كتب الأسير القيادي "شادي الشرفا"

"جلبوع: منطقة حمراء"

2d87c010-0888-44e6-b27d-658d3c794faf.jpg

في بيسان المحتلة، أمام شموخ جبل جلبوع، وفي قلب ساحة معركة عين جالوت التاريخية، حيث الدماء الجافة وصدى صليل السيوف، أُقيم معتقل جلبوع الصهيوني، ليتحدى التاريخ والحاضر وليذكرنا بمعسكرات الاعتقال والتجميع في إبان الحرب العالمية الثانية. هنا.. تشكل الأقفاص الحديدية شهادةً على مرارة التاريخ وكيف تتحول الضحية إلى جلاد، هنا.. في معتقل جلبوع يُحتجز حالياً نحو 360 معتقلاً فلسطينياً تحيطهم الجدران الشاهقة والسياجات الحديدية وأكوام الباطون المسلح إلى جانب أبراج وكاميرات المراقبة، كتلك التي تحدث عنها المفكر "ميشال فوكو" وسماها "البنابتيكون" والتي تعني رؤية كل شيء، والفكرة قائمة على أساس استخدام الهندسة المعمارية من أجل توسيع نطاق السيطرة على السجناء، فالبرج البارز بوضوح وظيفته جعل السجين يشعر بأنه مراقب على الدوام.

أربعة أقسام خُصصت في معتقل جلبوع لتكديس عذابات وآلام عشرات المعتقلين السياسيين بأحلامهم وقصصهم وذاكراتهم وعبثهم، بعضهم أمضى أكثر من ثلاثة عقود من دون أن ينال قسطًا لعناق شمس الحرية .. أو نصيباً مؤجلاً كون أغلبيتهم من المحكومين بالمؤبد يحملونه على أكتافهم إلى إشعارٍ آخر، ويجرُّون يومهم الثقيل على حواف مُدَدِهم ليطبعوا وصمة عار على جبين الصامتين في "العالم الحر" الذي انساق وراء سياسة نزع الإنسانية عن الفلسطيني الأصلاني في بلده الأم المستعمَرَ.

معاناة المعتقلين الفلسطينيين تأخذ منحى آخر في ظل جائحة كورونا، فسجن جلبوع صُنِّف "منطقة حمراء" نتيجة تفشي الفايروس بين المعتقلين، إذ سُجِّلت، حتى كتابة هذه السطور، 120 حالة مصابة في صفوف المعتقلين. وكغيره من المعتقلات الصهيونية التي تتوزع في جميع أرجاء الوطن المُستعمَر، تدَّعي ما يُسمى "إدارة مصلحة السجون" اتخاذ عدة إجراءات وقائية لمنع تفشي الوباء. لكن حقيقة الأمر مغايرة تماماً وسريالية في الوقت نفسه، فإجراءات التعقيم خجولة جداً - إن وجدت - ولا توفر إدارة المعتقل مواد تعقيم للأسرى، حتى الكمامة يشتريها المعتقلون على نفقتهم الخاصة وبأسعار تفوق السوق بأضعاف. وبدلاً من فرض التباعد وعدم الاختلاط، تواصل القوات الخاصة اقتحاماتها صباحاً ومساء لغرف الأسرى بحجة التفتيش، فيعبث السجانون بمقتنيات السجناء من دون أدنى مراعاة لإجراءات الوقاية، وكأنهم يتعمدون نشر الوباء بين صفوفهم.

أبرز ما يقال عن عام الوباء هو استغلال إدارة مصلحة السجون الظرف الوبائي لتعزيز انتهاكاتها بحق المعتقلين، وتجاوزها القوانين بشكلٍ ساخر، وقد سُجِّل اثنا عشر خرقاً جديداً لحقوق المعتقلين -ولا سيما في معتقل جلبوع- وهو ما يُشكِّل تحدياً للحركة الأسيرة من جهة، وضرباً للحقوق والمنجزات المكتسبة للمعتقلين، هذه المنجزات التي تحققت بعد معاركٍ حرب الأمعاء الخاوية الطويلة على مدار سبعة عقود.

ولتوضيح ماهية الانتهاكات، نورد الإجراءات الجديدة لإدارة السجون التي تدل على استهتارها في مواجهة كورونا، وسعيها لمواجهة المعتقل السياسي الفلسطيني عبر قضم حقوقه الطبيعية والمكتسبة:

1- تجميد التحويلات إلى المستشفى الخارجي لجميع الحالات الطبية التي تتطلب المتابعة، الأمر الذي يعني وقف تقديم العلاج لقطاع واسع من المعتقلين، ولا سيما الذين يعانون مشكلات صحية تحتاج إلى متخصصين تعجز عيادات المعتقلات عن توفيرهم.

2- تعليق زيارات المعتقلين لعيادة السجن، ومنع التواصل مع الطبيب (توفر الإدارة طبيباً واحداً لنحو 740 شخصاً، منهم 360 معتقلاً سياسياً بينما يتوزع الباقون بين الأسرى الجنائيين وطاقم السجانين) بحجة منع الحركة والتجوال في "المنطقة الحمراء" لذا يُترك المعتقلون الفلسطينيون من دون علاج أو متابعة طبية يصارعون أوجاعهم ويفاقمون إشكالاتهم الطبية حتى إشعارٍ آخر.

3- وقف علاج طبيب الأسنان والاكتفاء بتوزيع مسكنات للآلام، والمضحك هنا أن طبيب الأسنان في معتقل جلبوع يلقبه المعتقلون بالجزَّار، الأمر الذي يستحضِّر في ذهننا الدكتور (منغليه) الشهير النازي في معسكرات الاعتقال في الحرب العالمية الثانية. إضافة إلى تجميد فحوصات أخصائي العيون وهو ما يحرم المعتقلين شراء نظارات جديدة.

4- تأجيل زيارات ذوي الأسرى إلى إشعارٍ آخر، وهذا يعني الانقطاع عن العائلة كلياً، وعدم إدخال الملابس، وخصوصاً أننا على أبواب فصل الشتاء، ولهذا يحتاج المعتقلون إلى ملابس لتدفئة أجسادهم من البرد، كما أن تأجيل الزيارات يعني وقف إدخال الكتب التي تُشكّل الغذاء الروحي والمعنوي للمعتقلين.

5- تنص قوانين إدارة مصلحة السجون على ضرورة توفير التواصل مع أهل المُعتقَل في حال انقطاع الزيارة، لكن الرسائل ممنوعة خوفاً من أن تكون موبوءة، والمرة الأخيرة والوحيدة التي سُمح الاتصال مع الأهل كانت قبل أكثر من خمسة أشهر، ولعدد محدود من المعتقلين، إذ استُثني معظم الأسرى الذين ينتمون إلى حركتي "حماس" والجهاد الإسلامي والجبهة والشعبية لتحرير فلسطين.

6- فُرضت إجراءات خاصة بالنسبة إلى المسائل القضائية، فأصبحت المحاكمات تُجرى عبر (السكايب) وهو ما يُضعف تمثيل الأسير ودفاعه وتواصله مع محاميه. وعلى الرغم من أن المحاكم الصهيونية شكلية أصلاً ولا تختلف عن طبيعة المحاكم الكولونيالية عبر التاريخ، فإنها باتت مهزلة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

7- استُغلت الجائحة لمنع زيارات المحامين للمعتقل لمتابعة شؤون المعتقلين وقضاياهم.

8- وضع عراقيل أمام الالتماسات التي يرفعها المعتقلون ضد السجانين بشأن الانتهاكات اليومية بحقهم، وعلى الرغم من عدم التعويل على هذه الالتماسات إلاّ ما ندر، فإن السياسة الآن قائمة على تأجيل رفع الالتماسات بحجة عدم القدرة على إخراج المُدَّعي من المعتقل إلى المحكمة.

9- عندما اتخذت ما يسمى "المحكمة العليا" الصهيونية قبل عامين قراراً تاريخياً بتقليص عدد الأبراش لمواجهة الاكتظاظ داخل المعتقلات، شكَّل هذا القرار منعطفاً تاريخياً من شأنه تخفيف المعاناة ولو قليلاً. وقد حاولت وزارة الأمن الداخلي لسلطات الاحتلال استثناء المعتقلين الفلسطينيين، لكن من دون جدوى، ثم سعت للتأجيل بحجة الميزانية، وكان الموعد النهائي المحدد في نيسان/أبريل من هذا العام. وجاءت جائحة كورونا كهدية على طبق من ذهب لتتنصل الإدارة من تنفيذ القرار بالكامل.

10- وقف زيارات الأقسام، وهي الوسيلة الاجتماعية الوحيدة للتواصل بين المعتقلين، والتي تحققت كإنجاز بعد سلسلة إضرابات عن الطعام.

11- تعليق النقليات بين السجون بحسب رغبات المعتقلين، على الرغم من استمرار نقل المعتقلين عنوةً وقمعهم بحسب حاجات مخابرات السجون من دون الاكتراث بنقل العدوى.

12- وضع قيود على شراء مواد الكانتين وحرمان المعتقلين العديد من الأصناف الأساسية بحجة صعوبة التعامل مع الشركة الموردة بسبب سياسات الإغلاق خارج المعتقل.

طبعاً، لا تقر إدارة مصلحة السجون بالسياسة الممنهجة التي تقترفها بحق المعتقلين المضطهدين، كما لا يقر المُستعمِر بالمظالم التاريخية التي اقترفها بحق المضطهدين، فهم يتسترون وراء جائحة كورونا ولا تنفك الإدارة تضفي طابعاً عقلانياً على أعمالها وتبررها، كما يعقلن المُستعمِر كل وسائل العنف والاضطهاد بحق الشعوب المستعمَرة.

لا شك في أن حال المعتقلات الصهيونية تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، وتمعن الإدارة باتخاذ الخطوات التنكيلية بحق المعتقلين معتمدةً على دعم حكومي غير مسبوق وتجاهل دُولي فاضح. أمّا العامل الذاتي للحركة الأسيرة فيؤدي دوراً مركزياً في تمادي الإدارة بسحب المنجزات، فالحركة الأسيرة مفككة وتعاني شرذمة وتكلساً، وقد تفشت في جسدها جميع الأمراض الاجتماعية التي تفشت أصلاً في البنية السياسية الفلسطينية، إذ إن هناك علاقة جدلية بين الوضع الفلسطيني بصورة عامة والحركة الأسيرة بصورة خاصة.

أمّا الأمر الأكثر إيلاماً فهو شكلية تعامل المؤسسات الحقوقية القانونية الفلسطينية مع مجمل الانتهاكات، الأمر الذي يخيب آمال المعتقلين؛ فأداء السلطة وفعالياتها إلى جانب المجتمع المدني بشأن المعتقلين بات خالي المضمون ويعكس غياب الاستراتيجيات الفاعلة، وتطغى حالة من التكلس ورفع العتب على النشاطات في الخارج، فتراجع الاهتمام بملف المعتقلين الفلسطينيين وعجز المؤسسات الرسمية عن تدويل قضية الاعتقال السياسي ليس سوى انعكاساً للحالة الفلسطينية المتشظية ولضعف وترهل القوى السياسية وتراجعها.

سجن جلبوع، نوفمبر 2020


* شادي الشرفا، أسير فلسطيني من القدس، اُعتقل في نيسان/أبريل 2002 وأصدرت محكمة الاحتلال حكماً بحقه بالسجن لمدة عشرين عامًا بتهمة انتمائه للجناح العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. يعتبر من قيادات الحركة الأسيرة ووجوهها الكفاحية والثقافية والسياسية المعطاءة، حصل في السجون على شهادة الماجستير في العلوم السياسية/ دراسات إسرائيلية من جامعة القدس.