الأسير والرفيق ثائر حنيني من قلب زنزانته في سجن ريمون يكتب..

وتعود أمي على أجنحة الحلم، بقلم الأسير ثائر حنيني

IMG-20200525-WA0008

وتعود أمي على أجنحة الحلم..
في الذكرى العاشرة لرحيل أعز الناس
بقلم الأسير ثائر حنيني - مركز حنظلة للأسرى والمحررين

من أعماق الشوق الممتزج بالحزن اللذين يدوران ببطء أكون دومًا برفقة أمي، يتحول صدري لكهفٍ تقيم فيه، وكما يحتفظ الجبل بالصدى في داخله يقبع صوت أمي بداخلي، مع مرور الزمن يتحول الألم إلى حزن والحزن إلى صمت والصمت إلى وحدة، لتصحو بعدها الذاكرة بعدما تستفزها الحواس، الجدران الصلبة، الأسلاك الشائكة، الأبواب الموصدة، وهذه الروائح وكل شيء في هذا السجن يعود بي سنوات للوراء، كل ملامحها وقسمات وجهها كانت صافية كما في المرة الأولى، كما في شبابها، فتحت ذراعيها على آخرهما وكأنها كانت ترغب أن تأخذ كل شيء معها، ضمتني بقوة وكنت أعرف أنني كنت أحضن نوراً، لكنني أحس بجسدها وبخفقات قلبها وبحنانها كما تعودت عليه دائمًا، سمعت صوتها كأنه نايات ألحان يأتي من بعيد ممزوجًا بخفقات القلب وتمزقات الحنين، ناعمًا مليئًا بالدفء: "أصبر يا ولدي، ولا تخلي سرطان الاحتلال يقتلك مثل ما قتلني سرطان المرض، أنت أقوى وأصلب، اتحمل ورح تنتصر عليهم، أنا جيت أسلّم عليك لأني ما بقدر أروح بدون ما أودعك" ، ثم رفعت شعري وقبلت جبيني كما تعودت أن تفعل عندما تراني   أغادر، لا يمكن أن أذهب بدونها ثم شعرت بحرارتها ودفئها، أدركت لحظتها أن ما كان ينقصني هو هذا بالظبط، لحظة حنان، لحظة صدق، لحظة حب ممزوجة بالإرادة والقوة والصبر، ثم انسحبت كما فعلت في المرة الأولى غابت ثم أغلقت دفتا الباب بنعومة وبدون أن تحدث أي ضجيج كأنهما جناحا فراشة ينكفئان على بعضهما، وفجأة زال الألم الذي كان يعتصر بقلبي،،،

          هكذا هي الأحلام تنسحب بصمت مثلما جاءت بدون ضجيج على إيقاع نحيب خافت لأمٍ دفنت بقلبها منذ أكثر من عشر سنوات جراحها وابنها الذي انتظرت ولم يعد، وكأنها تدرك تمامًا كم أنا بحاجة لجرعة صبرٍ إضافية، لزاد الإرادة، لأنه يخيل لها أنه لم يعد بوسعي مواصلة الحياة، كأن نور روحي قد انطفأت، وأنني سأعيش في الظلام للأبد، هذا هو شعور الأم بابنها، هذه هي العلاقة الوجدانية بين الأم وابنها الغائب.

فعندما يقترب أن يبتلعك الظلام وتطبق عيناك على العالم، يأتي الحلم ليفتح عين ثالثة في قلبك، عندها فقط ندرك أن البصر يتناقض مع المعرفة الداخلية، فلا يمكن لعين أن ترى بوضوح مثل عين الحلم، وبعدها يأتي فصل آخر، أنت آخر، وعندها تبدأ برؤية الحلم الذي يمكن أن تجده في أي مكان تراه، في المطر، في قطرة الماء التي تسقط في المد الذي يلي ظهور القمر أو نسيم الصبح الذي ينشر رائحته النقية، في الرموز والأشكال "التي تتشكل في الرمل وفي الجزيئات الصغيرة لصخرةٍ تتألق تحت أشعة الشمس في ابتسامة رضيع حديث الولادة، أو في أحد عروقك النابضة وبعدها لا يمكنك القول أن الأم قد تموت، كيف! وهي موجودة وفي كل شيء.

ليتغير كل شيء حتى العلاقة بالوقت لا أعرف بالظبط كم مر من الزمن بين اللحظة والأخرى، ثم فتحت عينيّ أخيرًا، تتسرب خلالات النور من وراء الأسلاك الشائكة المحادية للأسوار العالية، حيث انمحى كل شيء، بما في ذلك أنا، أو هكذا بدا لي على الأقل، وجزءٌ مهم مما كان يحيط بي، وفجأةً أستفيق على صرخات السجان وهو يقول "عدد، عدد، عدد،..."

       إذًا هذه هي الحياة داخل السجن، قوس طارئ في جملة، فعندما نبدأ بالكتابة التي هي عبارة عن رعشة الألم الخفيفة التي نخبئها عن الآخرين حتى لا يلمسوا حجم المأساة وحجم صراخات الكلمات المذبوحة بنصلٍ صدأ، لتكتشف أنك تتحدث عن كل النداءات التي كانت تأتي من أعماقك، التي هي مزيجًا من صرخاتٍ قديمة وألمٍ فقد كل تعريف، لتهدأ وتبدأ بالتخلص من هذه الحمم التي تتدفّق داخل القلب والذاكرة بإعصارٍ من نار...

وأخيرًا..
أعلم أني اكتب عن وجع ابنٍ فقد أمه وهو داخل السجن ولم يتسنى له القيام بواجبه لوضع قبلته الأخيرة ولإلقاء نظرته الأخيرة، لكن ما دفعني للكتابة هو حجم الألم والحزن الصامت الذي يظل يهمس بالقلب حتى يحطمه، وإلا فمن يرغب بقراءة نص مليء بكل هذه الأوجاع، وقد يستغرب البعض استرسالي في الكتابة، هكذا هي الأشياء التي تشدنا بقوة هي التي نُجيد الكتابة عنها، ونتمنى لو أن بوسع الكلمات أن تتسع لتتحمل ثقل ما نحس به.

في الذكرى العاشرة لرحيل أعز الناس
ابنك الأسير: ثائر حنيني
28/5/2020