كتاب على شكل حلقات بقلم الأسير الأديب كميل أبو حنيش..

الكتابة والسجن، الحلقة العاشرة، "استراحةٌ حافلةٌ بالمتاعب"

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / السجون-حنظلة

انهمكت مدّة أربع سنوات في أنشطة تنظيميّة واعتقاليّة إلى جانب الدراسة الجامعيّة في الجامعة العبريّة المفتوحة لدراسة الماجستير في برنامج الديمقراطيّة منذ العام 2007، حتّى العام 2011، وخلال هذه المدّة توقفت تمامًا عن أيّ نوع من الكتابة في الأدب والسياسة، واقتصرت كتاباتي على الأبحاث الجامعيّة إلى جانب الكتابات التنظيميّة من رسائل وتقارير ولوائح ونشرات وبيانات ومجلات ثقافيّة... الخ.

كنّا في ذلك الحين قد أنشأنا منظمة فرع السّجون. وهو التّنظيم المركزيّ والموحّد لمنظمات الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين في سجون الاحتلال كافّة، حيث جاءت هذه الخطوة كنوع من تنظيم منظماتنا المبعثرة، وردًا على سياسة مصلحة السجون القائمة على تكريس الشرذمة والتّفكيك في الجسم الاعتقالي؛ بهدف ضرب الحركة الأسيرة، وتحويلها من حركة وطنية تستند إلى تراث وطنيّ ونضاليّ إلى مجرد أجسام هلامية غير واضحة المعالم، وتحويل السّجون إلى إقطاعيات يحكمها أمراء تدعمهم إدارات السّجون، ويكرسون الطابع الشّلليّ والبلديّ على حساب الوطنيّ والتنظيميّ.

غير أن مصلحة السّجون وقفت بالمرصاد لتجربتنا، وحاولت قتلها في المهد إذ عمدت إلى عزل الأمين العام أحمد سعدات منذ البدايات الأولى لعام 2009 في محاولة لردعنا، ولتحذير الفصائل الأخرى من أن تحذو حذونا، مع أن تجربة حماس في توحيد منظماتها في السّجون والجهاد الإسلامي -إلى حدٍّ ما- قد تزامنت مع تجربتنا على هذا الصّعيد.

مارست مصلحة السّجون في تلك الأعوام كلّ وسائل الضّغط والتّنكيل بحقنا من مداهمات وتنقلات، وزنازين، وحرمان من الزيارات العائليّة، ومتابعات حثيثة لأنشطتنا المختلفة، وكان يتعيّن علينا أن نبذل كل جهد لحماية هذه التّجربة وتطويرها وتصليب كوادرنا، وإعدادهم للمعارك التي نعتزم خوضها في قادم الأيام.

وفي تلك الأثناء لم تكن وسائل الاتصالات شائعة في السّجون، وكان علينا أن نكتب باستمرار للسّجون، وبما أن تلك المرحلة كانت تأسيسيّة للتجربة، كنّا ننفق وقتًا طويلًا في كتابة الرسائل والتقارير واللّوائح والبيانات، ونسخها على عدد السّجون بطريقة "الكباسيل"، حيث كنت في ذلك الوقت أحد أعضاء قيادة الفرع، وأتولّى قيادة المنطقة الجنوبية (حوالي ستة سجون).

ومن يعتقد أنّ الكتابة في حقل التّنظيم مسألة سهلة، فهو واهم؛ فقد كنّا نكتب ليل نهار، ونبتدع وسائل جديدة في تطوير أشكال عملنا التنظيميّ، وطريقة التّواصل وتطوير حياتنا الحزبيّة والثقافيّة، والآليات التي تحكم العلاقة بين مختلف الهيئات المحليّة والمركزيّة، وإعداد اللوائح المنظمة لعملنا، ونقاشها في إطار الهيئات الموزعة بين السجون، والإشراف على انعقاد المؤتمرات الرابطيّة (المحليّة) والمناطقيّة، والإعداد لمؤتمر الفرع مرة كل ثلاث سنوات.

ولعلّ هذه المهام إلى جانب التّحدي الذي كنّا نخوضه ضدّ مصلحة السّجون، التي رفضت إنهاء عزل سعدات، بل هدّدت بعزل المزيد من القادّة، ونفذت تهديدها بعزل الرّفيق عاهد أبو غلمي في العام 2010 قد شكّلت عناصر محفّزة للمزيد من العمل، وتكثيف المراسلات، والتهيئة لإمكانية خوض إضراب عن الطعام، وبدورها واصلت إدارة مصحلة السّجون إجراءاتها التعسفيّة بحقّنا من عقوبات وتنقلات وحرمان فصل أو فصلين من التّعليم الجامعيّ.

وفي تلك الفترة استغرقت تمامًا في ممارسة تلك الأنشطة، وعلى هامشها كنتُ أواصل التّعليم الجامعيّ. وقد تعرضت للتّنقل بين أكثر من سجن في سجون الجنوب، وعوقبت بالحرمان من التّعليم مدة فصلين، قبل أن تأتي محطة إضراب أيلول 2011، وفي تلك الأثناء كنّا نمضي وقتًا مهمًا في الكتابة والنسخ، ومراسلة السّجون، وكانت تلك الكتابات تساهم في تمرسنا واكتسابنا الخبرات الجديدة في العمل التنظيميّ والاعتقاليّ، وبما أن تجربة تشكيل فرع للسّجون كانت جديدة علينا، صار يتعيّن علينا أن نبدأ من الصّفر في كل شيء، وأن نبذل جهدًا في ابتكار وسائل جديدة في العمل، والبحث عن حلول إبداعيّة لمختلف المستجدات. فنحن في معركة مزدوجة: بناء التّجربة وترسيخها وإرساؤها على أسس متينة، ومن ناحية ثانية مواجهة إجراءات إدارة مصلحة السّجون التنكيليّة.

كانت تلك السّجون قاسية ومريرة ومنهكة، احتاجت منّا أن نكرس كل جهد لصالح حماية التّنظيم. وهو ما يعني أن أي انشغال بمهام أخرى يُعدّ ترفًا لا حاجة له، وبالكاد كنّا نستطيع التّوفيق بين المهام التنظيميّة والاعتقاليّة، وبين الدراسة الأكاديميّة، أما الكتابة الإبداعيّة فكانت مؤجلة إلى حين أن تتراجع الضغوط الممارسة بحقّنا.

في تلك الأعوام نجحنا إلى حدٍ بعيدٍ في ترسيخ وحدة التنظيم وتهيئة قاعدتنا لخوض معارك الإضرابات عن الطّعام، وباتت قواعدها في مختلف السّجون مضرب مثل في الصمود والثّبات والتّعبئة وجاء ذلك ثمرة للجهود الكبيرة التي بذلها العشرات من الكوادر الذين عملوا لسنوات بإخلاص وتعاون؛ لتثبيت وتعزيز التنظيم الاعتقاليّ الذي سيصارع السّجان لسنوات طويلة.

في تلك السّنوات كتبنا أعدادًا كبيرة من الكرّاسات واللّوائح والوثائق التي رسمت طريقنا النضاليّ وثبتت وجودنا في ظل محاولات إدارة السّجون لتفكيك الجسم الاعتقاليّ، وساهمت إلى حد بعيد في إقناع السّجان بالكفّ عن مواصلة إجراءاته بحقّنا بعد أن تيقّن أن الفكرة لا يمكن قتلها بمصادرة الأوراق، وأن هذه الفكرة باتت تتجذر في رؤوسنا كلما تزايدت إجراءات القمع.

 

ومن المفارقات أن بعض ضباط مصلحة السّجون أخذوا يتتبعون وثائقنا وكراساتنا ومصادرتها ليس لأغراض تتعلق بالأمن ومعرفة ما يدور في رؤوسنا، وإنّما أيضًا بهدف إعداد رسائلهم في الماجستير والدّكتوراه بناء على هذه الوثائق، حيث قال لنا البعض منهم أنها تشكّل وثائق خطيرة ونوعيّة، ومهمة من ناحية تنظيميّة وسياسيّة وإداريّة وأيدولوجيّة.

كميل أبو حنيش