كتبت الأسيرة المحررة دعاء الجيوسي..

كميل وغسان حين تعقد البنادق حبلاً قطعته القنابل

IMG_20201213_100430.jpg
المصدر / حنظلة

بقلم : دعاء الجيوسي

تكتظ الذاكرة الجماعية لشعبنا بأسماء لامعة لِكتاب ومُبدعين في مضامير العمل الأدبي والفني المُختَلِفة فتجد عبد الرحيم محمود الأخوين طوقان وعارف العارف ، نوح إبراهيم ، كنفاني ، ناجي العلي ، درويش وكمال ناصر وغيرهم...

إذ انه وعلى إمتداد سنوات الصراع كان رحم شعبنا يجود بنفحات متتالية من المبدعين الثوريين ومع بدء التحول في المشهد السياسي الفلسطيني ودخول زمن الردة الممتد من مسار مدريد أوسلو وصولاً لحالة الإنقسام والتشظي الحالية نجد ظاهرة غريبة لم تُسَجل سابقاً في صيرورة حياتنا الفلسطينية ولكنها إقتحمتها وطَغَت عليها حالها حال باقي الظواهر الدخيلة التي لوثت حياتنا وَمَسخَت ملامحها فلثلاث عقود خلت إن تَتَبعت مشهد حياتنا تجد قيمة الإبداع الأدبي الثوري إنزوت حالها حال كثير من قيمنا التي تلاشت وحل مكانها مفاهيم الإستهلاك والإسترزاق بالأقلام وصولاً لمرحلة التراشق و غيرها من بذاءات أيامنا.

ولأن الكاتب إبن زمنه وتعبيراً عن الحالة الوجدانية لمحيطه قد تبدو مُبَرَرة حالة الفقر الإبداعي التي تصبغ أيامنا السوداء ولكن الذي لا يبدو مقبولاً ولن يصبح كذلك أبداً هو تسخير الأقلام وتأجير العقول فلا يمكن لشعار ( ومَا أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ... غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ) أن يُصبح ناظماً للمشهد الإبداعي الذي يُفترض أنه نصل النقد الذي يخدش ويجرح سلبيات واقعنا لا أن يُغني لها و يُسَبِح بحمد صانعيها.

للحق والإنصاف وحتى لا أكون مُتجنية ففي نفقنا بعض ضوء وشذرات شمع تلمع في آخره منها فنانين وكتاب لا زالت أقلامهم حُرة نأت و تنأى بنفسها عن عصر الكوميديا السوداء الذي نحياه.

ومن بين أصحاب الأقلام الذين لا زالوا في هذه الدائرة التي تضيق شيئاً فشيئاً الأسير الأديب كميل أبو حنيش ، 

وكي لا أبدو مُنحازة ولا تبدو شهادتي في رفيق الكفاح والقيد مجروحة أقول وأجري على الله فيما أقول : 

عرفت كميل في نابلس في ذروة إنتفاضة الأقصى عام 2002 كمرجع لمجموعتنا الفدائية ورغم كونه مطلوباً للإحتلال ومسؤولاً لأحد أكثر الأجنحة العسكرية ضراوة في حينه فقد كان الرجل شفافاً تعلو حديثه مسحة أدبية واضحة وكان يبدو أن لوثة الإبداع ضربته وهو المسؤول أساساً عن سلسلة عمليات فدائية ألحقت بالعدو ما تعلمونه من أذىً.

طيلة سنوات المُطاردة كان كميل يرثي رفاقه الشهداء بإسلوب جزل وكذا كانت التعميمات والقرارات والتحليلات السياسية التي يُصدِرُها وتَصِلُنا .

بتاريخ 2003/4/15 إِعتَقلت قوات الإحتلال كميل وبعد رحلة تنكيل قاسية وتعذيب مُميت أصدرت حكماً بسجنه تسع مؤبدات وعدد من السنوات.

وفي السجن الذي تولى خلاله مسؤليات مُتَقَدِمة تفجرت لديه ما يمكن أن نُطلق عليها ( حرقاً لمراحِل تَخَلُق الأديب) فقد مر سريعاً أو ربما تجاوز مراحل : إلتقاط الجمال ، التوتر ونقله من الذات إلى جسم النص ، إلتقاط الحدث وبلورته فكرة ، نقل الموقف الشعوري من داخل النفس إلى خارجها) وفي فترة ليست طويلة إذا ما قورنت بسنوات المخاض الطويلة التي يُمضيها الأدباء قبل الوصول لمرحلة النضج الفني نجد أن كميل الأديب أثرى مكتبتنا ومشهدنا الثقافي بسلسلة فريدة من القصائد والروايات وأعمال النقد الأدبي والسياسي وهو بهذا إنما يشابه غسان كنفاني بِقدر ما يُخالفه أو لنقول يتشابهان في المُقدمات والنتائج ويختلفان في حيثيات بلوغها.

فكلا المُبدعين حقق مجداً وشغل مكاناً مرموقاً في بنيان المشهد الإبداعي الوطني والإنساني في سنوات معدودة وهما أيضاً ولدا من رحم تجربة العمل الفدائي وإن كان لكل منهما خصوصيته فالظرف الخاص لكميل يبدو أكثر تعقيداً على صعيد حياة المُطاردة والسجن وإمكانيات التحرك لإلتقاط الحدث الذي يُشَكل صاعقاً يفجر لدى الأديب طاقة الكتابة وكذا القدرة على نشر الإنتاج ووصوله لأيدي القراء هذا مع عدم تقليلنا من خطورة الملاحقة والتعقيدات المُركبة التي عاش وكتب غسان بين رحاها.

ختاماً وإن كنت لست ناقدة أدبية ولا أُصنِف نفسي بأكثر من قارئة تتذوق ما تقع عليه عيناها من فنون الكلم فإني أقول وأؤمن بما أقول : إن كميل بنتاجه الأدبي وشمولية إبداعه إنما يُشكل تعويضاً حقيقياً عن الخسارة الجسيمة الأدبية والإبداعية التي مُني بها اليسار الفلسطيني بإستشهاد غسان كنفاني وبهذا تبدو البندقية التي حملها أبو حنيش مُقاتلاً وأوصلته للسجن أسيراً جسراً ويد قدر قوية عقدت من عُرى مشهد الأدب الثوري الفلسطيني ما قطعته القنبلة التي قتلت غسان فولد لنا أديبين بين بندقية وقنبلة وجاء كميل بشيراً بأن الرجال حملة البنادق الذين وَصَف غسان كتاباته بأنها تعويض عن غيابهم قد أشرقوا على هذه الأرض وإن غيبتهم السجون فإن نار كفاحهم وإبداعهم لا تخبو أبداً.