كتاب على شكل حلقات بقلم الأسير الأديب كميل أبو حنيش..

الكتابة والسجن، الحلقة الثانية عشرة، "وجعٌ بلا قرار"

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / السجون-حنظلة

قبل الحديث عن رواية "وجعٌ بلا قرار" يتعيّن عليّ الإشارة إلى المناخ الذي ولدت به، وهو مناخٌ عاصفٌ على أكثر من صعيد؛ فمن ناحيةٍ شكّل إتمام صفقة تبادل الأسرى ارتياحًا كبيرًا لدى الحركة الأسيرة وانتهت فترة طويلة من الانتظار، تجاوزت أكثر من خمس سنوات، ورغم خيبة الأمل لدى المئات من الأسرى الذين لم تشملهم الصّفقة، إلّا أنّ إنجازها على هذه النّحو شكّل عاملًا مهمًا في العودة إلى الالتفات إلى قضايا السّجن، بعد انقضاض مصلحة السّجون على عشرات من حقوق وإنجازات الأسرى، مستغلة حالة الانقسام الوطنيّ وانعكاسها على السّجون، وانشغال الأسرى طوال الخمس سنوات والنصف بمتابعة أخبار صفقة التّبادل، فقد أخذت تتنامى الدعوات لإعادة اللحمة للحركة الأسيرة، وترميم التّهتكات التي أصابت الجسم الوطنيّ منذ فشل إضراب العام 2004، وضرورة العمل على إطلاق معركة الإضراب عن الطّعام، والتي تأجّلت لسنوات طويلة. وفي هذا الإطار بدأت الحوارات بين مختلف الفصائل في أكثر من سجن منها: نفحة، وريمون، وهدريم، وإيشل. إلى أن نجحت الفصائل في سجن نفحة بالاتّفاق على إطلاق معركة الإضراب في السّابع عشر من نيسان 2012.

وعلى صعيدنا التّنظيميّ، فقد كان لإخفاقنا في إضراب أيلول 2011، وتحرّر ثلاثة من قيادة الفرع من أصل سبعة في صفقة التّبادل، بمن فيهم مسؤول الفرع (أحمد أبو السّعود) وتوزيع الأربعة الباقين على السّجون، وعدم السّماح بلقائهم، وبقاء الأمين العام سعدات في العزل إلى جانب عضو آخر في قيادة الفرع (عاهد أبو غلمة) دور كبير في احتدام جدل واسع في صفوفنا، وفي ذات الوقت عززت هذه المستجدات التّصميم على الانتقام من غدر مصلحة السّجون، وتنصّلها من الاتّفاق بعد انتهاء إضراب 2011، والانتصار عليها في الإضراب القادم، حيث كان لرفاقنا في سجن نفحة دورٌ بارز في رسم معالم الاتّفاق على الإضراب الجديد، وقد مكننا وجود الهواتف المهرّبة في عدد من السّجون في تنسيق المواقف، والدّفع باتجاه ضرورة المشاركة في الإضراب الجديد، رغم حالة الإنهاك التي أصابت رفاقنا في إضراب 2011، حيث تُعد الفترة الفاصلة بين الإضرابين قصيرة (ستّة شهور)، وتحتاج إلى تهيئة ومزيد من النّقاشات والحسابات. 

وعلى هامش هذه الأحداث والتّطورات، تابعت الكتابة.. وكنت رغم انهماكي في التّحضير للإضراب، بوصفي أحد أعضاء قيادة الفرع المتبقين بعد تحرير نصف الهيئة، يتعيّن عليّ المتابعة اليوميّة للأحداث والتّطورات، وإجراء الاتّصالات وكتابة الرّسائل، وخوض غمار الجدالات السّاخنة داخل قاعدتنا مع بقية ممثّلي الفصائل. كنتُ لا أزال في حالة شغف وانشداد للأدب والكتابة. 

وكما أسلفت في الحلقة السّابقة، كنتُ قد أتمّمتُ إنجاز رواية الكبسولة ومتابعة وصولها خارج الأسوار، لكنّي كنت لا أزال تحت وقع حماسةٍ غير عاديّة للكتابة، فشرعت في كتابة الرّواية الجديدة 

" وجع بلا قرار" في بدايات شباط من ذلك العام 2012. 

كنتُ أتابع نشاطي التّنظيميّ والاعتقاليّ أثناء ساعات النّهار، وأخصّص ساعات اللّيل للكتابة، وما أن وصلنا إلى مشارف استحقاق الإضراب في السّابع عشر من نيسان كنتُ قد انتهيتُ من كتابة المسودّة. 

ومرّة أخرى تلبسني هاجس فقدانها؛ فأخفيتها في إحدى حقائبي الصّغيرة، ووضعتُ الحقيبة في عهدة أحد الرّفاق الذين لن يشاركوا في الإضراب لأسباب صحيّة، وفي صبيحة السّابع عشر من نيسان انطلقت معركة الإضراب لتشمل أكثر من ألف أسير من الفصائل كافّة في مختلف السّجون، وجرى نقلي مع المضربين من سجن "ايشل" إلى سجن "أوهليكيدار"، وفي اليوم الخامس عشر للإضراب جرى نقلي مع مجموعة من المضربين إلى سجن ريمون، وبقيت في ريمون إلى أن انتهى الإضراب بعد 28 يوماً، وحقق انتصارًا مدويًا، بإنهاء عزل العشرات من الأسرى المعزولين منذ سنوات طويلة، وحقّق الإضراب أيضًا السّماح لأسرى قطاع غزة بزيارة ذويهم، فضلًا عن عدد من الإنجازات الأخرى كتحسين شروط الحياة/ ومشتريات الكانتين، وتخفيف الإجراءات والأهمّ من كلّ ذلك، فقد هيّأ الإضراب مناخًا وأرضيّة واعدة لإمكانية إعادة بناء الحركة الأسيرة وإصلاح ما تهتّك في السّنوات السّابقة. 

وكان من ضمن الاتّفاق مع مصلحة السّجون، إعادة كلّ أسير إلى السّجن الذي كان يعيش فيه قبل الخروج للإضراب، سررتُ لهذا الخبر، فقد كنتُ بكامل الشّوق والشّغف للعودة إلى سجن "ايشل" ومتابعة كتابة الرّواية. 

عدتُ لسجن "ايشل" في أواخر أيّار، وفوجئت بفقدان حاجيّاتي بما فيها الحقيبة التي أودعتها لدى الرّفيق وتعهد بصيانتها. 

فقد كان من تبقى من الأسرى في القسم قد التحق بالإضراب في الأوّل من أيار، فعمدت الإدارة إلى نقل الجميع وتوزيعهم على السّجون، وجمعت إدارة السّجن كل حاجيّات الأسرى من داخل الغرف وقذفت بها بصورة همجيّة في مخازن السّجن، وأجرت عملية تفتيش وتخريب واسعة للغرف وضبطت خلال العملية عشرات الهواتف المهرّبة فكانت خسائرنا فادحة.

ورغم هذه الخسائر الماديّة، لم أسمح لهذه الإجراءات الانتقالية أن تفسد سعادتي بانتصار الإضراب، لكن همّي كان منصبًا على العثور على أوراقي وعلى الرّواية تحديدًا.

كانت مخازن السّجن تعجّ بحاجيّاتنا، وكان علينا أن ننقب عن ممتلكاتنا الشّخصيّة بين تلة كبيرة من الحاجيّات. وبدأ كل واحد فينا في البحث... استمرّت هذه العملية لأيّام عثرت على كل حاجيّاتي الشّخصيّة باستثناء الرّواية. لكنّي لم أستسلم، فطفقت أبحث عنها في كل مكان داخل المخازن، إلى أن عثرت عليها في كومة للنّفايات كانت على وشك الخروج إلى العدم، تنفستُ الصّعداء، وتمكنّت من إنقاذ الرّواية في اللّحظات الأخيرة..

في اليوم التّالي شرعتُ في العمل على إعادة كتابتها بسعادة غامرة، انتهيت من تنقيحها وإعدادها حتّى نهاية تموز، وصادف ذلك الوقت تحرّر أحد الشّباب -لم أعد أذكر اسمه- وحملها معه، وأوصلها إلى صديقي الدكتور عبد المجيد حامد، فتنفّست الصّعداء ثانية. 

لم يطلّ بقائي في سجن "ايشل"، وتنقلتُ بين أكثر من سجن، وفي العام، 2016 وأثناء وجودي في "ريمون"، تواصلت هاتفيًا مع الصّديقة العزيزة الدّكتورة وداد البرغوثي التي كان قد جمعتني بها عددٌ من الأنشطة الإعلاميّة والثّقافية في نهاية التّسعينات، وبعد السّؤال عن الصّحة والأحوال، تطرّقنا إلى الكتابات فأخبرتها بشأن الرّواية، وتحمّست وداد لقراءتها، وعرضتُ عليها أن تكتب مقدّمة لها... 

ومرّة أخرى انهمكت في الهموم الاعتقاليّة والتّنظيميّة، وتنقلتُ بين السّجون. وفوجئت بصدور الرّواية أثناء وجودي في جلبوع. ودخلت نسخة منها بعد صدورها بأيّام في آذار 2017، وبقدر سروري البالغ بطباعتها إلا أنّني صعقت بسبب الأخطاء المطبعيّة بين دفتيها، وألقيتُ باللّوم على شقيقي كمال، وعلى النّاشر الذي لم يكلّف نفسه عناء تدقيقها قبل دفعها إلى المطبعة. ومع ذلك سررت بخبر الإقبال عليها واستحسانها، وكتابة عشرات المقالات النّقديّة عنها رغم أخطائها المطبعيّة.. وقد عملت الدّكتورة أمل أبو حنيش على إعادة تدقيقها من جديد، وإصلاح أخطائها المطبعيّة؛ لتكون جاهزة للطبعة الثّانية، خلال الفترة القادمة..

يسألني الكثير عن هويّة علاء (بطل الرّواية) وإن كان حقيقيًا أم أنّه من نسيج الخيال. فأجيب بأنّ ثمّة عددًا من الأبطال الحقيقيين تجمّعوا كلّهم في شخصية علاء...

أما الغريب في هذه الرّواية، أنّني وأثناء تنقيحها توجه إليّ الرّفيق مهدي، وكان يعيش معي في ذات الغرفة، وسألني عن الرّواية، فرويت له خطوطها العامّة عندها هزّ رأسه وقال: 

- يبدو أن الرّفيق عوض السّلطان قد روى لك حكايته، ضحكت وأكدتُ له أنّها من محض خيالي..

ذهل مهدي وأضاف قائلًا:

- لكن هذه القصة تلخّص حكاية عوض حتّى أنّ اسم أنهار هو ذات اسم الفتاة التي كان يحبها عوض ومصيرها كان ذاته مصير بطلة الرّواية..

صعقت لهذا الخبر وساورني الشّك بأنّني قد أكون قد استمعت لقصّة عوض بشكل أو بآخر واستنبطتها.. حاولت أن أتذكّر إن كان قد حدّثني عوض أو غيره عن هذه الحكاية.. لقد كان عوض السّلطان يعيش معي في ذات الغرفة قبل الإضراب حين باشرت في كتابة مسودّتها الأولى، ولم يحدث أي حوار، فكيف يمكن لي أن أكتب قصة لشاب يعيش معي في ذات الغرفة دون معرفة أي تفصيل عن هذه الحكاية وكيف يمكن أن تقع مثل هذه المصادفات.. فقد اخترتُ مثلًا اسم أنهار من بين أكثر من عشرة أسماء وذلك لقلّة شيوعه في التّسميات، فكيف يمكن أن يتصادف اسم أنهار كبطلة لرواية أدبيّة مع شخصيّة حقيقيّة وتنتهي حكايتهما بذات المصير دون أدنى معرفة من جانبي؟

أقسمت لمهدي أنّ الرّواية من نسيج خيالي، وأنّه لم يحدث يومًا أن اطلعتُ على هذه الحكاية، لكن هذه المصادفة تلبستني لوقت طويل، وهتفتُ في نفسي أكثر من مرّة: كم هو غريب عالم الأدب بتقاطعاته مع حكايات البشر وأقدارهم. لم يكن عوض متواجدًا معنا في تلك الأثناء، فقد كان قد انتقل إلى سجن "ريمون"، ربّما لو كان معي أثناء تنقيح الرّواية، وسألته بما أفضى به مهدي، وعن حيثيات حكايته مع أنهار، لأخذت الرّواية منحنى آخر.. وذهبت في مسار مختلف، أو حتّى ربّما قد أحجم عن إنهائها بما انتهت إليه.. ربّما سهّل عليّ انتقاله من إشكالية التّورط في إعادة كتابتها على نحوٍ آخر. 

مرّت خمس سنوات، ونسيت المسألة، وسألتقي بعوض في سجن "ريمون" في خريف العام 2017 قبل تحرّره من الأسر بعدة أشهر، وأثناء لقائنا في السّاحة في أحد الأيام، سألني عوض عن آخر كتاباتي، فأخذت أروي له عن كتاباتي ومعاناتي في إنجازها وتسريبها خارج السّجن، وفجأة تذكرتُ ما دار بيني وبين مهدي قبل خمس سنوات بشأن عوض ورواية "وجع بلا قرار"، فحدّثته عن الرّواية ومضمونها وما دار بيني وبين مهدي من نقاشات حولها، وإذا كان عوض قد روى لي يومًا عن حكايته.. ذهل عوض، وسألني بدهشة:

- بشرفك.. من أخبرك بهذه الحكاية؟ 

- هل حدث وأخبرتني يومًا عنها؟

- كلّا..

- أؤكّد لك أنّه لم يخبرني أي أحد بأيّ تفصيل، وأنّ الرّواية من محض خيالي، واسم أنهار كان اختيارًا عشوائياً من بين عدة أسماء. 

ذهل عوض ثانية، وطلب منّي أن أعطيه الرّواية ليقرأها.. قدمتها له، وقرأها في ليلةٍ واحدة، أعادها لي في اليوم التّالي، وأرفق معها رسالةً مؤثرة.. أكدّ من خلالها أن هذه الرّواية بخطوطها العامّة وفي بعض تفاصيلها، تتقاطع مع حكايته 

تأمّلت ثانية في هذا الموقف الغريب، وسرحت في عالم الأدب السّاحر والجميل الّذي من شأنه أن يوقعنا بمصادفات ومصائد غريبة وغير مألوفة، وأحيانًا بتقاطعات عجيبة وخرافيّة تتشابك فيها أقدارنا مع أقدار بشر لا نعرفهم في الحياة، إنّهم بشر تفصلنا عنهم مسافات زمنيّة في الماضي، أو حتّى في المستقبل.

#كميل_أبو_حنيش 

#سجن_ريمون_الصحراوي