كتبت الأسيرة المحررة دعاء الجيوسي..

لا رجباً ولا عجباً في حياة كريم يونس

h38gp (1).jpeg

 

بقلم: دعاء الجيوسي

ورد في أيام العرب حكمة ألقاها الحارث بن عباد وصارت بعد ذلك مثلاً ، قيل أن الرجل عَلّق على حدث إجتماعي إعترضه بالقول: ( عِش رجبا ترى عجبا) أي أنك إن عشت رجباً بعد رجب ما يعني أن الأعوام توالت عليك فإنك سترى من عجائبها الكثير وهذه حكمة موجزة لا يُمكنك إلا أن تصدع بها وتُعلي بلاغة قائلها ولكنها على الرغم من منطقيتها ورصانة بنيانها اللغوي لا تبدو معبرة عن حال وحياة كريم يونس الذي توالى عليه 38 رجبا ولم يرى من الدنيا شيئاً لا عجائب تصاريفها ولا حتى مألوفها.

فابن قرية عارة بالمثلث ولد بعد النكبة الفلسطينية بثمانية أعوام وتحديداً آواخر ديسمبر عام 1956 ولا يُمكنك بعد ذلك أن تتبع حياة الرجل باليوم أو الحول لأن الفواجع فيها أكبر من السنين فعام مولده حدث عدوان ثلاثي ومطلع شبابه إنتكس العرب فأضاعوا ما تبقى من فلسطين بعدها تدافعت في مجرى حياته تطورات المشهد الفلسطيني وكلها كوارث ترسم لأهل البلاد طريقاً واحداً نهايته قبر في باطن الأرض أو على ظهرها ولكنه قبر على كل حال الأول فيه فردوس السماء وعظمة ما فيها للشهداء والثاني فيه جحيم القيد فظائع وويلات أعدها لنا العالم طيلة قرون.

سارت حياة كريم الفلسطيني على ذات وتيرة الدم التي رافقته منذ مجيئه للدنيا فمرت عليه مجازر ، اعتقالات، تهجير متواصل، حملات تطهير عرقي ومن ثم تحطيم القوة العسكرية للثورة الفلسطينية وإخراجها من بيروت عام 1982 ...تخيل إن آخر حدث عام شهده الرجل قبل أن يختطفه المجهول هو حصار بيروت ما يعني أنه لم يشهد أواخر أيام الحرب الباردة ولا حرب النجوم 

وغاب عن أكثر من نصف سنوات حرب الخليج الأولى وكل سنوات الثانية والثالثة وإنتفاضتي فلسطين وتوقيع اتفاق اوسلو وإنهيار المنظومة الإشتراكية ونشوء عشرات الدول وتَغَيُر مئات الحكام وولادة مئات ملايين المحكومين وموت مثلهم على ظهر الكوكب.

كل هذا حَدَث في عالم يواصل حركته الدؤوبة حول كريم الذي يبدو ثابتاً وحيداً في هذه الدنيا التي تتغير ظروفها بينما يظل هو على حاله سجين ، عالمه سرير صدء و قيد تبدل مئات المرات...رأس إشتعل شيباً وعظمٌ يتسلل إليه الوهن شيئا فشئ ولكن ووفقاً لما يقوله العارفون أولئك الذين دخلوا السجون فتية وخرجوا منها كهولاً وباتوا اليوم أرباب أُسر فإن أهم ثوابت الرجل هي قلبه الفتي الذي لم تصل إليه برودة السجن بعد ولم تغزوه آفات المنصب وسراب الوعود بِحريةٍ تجود بها حُسن النوايا ، فرغم مآسيه الشخصية وقسوة ظرفه لا زال كريم يؤمن أن البنادق التي أوصله دربها للسجن ستظل وفيّة لن تنساه وستعود ذات يوم لتنتزعه منه....وفي إنتظار اليوم الموعود وإلى أن تحين ساعة الحقيقة فكروا جميعاً كيف لرجل دخل السجن قبل تسع وثلاثون عاماً أن يستقبل حياتكم الممسوخة بإسترزاقها الفج ونفعيتها البغيضة...كيف لمن أمضى عمره يُعطي أن يستوعب تنميطكم للقضية برتب وراوتب وإستهلاك قبيح...حين يَحُط كريم يونس بيننا حُراً حضروا إجاباتكم للأسئلة المُرة.