الأسير محمود أبو وهدان من قلب زنزانته في سجن نفحة يكتب

"أنا كمان زهقان"، مقالة جديدة بقلم الأسير الرفيق محمود أبو وهدان

FB_IMG_1586533336317

أنا كمان زهقان - بقلم الأسير محمود أبو وهدان- خاص مركز حنظلة للأسرى والمحررين

بعد أن أعلنت الحكومة الفلسطينية في 23 من آذار عن منع الحركة للمواطنين الفلسطينيين داخل المدن والقرى والمخيمات، وكافة التجمعات السكنية، ودعت أبناء شعبنا الالتزام بمنازلهم في خطوة استباقية، للحد من انتشار وتفشي فيروس كورونا الذي اجتاح العالم أجمع وأصاب أكثر من مليون ونصف المليون شخص وحصد أرواح عشرات الآلاف عبر العالم، وعليه كان لزامًا على الحكومة الفلسطينية اتخاذ هكذا إجراءات وقائية حفاظًا على أرواح أبناء شعبنا، في ظل إدراك الحكومة لمدى ضعف القدرات والإمكانيات لدى وزارة الصحة لمواجهة هكذا أوبئة، في الوقت الذي انهارت فيه أكبر المؤسسات الصحية في أكثر الدول تطورًا وتقدمًا في العالم، كإيطاليا، وإسبانيا، وفرنسا، وفي ولاية نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية.

إن ما قد أقدمت عليه الحكومة الفلسطينية من إجراءات وقائية استباقية لكبح تفشي المرض، يعد خطوة متقدمة تُسجّل في رصيدها، ويجب الإشارة بها وتثمين دورها في إدارة الأزمة بالرغم من كل التداعيات الاقتصادية التي ستلحق الضرر الكبير في الاقتصاد الفلسطيني المتهالك أصلًا، وفي ظل غياب الإيرادات لخزينة الدولة، في الوقت الذي تعاني فيه الحكومة من عجز كبير في الميزانية، تبقى سلامة المواطنين والحفاظ حيواتهم تشكّل الأولوية العليا والأساسية في انتهاج هذا الطريق، ومع ذلك تبقى هذه الإجراءات عاجزة عن تحقيق أهدافها إذا لم يلتزم بها المواطن الفلسطيني ويتحمّل المسؤولية الوطنية الملقاة على عاتقه لخلق حالة من التكامل ما بين المستويين الرسمي والشعبي لدرء المخاطر المحدثة لشعبنا، وبلوغ شط الأمان للخروج من هذه الجائحة، بأقل الأثمان والخسائر البشرية، فالمواطن الفلسطيني هو أغلى ما نملك، والحفاظ علي حياته يُشكّل رأس حربة في مواجهة الاحتلال الصهيوني.

إلّا أنه للأسف الشديد، هناك فئة من المستهترين الذين لا يدركون كارثية هذا الوباء إذا ما تفشى في المجتمع الفلسطيني، فهذه الفئة تتصرف بدون أدنى مسؤولية عندما تنضرب بعرض الحائط قرارات الحكومة الفلسطينية، وتتجول في الشوارع، وتنتقل من مكان لآخر، ومن بيت لبيت، إن هذه الفئة المستهترة، المنغمسة في ظلمات الجهل، هم أعداء لأنفسهم أولًا، ولعائلاتهم وأبناء شعبهم ثانيًا، كونهم يُشكلون أداة قتل متنقلة، وكما أنهم بصورة تلقائية وبدون إدراك، يُشكّلون أداة في يد العدو الصهيوني، الذي يسعى جاهدًا للقضاء على وجود الشعب الفلسطيني بكل الوسائل، من قتل وتهجير وتشريد بهدف التخلص من شعبنا الصامد، فالفلسطيني الجيد من وجهة نظر الصهاينة هو الفلسطيني الميت، لذلك لايجب أن نسمح لهذه الفئة المستهترة الجاهلة بأن تكون يد العون للاحتلال الصهيوني في ضرب قدرتنا الصحية ذات التأثير المباشر على كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

لربما تكون هذه الكلمات شديدة الوقع على آذان البعض، وتكون محط انتقاد، إلا أنني أرى أنها لا تساوي دمعة تذرفها عين على فقدان فلسطيني واحد، فأنا من خلال الإذاعات المحلية التي أتمكّن من أن التقطها داخل زنزانتي، بعد جهدٍ جهيد، أستمع إلى آراء البعض الذين يحاولون إيجاد الذرائع وتقديم الحجج لتبرير عدم الالتزام بالقرارات الحكومية والبقاء بالبيوت، ويدّعون بأنهم لا يقدرون على المكوث في المنازل 14 يومًا أو شهر، ويرددون عبارة "زهقنا من قعدة البيت"، فقد أصبحت "زهقنا" العبارة الأكثر شيوعاً في هذه الفترة الحرجة التي يمر بها شعبنا الفلسطيني والعالم أجمع، وأنا أقول للجميع بأن عبارة "زهقنا" أرحم كثيرًا من عبارة "يسلم راسك" أو "عظم الله أجرك"، أشاركهم الرأي يأن المكوث في المنزل يُسبب الزهق، فأنا كمان زهقان من المكوث بزنزانة السجن 18 عامًا متواصلة والتي تُشكّل جزءًا بسيطًا من مجموع محكوميتي البالغة 3 مؤبدات و30 عامًا، إلّا أن هناك فارق كبير في ظروف ومقومات الحياة التي أعيشها في زنزانني والتي تعيشونها في بيوتكم.

أنتم تمكثون في بيوتكم بين عائلاتكم، سواء العائلة النووية أو العائلة الممتدة، دون أن تقيد حريتكم بعشرات الجدران والأسوار، التي تحجب نور الشمس، فتمنعها من التسلل إلى بيوتكم، ودون المئات من القضبان الحديدية والأسلاك الشائكة التي تُطوّق بيوتكم كما هو الحال بزنزانتي، تنامون وتستيقظون في الوقت الذي تريدونه وتحتاجونه، فلا عدد صباحي يجبركم على الاستيقاظ قسرًا من النوم في كل فجر عند السادسة صباحًا وتقفوا متسمرين على أقدامكم أمام عدوكم وعند الظهيرة، وفي المساء تكررون ذات المشهد، ولا تكونون على الفحص اليومي صباحًا ومساءً في غرفكم تُجبرون فيها على مغادرة غرفكم إلى غرف أخرى لحين انتهاء الفحص، ولا غرف مغلقة عليكم بالأقفال تمارسون فيها نشاطاتكم اليومية بمشاركة 5أو7 أشخاص آخرين، لتُشكّل لكم هذه الغرفة المكونة من بضع أمتار مربعة عالمكم بأكمله، ففيها تطبخون وتأكلون وتغتسلون، وتقضون حاجاتكم كلها بدون أدنى خصوصية، كون مصطلح الخصوصية غير وراد في قاموس مصطلحات الأسر، فبيوتكم ليست كزنزانتي مستباحة في كل الأوقات.

يكفيكم أنكم بين عائلاتكم، تنعمون برؤيتهم، وتشعرون بدفء مشاعرهم، تتبادلون أطراف الحديث معهم، تجتمعون معًا على مائدة الطعام، أما أنا وباقي رفاقي في الأسر، بعيدين عن عائلاتنا، ونتوق لرؤيتهم، ونحترق اشياقًا لهم، ونحلم بملامستهم ولقاءهم، حتى وإن كان هذا اللقاء خلف الزجاج العازل في قاعة الزيارة، أنتم تملكون كل وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي وأحدث الأجهزة الخلوية، وكل وسائل الترفيه، ونحن منعزلين عن العالم الخارجي وعن عائلاتنا، إلا من بعض الإذاعات المحلية التي نسمع من خلالها الأخبار وأحيانًا أصوات عائلاتنا للاطمئنان عليهم عبر برامج الأسرى التي تبثها هذه الإذاعات، إلى جانب 10 محطات تلفزيونية انتزعناها بأمعائنا الخاوية خلال الإضرابات المفتوحة عن الطعام، فأنا وكل رفاقي في الأسر ضحينا ونضحي في أجمل سنين عمرنا وفي كل يوم نتذوق مرارة وعذاب وحرمان وألم الأسر، ليحيا أبناء شعبنا بحرية وكرامة وصحة وعافية، ونحن نضحي لينعم شعبنا بالحرية ولنبني مستقبل أفضل لأطفالنا.

أما أنتم أيها المستهترون، تُدمرون كل ما عُمّد بدماء الشهداء وعذابات الأسرى، تقتلون شعبنا الذي ضحينا بالغالي والنفيس من أجل أن يحيا، إنّي أسألكم، أما آن الآوان لتكونوا عامل بنّاء في المجتمع لا عامل هدّام وقتل؟ المطلوب منكم ليس بالشيء الكثير، فقط ابقوا في بيوتكم والتزموا بقرارات الحكومة الفلسطينية، لتحافظوا على حياتكم وحياة عائلاتكم وأبناء شعبكم، فالحياة لا تُمنح إلا مرة واحدة، فحافظوا عليها.

بقلم الأسير محمود أبو وهدان - سجن نفحة 
13/4/2020