كتاب على شكل حلقات بقلم الأسير الأديب كميل أبو حنيش..

الكتابة والسجن، الحلقة التاسعة "العالم البنيّ"

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / السجون_حنظلة

سيفاجىء العديد من الأصدقاء والمقرّبين بعنوان هذا الكتاب... الذي لم يسمعوا به من قبل، لأنّه لم ير النور أولاً، ولأنّني ما أزال مفجوعاً بفقدانه، كمن يفقد عزيزاً عليه ويحجم عن ذكره لئلا يظلّ في دوامة الحزن والفقدان.

فهذا الكتاب الأدبيّ الذي شكّل بداية خوضي في الكتابة خارج موضوع الرّواية، بعد إنجاز روايتي خبر عاجل وبشائر ينطوي على أسلوبي جديد في الأدب الإعتقالي، ومثل تجربة مفيدة بالنسبة لي، حيث كنت استكشف حينها أغوار ما يخلّفه السّجن في أعماقي من مشاعر وهواجس وأحلام وآمال مرتقبة. 

كنتُ في ذلك الحين في بدايات العام 2007، في قسم/سجن ريمون، وبعد إحجام مؤقت عن الكتابة بعد ضياع أغراضي الشّخصية في البوسطة، حين ولدت فكرة الكتاب، وباشرتُ بكتابة مسودّات فصوله، وأذكر كيف كنت أنتظر ساعات المساء بشغفٍ شديد لألوذ إلى قوقعتي فوق البرش وأكتب طوال ساعات المساء وحتّى ساعة متأخرة من الليل.

أسميت الكتاب "العالم البنيّ" وهو مستوحىً من العوالم الخرافيّة كالعالم الآخر بعد الموت، وكأنّ عالم السّجن يحمل الكثير من سمات العالم الآخر، بزمنه الدائريّ المكثّف والغرائبي فيما يبثّه من هواجس وجوديّة في ذهن الأسير.

أما سبب تسميته "بالعالم البنيّ" فيعود إلى اللّباس البنيّ الذي يرتديه الأسرى في السّجون، ففي تلك المرحلة كانت السّجون تكتظ بأعداد كبيرة من الأسرى وصلت إلى أكثر من ألف اسيرٍ وأسيرة، وأينما وليت وجهك في السّاحة، البوسطة، العيادة، الزيارة،....الخ) ستجد الأسرى يرتدون لباسهم البنيّ، وأيضًا إلى جانب ما كان يسمح لنا بإدخاله من ثياب عند زيارة الأهل، فقد تركّز على هذا اللّون، وعلى ما يبدو فإنّ الأهالي قد وقعوا في مصيدة اللّون وأخذوا يحضرون الثّياب والأغطية وحتّى الملابس الدّاخلية في كثير من الأحيان باللّون البنيّ، وذلك على الأقلّ في السّنوات الأولى من الإعتقال، حيث احتجنا لمزيد من الوقت لاستيعاب صدمة اللّون، والبحث عن ألوان أخرى، يسمح بإدخالها على الزّيارات، وبهذا صار بوسعنا ارتداء ثياب بألوان أخرى، وتزيين غرفنا وأبراشنا وستائر الخزائن، ووجوه الفرشات، بألوان مختلفة مع تجاهل اللّون البنيّ، الذي بقي مقتصرًا فقط على ثياب الإدارة الرسميّة التي نخرج بها على الزّيارة والبوسطة والعيادة، والإنتقال بين الأقسام والسّجون.

غير أنّ اللّون البنيّ شكّل حالة ذهنية، يرمز للسّجن وإجراءاته اليوميّة التي تترك تأثيرها العميق في أعماق الأسير، وتنعكس في سلوكه اليوميّ وما يستنبطه من آلام وأحلام وهواجس وصدمات.

من هنا ولدت فكرت الكتاب، وقرّرت ألّا أتعجّل في إنجازه وأن أتحرر من هواجس السّجن. استغرقت في إنجاز مسودّته ما يقارب السّتة أشهر، أعجب صديقي الأسير المحرّر مصطفى بدارنه بأسلوبه وشجّعني على إنجازه وتسريبه للخارج.

حمل الكتاب بين دفتيه أكثر من 220 صفحة خطّطتها بمداد من الأحلام والآمال وعشق الحريّة وبعض من حكايات السّجن وتلك الأفراح النابضة في أعماق كل أسير ينتظر بصبر بزوغ شمس الحريّة، أخذتُ أعمل على تنقيحه على أقل من راحتي إلى أن أنجزته في خريف العام 2007، ومع توفّر فرصة قرب تحرر أحد الشّباب، حدثته عن الكتاب وتحمّس لحمله وتعهّد بإيصاله إلى البيت.

حمله الأسير المحرّر في يوم تحرره، وانتظرتُ يوم الزّيارة لتزف إليّ والدتي بشرى وصول الكتاب، وهو ما لم يحدث، تأخّر الشّاب في الاتصال بضعة أسابيع بالبيت، ليبلّغهم أنّه قد جرت مصادرة الكتاب على بوابة السّجن، ولسوء حظّي كان شاب آخر قد أستلف المسودّة لمطالعتها، وانتقلت معه إلى سجن النّقب، ومن يومها فقد الكتاب...

أصبتُ بالإحباط والحزن في الواقع لم يكن هذا الكتاب هو الحلم الوحيد الذي فقدته في رحلة الأسر، فقد صادر السّجان طوال سنوات أسرى عددًا من الكرّاسات والأبحاث وبعض المشاريع التي لم تكتمل وبعضها كان في طور الخلاص وبعضها بنصف اكتمال، لكن العالم البنيّ كان كتابًا مكتملًا سيظلّ يفجعني فقدانه.

مضت ثلاثة عشر عامًا على مصادرته من قبل السّجان والمصادرة تعني إعدامًا للكتاب، كان من حقّه عليّ أن أذكره إلى جانب إخوته من الإصدارات التي رأت النّور وإن بولادة مستعصية من رحم السّجن، وها أنا أذكره لأمنحه على الأقلّ بعضًا من حياة الاسم، حتّى وإن لم يحيى يومًا ككتاب، له حضوره مع بقيّة الإصدارات.