كتب الأسير الأديب كميل أبو حنيش من داخل زنزانته في سجن ريمون

أُفول زمن الجنرالات

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / السجون_حنظلة

على ما يبدو تغيرت إسرائيل كثيرًا في العقدين الماضيين بعد أن تهاوت أرصدة الجنرالات العسكريين إلى الحضيض، من بعد أن نجح "نتنياهو" بهزيمة كافة خصومه بما فيهم الجنرالات ذوي الهالات "المقدسة" في الدولة العبرية، في ثلاثة معارك إنتخابية متتالية خاضها ثلاثة أركان سابقين (بني غانتس، موشي يعلون، غابي إشكنازي) ومعهم سياسي محنك كـ "يائير لبيد"، للإطاحة بنتنيناهو، بيد أنهم فشلوا جميعًا ولم يصمد زعيم حزب أزرق أبيض، "بني غانتس" أمام إغواء السلطة، فقرَّر الإنضمام لحكومة نتنياهو الأمر الذي نجم عنه إنفراط عقد التحالف بين الجنرالات، فإنضم غانتس وإشكنازي للحكومة، فيما فضَّل "يعلون" البقاء مع لبيد ولم يوفر نتنياهو أية فرصة في إهانة شركائه الجنرالات وتمريغ أنوفهم في وحل السياسة الإسرائيلية.
لم تألف الدولة العبرية منذ إنشاءها مثل هذه الصورة البائسة للجنرالات في الحياة السياسية، فلطالما تختزن الذاكرة الجمعية صورةً للجنرال الأسطوري من "يغائيل يادين" إلى "إيغال ألون"  إلى "موشيه ديان" و "إسحاق رابين" و"عيزر وايزمان" و"أرئيل شارون" وقائمة طويلة من الجنرالات الذين كان الساسة والحزبيون يرتعدون خوفًا من أسمائهم، مضى زمن الجنرالات الذين كانوا يفرضون آراءهم في السياسة ويرغمون "ليفي آشكول" على تعيين ديّان وزيرًا للدفاع عشية الحرب عام 1967م، أو حين كان يتم استدعاؤهم للإطاحة بالساسة المخضرمين، كما أطاح رابين بـ"بيريز" في إنتخابات حزب العمل عام 1974م في أعقاب استقالة "غولدا مائير" من رئاسة الحكومة ليتولى رئاستها جنرال لأول مرة منذ قيام الدولة. 
ثم يجري انتخابه ثانية لرئاسة حزب العمل ليطيح بـ"إسحاق شامير" عام 1992م بعد أن فشل شمعون بيرس في ثلاث انتخابات متتالية في استعادة الحكومة لحزب العام (1981_1984_1988).
لكن بعد اغتيال الجنرال رابين عام 1995م، وعودة بيرس ليبدأ مكانه في رئاسة الحزب واستطاع صبىٌ غرٌ كبنيامين نتيناهو عام 1996م من هزيمة بيريز، ليجري إستدعاء جنرال آخرٌ مثقل بالنياشين والأوسمة كـ"إيهود باراك"ليطيح بنيتناهو عام 1999م ويبدأ مكانه في رئاسة الحكومة لفترة من الوقت قبل أن يستدعي الليكود جنرالًا عجوزًا كآرائيل شارون لهزيمة الجنرال الشاب إيهود باراك عام 2001.
وقد عرفت الحلبة السياسية أسماءً عديدة من الجنرالات السابقين الذين لعبوا دورًا مهما في الحياة السياسية من "بنيامين بن إليعازر" إلى "عيزر وايزمان" و"عمرام متسناع"، "إسحاق مردخاي"، "رفائيل إيتان"، "أمنون شاحاك"، و"شاؤول موفاز" وغيرهم 
وفي العقدين الأخيرين بدأت تغرب شمس الجنرالات ولعل هزيمة إيهود باراك ولاحقًا شاؤول موفاز تُشكِّل إحدى أوجه هذا الغروب، أما "دان حالوتس" رئيس الأركان في حزب العام 2006م فقد غربت شمسه قبل مغادرته لمنصبه، وتحمَّل مسؤولية الهزيمة في الحرب، وبعد مغادرته للجيش لم يعرض عليه أي حزب الانضمام إلى صفوفه.
وها هي الساحة السياسية تتهيَّأ لانتخاباتٍ جديدة في آذار القادم، ولم يعد للجنرالات الثلاثة في تحالف أزرق أبيض أية أهمية، وتراجعت قيمتهم في سوق السياسة الإسرائيلية.
أما الجنرال "غادي إيزنكوت" رئيس الأركان السابق فمن المرجح أن يلتحق بركب السياسة وقد ينضم إلى أحد الأحزاب القائمة أو يلجأ إلى تشكيل حزب جديد، ولكن هذه المرة من دون أي حماسة أو إحتفاء بدخوله السياسة كما درجت عليه عادة الإعلام والأحزاب المتصارعة.
إذًا تراجع دور الجنرالات في السياسة خلال السنوات الأخيرة، وما أن يبزغ نجم أحدهم حتى يعود للأُفول بسرعة ولم يعودوا يحظوا بالأهمية و"القداسة" سواء لدى الجمهور او لدى الأحزاب السياسية.
إن هذه الظاهرة المتمثِّلة بأُفول نَجم الجنرالات تنطوي على تحوُّلات عميقة في الاقتصاد والمجتمع تعكس نفسها في الممارسة السياسية، فالعسكري هو مجرد موظف يمتهن الفنون الحربية، ولم تعد له ذات الصورة في الذهنية السياسية والاجتماعية، فهو لم يعد المقاتل الأسطوري الصامد في الميدان، وليس مغامرًا أو عبقريًا او كارزماتيًا كما صوَّرته الآلة الإعلامية والثقافية في السابق.
فقد باتت التكنولوجيا الحديثة والإمكانيات العالمية في الجيش الإسرائيلي تطمسُ صورة العسكري البارع لصالح الذكاء الصناعي العسكري، وبات له دور مكمِّل وثانوي، فالبطل الحقيقي اليوم هو الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار ومنظومات الدفاع، والطائرات والدبابات المزوَّدة بتكنولوجيا حديثة والروبوت...إلخ.
أما نتنياهو فقد استطاع بمواهبه وبراعته الشخصية أن يجعل من الحزب والمعسكر والأيدولوجيا والسياسة والاقتصاد والعلم عناصر مهمة لا تقل أهمية عن الأمن والجيش، وهذا يُنذر بتحوُّل خطير لم تعهده الدولة في تاريخها، فظاهرة الجنرالات الفاشلين في السياسة والذين يسهُل الإطاحة بهم وإهانتهم وتحويلهم إلى إلعوبة في أيدي السياسيين تُدلِّل على تراجع أهمية الجيش والروح العسكرية في الدولة والمجتمع، كما وتُدلِّل على حالة الإسترخاء الأمني التي تعيشها إسرائيل منذ سنوات.
لقد تمكَّن نتنياهو من ترسيخ صورة السياسي المحتل والخبير في كل شيء على حساب صورة الجنرال العسكري الذي لا يفهم ما يجري خارج حدود مجاله ومهنته العسكرية، وأنه ينبغي له أن يترك السياسة لأصحابها، فقد تحوَّل الجنرالات في إسرائيل إلى أسماء بدون طعم أو رائحة وبلا أية مخالب بعد إنهائهم لمهامهم في الجيش، ومن يتبقَّى له مخالب يجري تقليمها من قبل رجال السياسة والحزبيين، وهو ما يبعث على الأسى في نفوسهم إذ أن صورتهم لم تعد لها تلك الهيبة والهالة التي كان يتمتع بها الجنرالات السابقون وبهذا يكون قد انتهى زمن الجنرال وجاء زمن السياسي البارع والمحنَّك في الدولة العبرية.

الأسير كميل أبو حنيش 
سجن رامون الصحراوي
ديسمبر/2020