كتاب على شكل حلقات بقلم الأسير الأديب كميل أبو حنيش..

الكتابة والسجن، الحلقة الثامنة، "بشائر"

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / السجون-حنظلة

ولدت فكرة هذه الرّواية في بدايات العام 2006، في ظلّ مناخ سياسيّ ووطنيّ عاصف، بعد نتائج الانتخابات الدّاخلية التي أفضت إلى فوز حماس بالانتخابات، وما أفرزه هذا الواقع من تطورات على السّاحة الفلسطينيّة قادت إلى بروز انقسامات واقتتال داخلي على السّلطة، فضلًا عن الهجمة الشرسة التي شنّها الاحتلال على شعبنا رفضًا منه لنتائج هذه الانتخابات والأزمات المختلفة التي عصفت في السّاحة الفلسطينيّة في ضوء تكالب العالم على شعبنا، وتشديد ضغوطاتهم السّياسية ووقف دعمهم المالي للسّلطة، وصولًا إلى صيف ساخن ذلك العام في أعقاب أسر المقاومة للجندي شاليط، وكذلك أسر المقاومة اللّبنانية لجنديين إسرائيليين أدت إلى حرب طاحنة امتدّت لأكثر من شهر.

ألقت هذه التّطورات بظلالها على السّجن، وانهمك الأسرى في جدالات سياسية متواصلة. حيث شكلت هذه التّطورات والنقاشات مناخًا عامًا للرّواية، وألقت بظلالها عليها. 

أما العامل الّذي دفعني للمباشرة في كتابتها، هو ما لاحظته من جهل بتاريخ فلسطين الحديث لدى الكثير من الأسرى الشّباب، كنتُ في ذلك الحين في قسم 4/ جلبوع، أقدم مادّة تاريخ فلسطين على شكل جلسات لعدد من الأسرى الشّباب، ضمن برنامج تثقيفيّ طويل الأمد. وقد لاحظت جهلًا لدى العديد منهم في أساسيات تاريخ فلسطين الحديث، فالكثير منهم لا يعرف مثلًا ماذا يعني 48 أو 67 أو ،56 أو شيئًا عن أيلول الأسود وأسماء بارزة في تاريخ الثّورة الفلسطينيّة... الخ.

كانت فكرة الرّواية تنطلق من هذا الأساس، وقد اعتزمت في البداية أن أكتب كراسًا على شكل قصّة تروي تاريخ فلسطين الحديث؛ ليسهل على الكثيرين أثناء تداولهم لها فهم الكثير من الأحداث والرّموز. غير أنّ الفكرة تطورت من قصّة كرّاس في السّجن إلى رواية أدبيّة. وكانت تتغذّى هذه الفكرة على الكثير من المشاهد في السّاحة الاعتقالية كبعض الجدالات عن أنواع البنادق وأفضلها في تجارب المقاتلين أثناء الانتفاضة الثّانية، وكان أحد الشّباب منحازًا للسّلاح القديم و"بارودة" جدّه الإنجليزية الّتي أورثه إيّاها قبل رحيله. 

شكّلت البندقية حبكة الرّواية. أمّا زمنها فقد كانت ترسم لوحة فسيفسائيّة عن أزمنة متداخلة وكان زمن السّجن، حيث يروي أحد الأسرى لرفاقه حكاية بارودة جدّه التي غنمها في ثورة البراق من أحد الجنود الإنجليز، هو الزّمن الثابت، فيما تتحرك البندقية في أزمنة الثّورة في مختلف محطاتها. منذ ثورة البراق عام 1928، ومرورًا بالثّورة الكبرى عام 1936، وصولًا إلى محطّة النكبة عام 1948، وليست انتهاءً بالثّورة المعاصرة بعد العام 1967. 

وتروي الرّواية حكاية الثّائر حسن، الّذي بشبابه الأولّ تمكّن من اغتنام بندقية جنديّ إنجليزي، واحتفظ بها وشارك في مختلف الثّورات، ترافقه الفرس " بشائر" في المحطّات كافّة. ويجسّد حسن حكاية الثائر المبدئيّ العاشق لوطنه، والّذي يهب إلى بندقيته يقاتل بها. وفي كلّ محطّة يجري اعتقاله على أيدي الإنجليز والأردنيين، والإسرائيليين، ويتعرض للتعذيب. ويبقى صامتًا رافضًا تسليم البندقيّة فالكلّ يطلب رأس البندقية. ويبقى محافظًا عليها إلى أن يسلمها لحفيده علي قبل رحيله، ويورثها لحفيده مرفقًا معها حكايتها. أما الحفيد فيشارك في الانتفاضة الثّانية مقاتلًا في البندقية التي ورثها عن جدّه، ويرفض تسليمها بعد اعتقاله رغم تعرضه للتعذيب الشّديد. 

أما "بشائر" فهو اسم الفرس كما أسلفنا التي رافقت حسن، ومن نسل بشائر، ولدت عدّة أفراس، وكلهنّ حملن الاسم بشائر ورافقت حسن في حياته. 

كان في تلك الفترة وأثناء كتابة الرّواية معي في ذات الغرفة الأسير المحرّر الرّفيق أحمد أبو السّعود، وكان أيضًا معنا في القسم ذاته الأسير المحرّر مؤيد عبد الصمد "الشيص"، وكان لهما دور في إمدادي ببعض الحكايات وتصحيح بعض الأخطاء التّاريخيّة وتحمّس أبو السّعود للرّواية وكتب مقدّمة لها. 

ومرّة أخرى وقعتُ في مصيدة الوقت وهاجس مصادرتها، فقد سارعتُ لإعدادها مع قرب تحرّر أحد الأسرى، وهو المناضل معتصم نصار. وتحرّر معتصم وحملها معه، وأوصلها للبيت. وتعهّد الصّديق الدّكتور عبد المجيد حامد بتدقيقها لغوياً وإعدادها للطباعة.

حملت الرّواية اسم "سنوات الجمر والرّماد" لدى تسريبها لخارج الأسوار. غير أنّي آثرت تغيير اسمها؛ لأن ثمّة كتبًا وروايات حملت ذات المسمّى، أبرزها أحد كتب هشام شرابي "الجمر والرّماد" تنبّهت متأخرًا لهذا الاسم لكنّي أرسلت لصديقي عبد المجيد من خلال زيارة الأهالي عن ضرورة تغيير اسمها، واستقّر الرأي بيننا على تسميتها باسم "بشائر". 

تابعت الرّواية من خلال الرسائل وزيارات الأهل، غير أن جهة لم تتحمس لطباعتها، وبقيت لسنوات في البيت إلى أن قبلت مؤسسة "اللجنة الوطنية للثقافة والعلوم" طباعتها، وكان يرأس اللّجنة في ذلك الحين السيد إسماعيل التلاوي. 

احتاجت الرّواية أربع سنوات إلى أن رأت النّور في عام 2010، ومن الطّريف أن صدور الرواية قد تزامن مع عودة والدي من مناسك الحجّ ذلك العام.

وأخذ الأهل يقدّمون نسخة من رواية "بشائر" للمهنئين بعودة أهلي من الحجّ، إلى جانب الهدايا التقليديّة من مسابح وتمور ومياه زمزم، حيث حظي كل زائر أو زائرة يأتي للسّلام على الأهل وتهنئهم بالسّلامة بنسخة من رواية "بشائر".

وصلتني نسخة من الرّواية إلى السّجن بعد عام من صدورها أي في العام 2011، وفوجئت بتلك المقدّمة الرّائعة التي كتبها صديقي الدكتور عبد المجيد إلى جانب المقدمة الأولى التي كتبها الرفيق أحمد أبو السعود. 

سررتُ بصدور الرّواية ووصولها إليّ إلى السجن بعد إعادتها عدّة مرات كونها تحمل اسمي. لكني فوجئت بعدد من الأخطاء المطبعيّة. وأسفت لذلك. كما أنّني وبعد إعادة قراءتها، أيقنت أنني تعجلت في كتابتها وبدا لي الكثير من مواطن ضعفها. فقد مرّت أكثر من خمس سنوات على كتابتها. وخلال هذه السنوات تحسّن أسلوبي وكذلك لغتي الأدبية. وتطورت لدي ملكات جديدة على هذا الصعيد؛ لذا لم أتحمس لإعادة إصدارها من جديد واكتفيت بطبعتها الأولى إلى أن تحين فرصة أخرى خارج الأسر ، وأخذت أسعى لإصدار طبعة منقحة منها على أي حالٍ، ورغم ملاحظاتي عليها وملاحظات العديد من الأصدقاء، تبقى الرواية روايتي، ولا يمكنني أن أتبراً منها، أو أخجل يوماً من بعض العيوب التي أعتبرها هفواتٍ فنية أو لغوية، ولا يمكننا إعادة التاريخ للوراء؛ لأننا حين نكتب في مرحلة معينة من العمر، تكون تلك المرحلة بملابساتها وظروفها وإمكانياتها حاضرة في وعي وثقافة الكاتب، وتنعكس في أسلوبه الكتابي.

يتعين عليّ أن أذكر أيضاً أنني أدخلتُ أعدادًا من هذه الرواية إلى مختلف السجون، وقد لاقت استحساناً لدى الكثير من الأسرى، لا سيما الشّباب منهم، الذين وجدوا فيها رواية سلسلة لفهم ما استعصى عليهم من معلومات وأحداث لدى دراستهم لمادّة تاريخ فلسطين. وبهذا تحقق الهدف الأساسي من وراء كتابتها.

كميل ابو حنيش