقال من أعدمهم ولماذا ؟؟؟ ثم شرح لي القصة وعرفني بأسمائهم أوصلني حتى مدخل القرية ومضى إلى فرعم...

في اليوم التالي كنت أول الواصلين إلى المارس الذي توقعت أن يبدأ فارس نهاره بحراثته....لمحته قادماً من بعيد وصُرة طعامه في يده جلس إلى جواري وبدأ يزدرد خبزه وبصله قُلت ألا تطعمني معك أعطاني كسرة خبز مضغتها وسألته لماذا لم توصني ألا أخبر أحد بسرك المُخبأ في المغارة تبسم وقال لا أعلم أنت طيبة وشعرت أن بيننا شئ يمنعك من ذلك ،، ألصقت شفتاي بإذنه وهمست شئ إسمه الحب أنا أُحبك يا فارس ولن أتزوج غيرك لو علقوا رأسي على باب مقام المُنطار.....

خلال الأيام التالية تحول فارس الصلب إلى أجمل العُشاق كان يُغني لي يجوب سهل الجاعونة طولا وعرضاً يجمع لي حنوناً ونرجسا ويُطعمني بيديه كل صباح خبزاً وبصلاً....آه ما أطيب الخبز والبصل من يد الحبيب أشهى من العسل واللحم في بيت أبي.

بعد أشهر من لقاءاتنا على أطراف حقول أبي وزيارات خاطفة للمغارة كنا نُحصي خلالها عدد الفشكات التي جمعها فارس وساعدته ليشتريها....قال فارس ونحن ننحدر سفح جبل كنعان باقية الآن بات لدي بندقية ومائتي رصاصة يمكناني من الدفاع عنك وعن الأرض التي أحرثها سوف أخطبك من والدك هذا النهار.

طار قلبي من مكانه كل قطا بحيرة طبريا ونوارسها حلقت فوق رأسي سحبت يدي من يده وركضت صوب البيت......عند المساء بينما أبي يتوسط ديوانه وحوله عدد من الأقارب دخل فارس الديوان جلس كأسد بين وجوه القرية وطلب يدي من والدي الذي قام من مجلسه وقال هل بلغك أن أبناء عائلتي ووجوه قريتي وما حولها قد ماتوا لأعطيك إبنتي .....وهل سمعت يوماً أن واحداً مثلي يزوج إبنته لأمثالك أخرج ولا تعد لا إلى بيتي ولا أرضي ولا تدخل الجاعونة وإلا ذبحتك.....

خرج فارس يرغي ويزبد لمحته من شباك عليتنا فلحقت به قبل أن أساله بدأ يصرخ أبوك يرفض تزويجنا بدو عريس إبن نسب بكرا لما تزغرد البواريد بيعرف قيمة المْقَطّع إلي مش عاجبه....

 

٥-كتب أسمي في أحراش ملبس

غاب فارس عن الجاعونة لأكثر من شهر بحثت عنه في قرية فرعم سألت فلاحي أبي وتجار الحبوب الذين يفدون للقرية سألت طوب الأرض ولم يُجبني أحد.....

فجأة خطر ببالي أن أبحث عنه في مغارتنا ....صعدت الجبل إجتهدت حتى لا يراني أحد ،،، تسللت للمغارة وجدت فارس في الزاوية يتناول طعامه وكان خبز وبصل أيضاً جَلست إلى جواره كان معه بُندقية وعلى الحائط يُعلق ثلاثة مثلها وأمامه مباشرة بندقية كبيرة تقف على قدمين أماميتن سألته ماذا تفعل؟؟؟ هنا ومن أين لك كل هذا السلاح؟؟؟ تمتم بكلمات لم أفهمها ثم رفع رأسه وقال باقية لماذا جئت ؟؟؟ ألم يزوجوك واحد من أبناء عمومتك مؤصلي النسب؟؟؟ 

صرخت في وجهه أنا لن أتزوج غيرك لو أطعموا لحمي للكلاب....تنهد بعمق وقال أعرف والله أعرف....وقبل أن يكمل دخل المغارة ثلاثة شباب في مثل عمره يحملون بنادق وتتدلى أحزمة السلحلك عن أكتافهم جلسوا قبالته وقالوا تمام ولكن لو أعطيتنا باقية كنا أنجزنا المهمة بسرعة!!!!!

قُمت من مجلسي وقُلت فارس تعطيهم إياني ماذا يريدون مني إبتسم الشباب وقال ها أنت إذا باقية إنكشف السر يا فارس هذه التي سميت رشاشنا الوحيد على إسمها؟؟

جذبني فارس من يدي وأعادني إلى مجلسي بجواره وقال إسمعي هذا الذي رشاش إنجليزي إسمه (برِن) وقد حصلت عليه من مركبة للهاجاناه كانت متوقفة في أحراش قرية ملبس،،، يوم أن رفضني أبوك خرجت ومعي بارودتي باتجاه بيتاح تكفا وقلت أشتبك مع حراسها فأموت وأرتاح في الطريق إليها وجدت وسط أحراش قرية ملبس مركبة للهاجاناه متوقفة وسائقها يحاول إصلاح عطل مفاجئ أصابها،،، ضربته بالبندقية على رأسه حتى قتلته وعُدت بالرشاش للمغارة ومن لحظتها أسميته (باقية)بعدها بأيام صادفت مُصطفى وأشار لأحد الشباب كان قصير القامة بلحية طويلة وقال مصطفى أخي ورفيق المعارك وهو فلاح من قرية البعنة إختلف مع أحد مُلاك الأراضي في قريته فحرض عليه الدَرِك البريطاني فهرب للجبال وهناك تعارفنا...ثم عرفني على البقية هذا زَعَل من قرية الشيخ داوود والثالث صقر من بيسان وكلاهما هاربان من الملاحقة على خلفية حيازة سلاح ومع هؤلاء الثلاثة أقاتل الإنجليز واليهود وسأقاتل كل من يأخذك أو يأخذ هذه الأرض مني.....

طيلة الأشهر التالية كُنت أتسلل للجبل أحمل لفارس وأصحابه طعاماً وألبسة وما أستطيع جمعه من نقود وأهدد أبي يومياً بأن أقتل نفسي كلما عرض عليّ عريساً من أبناء العمومة أو وجهاء القرية.

 

٦-أَنعم بالبارودة نسباً

بداية عام 1948 كانت الأمور مُشتعلة فارس ورفاقه الذين تضاعف عددهم يخوضون معارك يومية في محيط صفد بعد أن شددوا حصارهم على الحي اليهودي داخلها...في إحدى ليالي شتاء العام 48 طرق بابنا وسط الجاعونة ثلاثة شبان أغرقتهم مياه الأمطار والأوحال دخلوا البيت على عجل وما إن ازاحوا كوفياتهم عن وجوههم حتى عرفتهم فارس وصقر ومصطفى أجلسهم أبي حول كانون النار وسألهم عن قصتهم فأخبروه عن معركة حامية خاضوها على طريق صفد بيسان وعن إضطرارهم للإنسحاب بعدما إستشهد زعل وإشتد الحصار حولهم ،،،وقف أبي وقد كنت أرقبه هجم على فارس قبل رأسه وحضنه بعمق وقال عفية...بترفع الراس يا إبن أخوي ناداني كي أسلم على فارس وخرج لساحة البيت لحقته فسمعته يهمس لأمي هذا فارس الذي لم يُعجبني نسبه معه ثلاثة رجال يقطعون طريق صفد بيسان ويحاصرون حي الخواجات في صفد وأبناء عائلتي يقفز أحدهم من نومه إن كان صوت الرعد عالياً....تباً للنسب إن لم يكن نسب السلاح ألا أنعم بالبارودة نسباً....

إستدار وعاد للداخل وصرخ في وجه فارس أحضر مأذون البلدة في الصباح وهذه باقية عطية ما من وراها جزية....تنحنح فارس ونظر في عينيّ وقال مهر باقية طرد اليهود من الحي الذي يستوطنونه في صفد ويومها تزفها لي عروساً ...

في الصباح خرج فارس ورفاقه من البيت و قد توقفت عن الخروج إليه في الأحراش والمخابئ،،، كان كلما أُتيحت له الفرصة يأتي إلي بيتنا فيستقبله أبي كصهر عزيز يتركه جالساً معي ويعطيه قبل المغادرة مالاً أو طعاماً لرفاقه ،،، لشد ما تغير أبي عند كل معركة قريبة كان يقول لضيوف ديوانه هذا نسيبي فارس دواس البرقة وخَيال الزرقة....

أواخر شهر أربعة عام 48 أتى فارس للبيت مستعجلاً ضمني بين يديه أعطاني عقاله وغادر وقال يا باقية اللقا يوم اللقا خرج للقتال في محيط صفد التي إحتلها اليهود خلال أيام ثم أتو للجاعونة ضربونا بالمدافع من الصباح حتى المساء ثم فتحوا الطريق لمن ظل حياً كي يخرج من القرية كان أبي يرتب أغراضنا على شاحنة قديمة ويصرخ بأمي وضرائرها أن يبحثوا عني....

تركتهم يبحثون وتسللت من باب خلفي صوب ساحةالبلدة....كان الناس يتجهون شمالاً إلى الحدود وأنا أتسلل ناحية الجنوب لم أرد مغادرة البلاد لأنني كُنت مؤمنة أن فارس لن يغادر لذا قُلت في نفسي أتجه جنوباً وفي أول منطقة تحت سيطرة العرب أنتظره وهكذا سارت حياتي من منطقة لأخرى حتى وصلت جنين ومنها إنتقلت إلى طولكرم ثم نابلس ورام الله أتلقط رزقي وأنتظر فارسي إنهزم العرب وضاعت فلسطين وفارسي لم يأتِ سألت عنه من دخل السجون وخرج منها قالوا لم نصدفه....سألت جرحى المعارك وسكان المُخيمات وفي كُل إتجاه وناحية،،، إلا اللاجئين خارج فلسطين أنا لا أفكر مجرد تفكير أن فارس يمكن أن يُغادر هذه البلاد سيأتي ذات يوم على فرسه الزرقاء يحمل رشاش باقية بين يديه وسأُزف إليه عروساً..أتعلم عندما أسمع أي عُرس أركض نحوها أتخيل فارس جاءني عريساً في زفة الثوار.... فارس لا يموت ولا يُهزم ولا يُغادر الأرض أبداً وأنا لن أتزوج غيره فأصايل الخيل لا تتكدش....تململت باقية وغادرت صوب المخيم ولا زال فارسها في عداد الثوار لا هو شهيد ولا لاجئ ولا أسير.