الأسير الأديب والشاعر كميل أبو حنيش من قلب زنزانته يكتب

بارانويا السياسة الفلسطينية

f6d2772b-6d2d-4c16-aebd-9f708be1bff4.jfif
المصدر / حنظلة

تشهد الساحة الفلسطينية وهي تخوض معركة التحرر الوطني، حالة متفاقمة من أزمة الثقة والشك والارتياب بين مختلف مكوناتها السياسية والوطنية، ويمكننا أن نطلق على هذه الحالة (البارانويا السياسية) وإذا كان لهذه الحالة جذورها في تجربة الثورة الفلسطينية غير أنها تشهد اتساعًا وتفاقمًا منذ انطلاقة عملية التسوية وقيام السلطة الوطنية، حيث تسود أزمة ثقة بين الفصائل الوطنية والإسلامية.

ففي مرحلة الثورة، شاب العلاقات الفلسطينية - الفلسطينية جو من عدم الثقة والارتياب والاتهامات والتراشق الإعلامي، عبرت عنها ثنائية اليسار واليمين في إطار منظمة التحرير الفلسطينية. 

حيث دأبت فصائل اليسار على اتهام فتح والقيادة المتنفذة في منظمة التحرير، بالمراهنة على الحلول الأمريكية، والبحث عن تسوية سياسية بأي ثمن، والإرتهان للأنظمة العربية الرجعية التي كانت تدفع الفلسطينين وتحثَّهم على الاندفاع في مشروع التسوية مع الكيان الصهيوني، فيما اتّهمت "فتح" الفصائل المعارضة بالتبعية تارةً للاتحاد السوفيتي أو الصين وتارةً أخرى لبعض الأنظمة العربية كسوريا أو العراق وليبيا، وبالرغم من أن العلاقات السياسية الفلسطينية سادتها لغة الاتهامات والتشهير، ووصلت إلى حد الاقتتال الداخلي في بعض المراحل، غير أن منظمة التحرير بقيت البيت الجامع للشعب الفلسطيني وفصائله، والإتفاق على الحدود الدنيا في لغة التخاطب وأخلاقيات الثورة والنضال. 

ولكن ومنذ التوقيع على اتفاقيات أوسلو، أظهرت ممارسات السلطة وسلوكها السياسي والأمني الكثير من العيوب والشوائب، وولَّدت المزيد من الشكوك في نواياها وخطابها، لا سيّما استدعائها للحوار الوطني الداخلي كلما استعصت عملية التسوية، وتبين مع الوقت أن قيادة السلطة ومنظمة التحرير، لا تلجأ إلى الداخل بهدف ترتيب البيت الفلسطيني وتشكيل جبهة داخلية تسمح بمقاومة المحتل ومشاريعه الاستعمارية على الأرض، وإنما يهدف التلويح لإسرائيل والولايات المتحدة واستخدام الحوار الوطني لتحسين شروط المفاوضات، وإعادة إنتاج شروط الاستئثار في السلطة، حيث سادت هذه المرحلة الطويلة لغة الاتهامات والتشكيك، فالفصائل المعارضة للتسوية تتَّهم السلطة بالتعاون الأمني مع المحتل وملاحقة المقاومة والتفريط بالحقوق والفساد، فيما اتهمت السلطة الفصائل المعارضة لها، وتحديدًا الفصائل الإسلامية بالتبعيَّة لإيران وسوريا ولاحقًا للإخوان وقطر وتركيا. 

لقد تجلت أزمة الثقة في مرحلة الانتفاضة الثانية حين فشلت الفصائل الوطنية والإسلامية بالاتفاق على الحدود الدنيا في الخطاب السياسي وأشكال المقاومة، وكيفية إدارة الصراع، وبقي الارتياب قائمًا بين مختلف الفصائل، وتمترس كل فصيل حول شعاراته وسلاحه ومواقفه، الأمر الذي حال دون إمكانية تشكيل القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة.

أما الحوارات الوطنية التي أعقبت الانتفاضة وصولًا إلى مرحلة الانقسام، فقد تبيَّن أنها كانت نوعًا من محاولات الاحتواء والهيمنة، ولا تهدف إلى ترتيب البيت الفلسطيني لتعزيز قدرة الشعب الفلسطيني على الصمود والثبات، وانتهت تلك المرحلة بالاقتتال بالسلاح وبروز الانقسام الوطني ولم تسفر سلسلة الحوارات الطويلة و الماراثونية منذ ذلك الحين وحتى اليوم في كسر دائرة الانقسام المفزعة، وبقيت حالة الشك والارتياب والتخوين قائمة بين الجميع.

وفي السنوات الأخيرة، وفي ظل انسداد أفق التسوية السياسية وتغول سياسات الاحتلال على الأرض، والإنحياز المطلق من جانب الولايات المتحدة لإسرائيل، تمثلت في إدارة ترامب وسياساته وخطته التصفوية المعروفة بصفقة القرن واندفاع عدد من الأنظمة العربية للتطبيع مع العدو، مما أدى إلى تفاقم أزمة مشروع التسوية وتفاقمت معها أزمة السلطة، وكذلك إخفاق الفصائل الأخرى عن بلورة البديل والمواجهة، وعندها أدرك الجميع أنه لا بد من الالتفاف للداخل فانعقد اجتماع الأمناء العاميين في بيروت، وتواصل الحوار الثنائي بين فتح وحماس، مما ولد شكوكًا لدى بقية الفصائل الأخرى بنوايا الفصيلين الكبيرين للمحاصصة والاستئثار بالسلطة، وتعززت الشكوك لدى الجميع في ظل التلكؤ، وإطالة الوقت، انتظارًا لما ستسفر عنه الانتخابات الأمريكية، وإذا بنا نعود إلى المربع الأول، في ضوء نتائج هذه الانتخابات، وإعلان السلطة عن استعادة علاقاتها مع الولايات المتحدة واستئناف التنسيق الأمني واستمرار المراهنة على المفاوضات ومسار التسوية، وتبخَّرت سريعًا سلسلة التصريحات والمواقف التي تعهَّدت بالقطع من المرحلة السابقة لتعود إلى لغة التشكيك والاتهامات والتراشق الإعلامي، فكل طرفٍ بات يرقب تصرفات الطرف الآخر ليتملص من دفع ثمن ترتيب البيت الداخلي ومواجهة الاحتلال. 

إن استفحال هذه الحالة من عدم الثقة والارتياب وجنون العظمة لدى العديد من القادة يُنبيء بتطورات خطيرة، وسيقود إلى تلاشي ما تبقى من ثقة بين الفصائل، وبالفصائل من زاوية الجماهير وانفضاضهم من حولها، سيسمح ببروز ظواهر وأمراض إجتماعية وانتعاش للعشائرية والزبائنية والتقوقع حول الذات.

إن على مختلف الفصائل تدارك هذه المخاطر، وإدراك صعوبة اللحظة السياسية، وخطورة تمدد المشروع الاستيطاني على الأرض، وهو ما يملي على الجميع التنازل وإعادة بناء الثقة وعدم اليأس بسبب الفشل في إحراز تقدم على صعيد إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، وإذا لم نؤمن بالشراكة الحقيقية فإن أحوالنا ستكون أسوء من حال النتيجة السياسية الفلسطينية عشية النكبة، علينا الانتباه قبل فوات الأوان.