الرفيق الأسير الشاعر كميل أبو حنيش يكتب سلسلة من الحلقات بعنوان

وقفات مع الشعر الفلسطيني الحديث

العنوان العام

وقفات مع الشعر الفلسطيني الحديث

الحلقة الثانية: ثنائية الماء والنار في ديوان شغف الأيائل للكاتبة عفاف خلف

 

كانت رواية لغة الماء للكاتبة الفلسطينية عفاف خلف هي بداية إطلاعي علي كتاباتها وتعارفي بها، اذا استوقفني عنوان الرواية في البداية، ومن ثم ما تضمنته الرواية من أحداث تروي حكاية اجتياح السور الواقي الصهيوني لمدينة نابلس في نيسان 2002، لا سيما وأنني كنت شاهداً على أحداث ما تضمنته الرواية وتناولها لتفاصيل الأحداث ومقاومة الإجتياح.

أما كتابها الثاني والمشترك مع الشاعر الفلسطيني مازن دويكات فقد كان نصاً أدبياً جميلاً  حمل عنوان ( حرائق البلبل على عتبات الوردة )، وهو حوار أدبي شيق جمع بين الكاتبين، ولعل  المدهش في هذا النص تماهي لغة الحوار بين الكاتبين إلى  حد التطابق، فضلاً عما تضمنه من النصوص الشعرية متأثراً بالميثيولوجيا ومعتقدات الشرق القديمة وتجريبية الحوار ما بين الأنوثة الكونية والذكورة الكونية.

أما كتابها الثالث فقد حمل عنوان شغف الأيائل الذي طالعته عدة مرات وأدهشني بجرأته وجمال نصه الأدبي وعمقه. فهذا النص النثري الرائع يحمل في طياته تجريدية الشعر ودلالاته وأسلوبه، إلا أن نصوصه تلامس الشعر من ثم لا تلبث أن تنأى نحو النثر. أما عن مضمون هذه النصوص فهي من ألفها إلى يائها ملحمةً تتحاور فيها الأنوثة الكونية مع الذكورة الكونية. متأثرةً بالنصوص الصوفية حيث تفوح من بين النصوص فلسفة ابن عربي في وحدة الوجود، وحلولية الحلاج، ونصوص المتصوفين الآخرين كالجيلاني والبسطامي. كما تتأثر هذه النصوص بعدد من الآيات القرآنية، فضلاً عن تشبع النصوص بالأساطير الشرقية لا سيما أساطير بلاد الرافدين ومصر والأساطير الآرامية والكنعانية والفينقية وأساطير الخليقة القديمة كجلجامش، الإينوما ايليش، والآلهة ديموزي وإنانا، تموز وعشتار، وبعل وعناه، وأدونيس وعشتروت.

وكما أسلفنا فإن هذه النصوص بين دفتي شغف الأيائل تروي العلاقة القدرية بين الذكورة والأنوثة فاستخدمت الكاتبة رمزي الماء والنار كدلالة على الخصب والظمأ كعنصرين نقيضين، لا يمكن أن يتمازج أحدهما مع الآخر إلا ويكون الانطفاء والفناء، فجمعت الكاتبة بين العنصرين في نصوصها لينبثق نتيجة لهذا التزواج الحياة بكل خصبها وجذوة نارها المشتعلة فجمعت الخصب والإرتواء والحياة مع الظمأ والشغف والإنطفاء.

فلعل الكاتبة متأثرة بالأساطير القديمة في بلاد الرافدين ومصر التي اعتبرت الماء هو بداية الوجود فضلاً عن اتكائها على بعض النصوص التوراتية والقرآنية. أما عنصر النار فقد استخدم في النصوص كدلالة على الشغف والظمأ ونقيض للماء. فالماء والنار يتناوبان على النص فتارة نجد الماء رمزاُ للأنوثة وتارة أخرى للذكورة وكذلك النار ثم انقلابهما وتمازجهما معاً في النصوص ليلتحما معاً وينصهران وينطفأن ثم تبدأ صيرورة انبعاث الحياة نتيجة لهذه الجدلية.

   ورغم أن النصوص تكرر ذاتها ولا تنطق بغير مضمون العلاقة بين الذكورة والأنوثة إلا أنه تكرار لا يبعث على السأم ويأتي دائماً بما هو جديد على صعيد الصورة الفنية والرمزية.  كما أنه نص متوتر ومتوحش وهائج لا يعرف الاستقرار تتقاذفة أمواج بحرٍ متلاطم من المياه والنيران دون أن يكون بوسعه الرسو على شاطىء، وما يجمع بين هذه النصوص هو ذاك التوقد والشغف والظمأ الوجودي  لتحقيق غاية الارتواء والخصب والفناء والإنبعاث من جديد.

سنتناول في البداية رمزية الماء ودلالاتها في النص ومن ثم رمزية النار ثم التمازج المدهش بين النقيضين

أولاً: الماء/ الخصوبة

سنلاحظ في هذه النصوص الواردة تأثر الكاتبة وتمثلها لبعض النصوص الدينية التوراتية والقرآنية، فضلاً عن استيحائها لأساطير الخصب والخليقة البابلية والسومرية والشامية إلى جانب تأثرها بالنصوص الصوفية لا سيما ابن عربي والحلاج  فقد استوحت الكاتبة في افتتاحية ديوانها نصين دينيين، الأول يشكل فاتحة التوراة التي تؤكد على أولوية الماء كعنصر أولي في الخليقة، كما استوحت أول آية قرآنية لتؤكد من خلال هذين النصين على أولوية الماء في الطبيعة، وكأنها تود أن تقول إن غاية الوجود هوالوصول إلى الارتواء والخصب والولادة، الأمر الذي ينطوي على أولوية الأنوثة الكونية، وكما سنرى لاحقاً  فإن هذه الغاية في الارتواء والخصب هي ذاتها في حالة شغف واشتعال للوصول إلى هذه الغاية، فالوسيلة هي الغاية والغاية هي الوسيلة وكلاهما سبب ونتيجة في آن معاً، لنتأمل في النص الأول:

وكيف البدء
وقد رفَّ وجهُك
على الغمر
وكيف لا " أكون "
لا " أصير "
ومشيئتك محض أمر! "ص6"

 

إن هذا النص مركب ومتأثر بنصوص توراتية وأخرى قرآنية، فالآية الافتتاحية التوراتية تقول " في البدء خلق الله السماوات والأرض وكانت الأرض خربة وخالية  وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه الماء"  (سفر التكوين الأصحاح الأول / الآية الأولى ).

الماء هو أصل الخليقة وبداية التكوين وحسب الدراسات الحديثة فإن هذه الافتتاحية التوراتية اقتبست أساطير الخليقة الشرقية السالفة السومرية والبابلية والمصرية التي كانت ترى في الماء أصل الوجود.

عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء

وفي الأسفل لم يكن هناك أرض

لم يكن سوى آبسو أبوهم

وممو وتعامة التي حملت بهم جميعاً

يمزجون أمواههم معاً " أسطورة التكوين البابلية / لغز عشتار "

كما يتضمن النص الوارد أعلاه فعل الكينونة الوجودية حين تقول الكاتبة " فكيف لا اكون، لا أصير " وهو أيضاً يتكأ على نص توراتي مرتبط باسم الإله يهوه الذي أجاب عندما سأله موسى عن معنى اسمه فأجابه " أكون الذي أكون "  وهي إجابة لا معنى لها سوى التأكيد على فعل  الكينونة، أما ما قصدته الكاتبة " ومشيئتك محض أمر " فهو ربما يستبطن الآية القرآنية " يقول له كن فيكون "  وبهذا تكون الكاتبة في هذا النص قد استخدمت الماء كدلالة على الكينونة الأمومية الكونية الخالقة.

وتعيد الكاتبة التأكيد على أولوية الماء في الوجود دلالة على الخصب والرحم الكوني متأثرة بأول آية قرآنية حين تقول:

قال: إقرأْ
ومسْ قلبي
بأصابعه
وكأنه النهر
يجري

والروح منابعه " ص7 "

 

والآية القرآنية الأولى التي استبطنتها الكاتبة تقول " اقرأ باسم ربك الذي خلق" فالكاتبة استخدمت فواتح الكتب الدينية التوراة والقرآن للتأكيد على أولوية الماء وما ترمز له من الأمومة والأنوثة الكونية التي غايتها الخصب والارتواء. ثم تجري الكاتبة حواراً شيقاً ما بين الأنوثة والذكورة الكونية المجردة، وسنرى كيف تتناوب رمزية الماء تارة للذكورة وتارةً أخرى للأنوثة، فتقول الكاتبة على لسان الذكورة:

وكان أن رأي ظلها في المرايا، حيثما تسير سال الضوء، وكان يلملم ما تناثر:

 

صيّرتني في الوجدِ

صوفيّاً

يبحث في معناك

عن معناه

وكأنني ذرة الماء

إذ جاءت اقتباساتٌ

وكأني لظلك

المرآه " ص9 "

 

في المرايا أي في اللاوعي المتراءي في أعماق الذاكرة العميقة أو القاع الكلي للوجود، تتراءى الأنوثة الكونية وتتسايل كما يتسايل الضوء أو الماء وتنبعث على شكل شذرات تلمع من بعيد، وهو ما يحفز الذكورة للبحث عن معنى وأصل وجودها في معنى وأصل الأنوثة.  وحسب هذه الرؤية فإن الأنوثة / الأمومة الكونية هي الأصل والمصدر، فيما الذكورة مجرد ذرة ماء في محيط الأنوثة، إنها النطفة التي تُلقح الرحم الكوني للوجود فتنعكس الذكورة في معنى الأنوثة، وتتراءى الأنوثة في معنى الذكورة كالمرآة التي تعكس الصورة وظلها، فيبدو معنى الذكورة كامناً في معنى الأنوثة الأوسع.

وفي نص آخر على لسان الأنوثة:

أعتقني

أو اعتنقني

توّحداً

لا ثالث لنا إلا الهوى

هات لنا

كأساً هنا

ستّشف عظامنا ولهاً

ويشي بنا بلورنا

راحٌ وروحٌ نرتوي

ونسّد من سغبٍ

ببعضٍ جوعنا " ص10 "

 

يكاد هذا النص يستوحي أنصار فلسفة ابن عربي في وحدة الوجود والعلاقة التواشجية القدرية بين الذكورة والأنوثة. وكما يرى نصر حامد أبو زيد في كتابه دوائر الخوف أن فلسفة ابن عربي ترى أن العامل المحرك للتجليات الإلهية هو الحب، فالحب هو الباعث للتجليات التي ليست سوى إظهار الباطن ومنه تتوالد مراتب الوجود بعضها من بعض، ويكون الحب هو الرابط بين مركبة تُلقي ومركبة تتلقى، أي الذكر والأنثى ويكون الناتج عن النكاح بذور مركبة كانت باطنة في المراكب التي سبقتها. " ص34 "

ويرى ابن عربي أن الحب الإنساني شرط لتذوق الحب الإلهي فإنه يعتبر الوعي بعملية اتصال الذكر بالأنثى من شانه أن يثير وعي الإنسان بعملية الخلق الأولى."  ص35 "

وفي كتابه هكذا تكلم ابن عربي يقول نصر حامد أبو زيد: أن الحقيقة في ذاتها واحدة لا تتعدد ولكنها تتشكل وتتلون مثل الماء الذي يأخذ شكل الإناء الذي هو فيه ويتلون بلونه، وهذا رغم أن الماء في حقيقته لا شكل له ولا لون ويبحر ابن عربي في اختيار هذا النموذج أي الماء والإناء. " ص125 "

وينسب هذين البيتين إلى المتصوفين ويستخدمهما ابن عربي في أمثلته وكتاباته:

رّقِ الزجاج وراقت الخمر

فتشابها، وتشاكل الأمرُ

فكأنما خمرٌ ولا قدحٌ

وكأنما قدحٌ ولا خمرُ

واستشهاد المتصوفين بهذين البيتين دلالة على استحالة التمييز بين الظاهر والباطن، وبين الذات والموضوع. فصفاء الخمر يمثل الحقيقة في صفائها حيث لا شكل ولا لون، ورقة زجاج الكأس يمثّل قلب العارف الذي حلت به الحقيقة في صفائها، ( وما في الجبة إلا الله ) كما قال الحلاج، أو ( سبحاني ما أعظم شاني ) كما يقول البسطامي. وبالعودة إلى نص الكاتبة حين تقول " اعتقني أو اعتنقني " فهذا الاعتاق أو الاعتناق ينطوي على الحرية والعبودية في آن معاً، وكأنها تقول حررني واعبدني والعبادة تعني الامتزاج وتوحد الذكورة بالأنوثة بفعل الحب بحيث يصبح الجسدان جسداً واحداً. وحين تقول: " تشف عظامنا ولهاً ..."كأنها تتمثل الأبيات الشعرية الصوفية السالفة الذكر " رق الزجاج وراقت الخمر" وبهذا تغدو الذكورة والأنوثة قد حققت غايتها في الالتحام بهدف الإرتواء " راح وروح نرتوي " وينطفىء الشغف والإشتعال ويتحقق الامتلاء والارتواء والخصب.

وعلى ما يبدو تمثلت الكاتبة ما قاله الحلاج:

روحه روحي

من رأي روحين

حلّت بدنا

فالراح والروح لدى الحلاج هي الماء والإناء لدى ابن عربي وبقية المتصوفين، وما يجمع بينهما الصفاء وعدم القدرة على التمييز بين الروح والراح وبين الخمر الصافي وكأس الزجاج، والماء يضفي له لوناً مكتسباً من لون الإناء.

لكن فلسفة ابن عربي ترى في أولوية الذكورة على الأنوثة وأن الأنوثة مجرد أداة لإثارة وعي الذكورة في أصله الإلهي، فيما الكاتبة تؤكد في نصوصها على أسبقية الأنوثة وأن الذكورة مجرد أداة لتحقيق غاية الأنوثة في الخصب واستمرار الحياة. لنتأمل هذا النص:

سأقول: خرجتُ من زبد أصابعها بعد أن لقحّتها الحروف فأخصبت " ص5 "

فالكاتبة تتبنى روح فلسفة التصوف لدى ابن عربي غير أنها تقلب المعادلة وتُبقي العلاقة المقدسة بين الذكورة والأنوثة، فالزبد هو زبد ماء البحر والأنثى هي الطبيعة التي خرجت الكائنات من رحمها الى الوجود، غير أن الأنوثة لا تملك فعل الإيجاد والخلق والكينونة دون لقاح. فالطبيعة الأنثى لم تنشأ من تلقائها وإنما احتاجت إلى إخصاب عبرت عنه الكاتبة بصيغة الحروف، وهو تعبير لا ينطوي على الذكورة وإنما على عامل خارجي أي إلى مؤثر ميتافيزيقي فتتلقح الأنوثة فتخصب وتلد الذكورة ثم تعود وتتمازج معها ليتواصل نهر الحياة.  فالذكورة كامنة في الأنوثة والأنوثة تجد معناها ومبرر وجودها في الخصب الذي يجد وسيلته في الذكورة. لذا نجد الكاتبة في نص آخر تستخدم أسطورة نرجس الإغريقية وتذيبها وتسكبها في قالب صوفي:

جاهداً كان يبحث عنها خارجه، كان يبحث في المرايا، في الماء، في ظله في النهر، في روحه، في معناه:

 

ولأنكَ فيّ

ما عُدّتُ

أرى في الروح

من روحٍ

سواك " ص10 "

 

وتحاول الكاتبة الإيحاء أن نرجس لم يعشق صورته في الماء، وإنما عشق الأنوثة الكامنة في هذه الصورة فهو لم يرها خارجه فبحث عنها في مراياه، في أعماقه، وآواره، وفي صفحة الماء، وفي صورته في  النهر، وفي روحه.  فالصورة التي عشقها هي الأنوثة الكامنة في صورة الذكورة ولم يعشق ذاته لذاته، وإنما عشق الأنثى التي تشع في ذاته وما تنطوي عليه من الأمومة والحب.  فكمون الأنوثة في الذكورة يشبه كمون الماء في الزهور والأنوثة تكمن في زهرة النرجس الذكري كما الماء في الزهر ولا يمكن لأحدهما الحياة دون الآخر. وفي نص آخر تقول:

ينسكب فيها

تنسكب فيه

والمراق نهر ذكريات

يجري لمستقر له / لها " ص17 "

 

إن تمازج مياه الذكورة بمياه الأنوثة الكونية ينشأ عنه الخلق " نهر الذكريات " أي نهر الحياة الذي يجري ويصب في الرحم الكوني كمستقر لانفجار نبع الحياة وجذوتها المشتعلة الدائمة، وأثناء الالتحام تضيق الفوارق  بين الذكورة والأنوثة.

ولا تزال الكاتبة تغزل على نول أسبقية الأنوثة ففي هذا النص تقول:

وأتاه هاجس الغيم:

" كُنْ فلكاً في مدار امرأة "

أو بعضَ ما تناثر من غيمها " ص29 "

 

والهاجس هو الحدث الذي يلمع في أعماق الذكورة حين أثارت الأنوثة فالغيمة أم المطر وهي نبع الوجود الأولي والذكورة هي امتداد للأنوثة وينبغي أن تظل تدور في فلكها، ثم تواصل الكاتبة التأكيد على ذات الموقف:

كتب لها، البارحة وقد كنتُ أذاكرُ وجهك، فضتِ عليّ وصرتُ أطوف حولي:

ملء الروحِ أنتِ

إن فاضتْ

تبّدا وجهُكِ " الرحمنُ " ص34 "

والإفاضة هي إفاضة الماء والنور وكلاهما يرمزان على الخصب فالذكورة تحبس الأنوثة الكامنة في أعماقها التي تملء روحها كما تمتلئ الراح وتفيض ثم ترد الأنوثة بالقول:

وجرحك نقشٌ على الدم، يكتبُ الماء بالماء ويتركني سراباً، من قال السراب يستوطن الصحراء، السراب خلايايّ في غيابك وقد تراءيتَ حتى ظنتْك ماء.. آواه كم أعياها فيكَ السراب. " ص41 "

والخلايا هي الجسد المتعطش لمياه الذكورة لتحقيق غاية الخصب، والذكورة في غيابها حاضرة على شكل سراب وأوهام وأحلام وشغف وظمأ وهو ما يجعل الجسد أشبه بالبيداء الجافة متعطشاً للماء. وتعيد التأكيد على شغف الأنوثة للماء في النصوص التالية:

صلوا استسقاءً

صليتُ لعينيك " ص53"

**

يستقي من عينيك
يشرب
كيف أنت
أما زلتَ مشغولاً
من عناصرنا
فيض ماءٍ
ضياءٍ "
ص53 "

**

استرحْ
فقد كنتُ أبحثُ فيك
عن الفرات " ص55"

العيون هي الينابيع المائية الأزلية التي تنشدها الأنوثة بغرض الخصوبة فهي تبحث عن الماء ولا تكّل، غايتها الخصوبة وهو مبرر وجودها الكامل، فتؤكد على ذلك مرة أخرى:

غير أني مصب لنهرك " ص62 "

الأنوثة رحم كوني في انتظار مياه الذكورة وهي أيضاً لا تنشد الخصوبة كغاية مجردة وحسب وإنما تبحث عن الحب الذي يغمر الأنوثة ويكون هذا هو العامل المحفّز للالتحام وانبثاق الحياة وازدهارها:

أقولُ: أغرقُ فيكَ
لأني..
حوتني " أناكَ " " ص63 "

وأيضاً

يا عطر الأرض المضمخ
بالحبق
يا فتنة الغابات وقد
راودها النهر
فاستطاب في دمها
الغرق " ص 68 "

وأيضاً:

           وأشتهي فيك الغرق

 وحدّثني عنه
سالت ملامحي
من أصابعه
سكنتني عيناه "ص75 

إن هذه الأناشيد الشبيهة بأناشيد عشتار وهي تناجي الإله تموز، وتغريه بكل أسباب الإقتراب لكي تزدهر الحياة وتواصل جريانها. إنه الغرق في الحب الذي يستدعي التمازج والالتحام ليلد الحياة غير أنها حين تقول: " سالت ملامحي من أصابعه" تكون الذكورة هي الأصل ومنبع الماء وهو ما يناقض النص السابق الذي جاء على لسان الذكورة " خرجتً من زبد أصابعها " ص5.  وتواصل الأنوثة غناءها ونشيدها المتعطش للخصوبة:

قلبي الذي

قُد من

صخرٍ ترقق

أنت الماء

الذي يحيا

به

ألا فَجُدْ

وترقرق " ص78 "

وفي نص آخر تبدو فيه الأنوثة في ذروة تعطشها للذكورة:

لا قدسية

للماء بعدك

أهرقني

هذا أنا                             

متداخلٌ فيَّ

أنتَ

لو ناجيتني: هيتَ

لقلتً: لك " ص78 "

 

ثم تعود الكاتبة للتأكيد على أصل الماء في الوجود:

وكم سيفيض فينا الماء

حتى بما فاض منا
 تعمدّوا

ويقول: خذوا عني مناسككم

حتى إذا ما أضلكم هجرٌ

بعشقي اهتدوا" ص108 "  

 

فالماء هو كل شيء له القدسية في الوجود وعلّته وأصله، والأنوثة والذكورة علة وجودهما هو الخصب واستمرار شجرة الحياة وكلاهما محض ماء كما في النص التالي:

خالطتني في الهوى شططاً

كما يخالط الخمر الماء الزلال

حتى إذا دنا " ميعادنا "

شقني المزج: هيهات انفصال " ص117 "

 

إن امتزاج الذكورة بالأنوثة يشبه امتزاج الماء بالخمر وينجم عنها النشوة التي تفضي إلى اخضرار عود الوجود، وتبدو الكاتبة متأثرة بالحلاج ومتمثله شعره حين يهتف:

" مزجت روحك في روحي

كما تمزج الخمرة بالماء الزلال

فإذا مسك شيءٌّ مسّني

فإذا أنت أنا في كل حال "

وتواصل الكاتبة تأثرها بالنصوص الصوفية وتبدو هذه المرة مستبطنة لبعض النصوص الطاوية التي ترى في الماء رغم ليونته وسلاسته إلا أنه يفتت الصخر:

قد قال: لنتِ لي

وكأنني ماءٌ

يفتتُ في قلبك الصخر" ص121 "

 

فالأنوثة هي الطبيعة والذكورة هي الماء، ماء الخصب الذي تلين له الأنوثة في تعطشها فهي قاسية وصلبة في حالة جفاف ولا يفتت هذه الصلابة سوى الماء، ثم نجد الأنوثة تقول:

لو يصدقُ الماءُ في لهفي

سترى في الماء ظلي" ص163 "

فسر الأنوثة كامن في الماء وبدونه لن ترى الطبيعة الخصب والولادة والحياة، وفي نص آخر تعيد الأنوثة التأكيد على غاية الغرق في الماء:

ولم أفطن إلى عينيك تأسرني
ونيلٌ في عينيك يتدفق
واعتصمتُ بحبال الله كلهمُ
وكان أمرُ هواكَ أن أغرق "ص164 "

إن غاية الأنوثة هي الغرق أي الخصب والحياة وليس الجفاف والانطفاء والموت. ثم تعود الكاتبة إلى تناوب الأدوار في عملية الخصب فالماء هو لغة الذكورة والأنوثة على حدٍ سواء، فتقول على لسان الذكورة هذه المرة وهي تستجدي ماء الأنوثة:

أنا لا أعرف الحب يا صديقة، قال، فهل ستضعين الرأس على جدول القلب وتهمسين: اشرب، لك الماءُ الزلال، وفراتٍ من جنان أنت صاحبها، لك هذا السلسبيل درب فهلا خطوت! " ص 71 "

وبهذا تعترف الذكورة أنها لا تعرف الحب وأن لها دور وظيفي فحسب، ويصبح الحب حكراً على الأنوثة والأمومة. فالذكورة تشرب من ثدي الأمومة والأنوثة الحب والحياة، إنه درب الحياة والخصب والحب، إذن الذكورة مجرد أداة والأنوثة تسقيها الحب والحياة لتواصل أداء وظيفتها في مساعدة الأنوثة الكونية على استمرار الحياة، وفي هذا النص على لسان الذكورة:

وألامس كفيك فيشيع في دمي الأخضر، فضة الماء التي سقتني فانبثقتِ أنتِ. "ص179 "

ومع أن النصوص تناقض بعضها ألا أنها تؤكد على جدلية العلاقة بين الذكورة والأنوثة، فالذكورة لا تحيا ولا تواصل الانبعاث الأخضر للحياة دون ملامسة الأنوثة والتمازج معها إذ تلد الأنوثة من جديد، وتستمر الحياة.

 

ثانياً- النار / الشغف والتوق والظمأ

فإذا كان الماء هو أبجدية الوجود ولغة الطبيعة وتعبيراً عن الخصب والارتواء واستمرار انبعاث الحياة، فإن النار هي الوجه الآخر للماء، فالنار تعني التوقد والاشتعال والشوق والشغف والظمأ. فإذا كان الماء نقيضاً للنار والتقاء أحدهما بالآخر يعني الاختفاء والفناء، فإنهما في نصوص الكاتبة عنيا التكامل والعطش الذي لا يرتوي إلا بالماء.

وفي النصوص التالية تبدو النار تعبيراً عن شغف الأنوثة وظمأها وهي تبدو كما الفراشة التي تعشق النار وترى فيها حياتها ومشابهة لها في الاشتعال فتقترب منها وتحترق وتذوب. وفي لغة التصوف فإن احتراق الفراشة يعني انعتاقها وانبعاثها من جديد، لنتأمل هذا النص:

وتأتي نوافذه ليلاً لُتضيء فتكتشف النار وينتثر من بين أصابعها وكأنه الشرر:

وكأني " نَّصُ" فراشةٍ

عن كنه وجودها عُميتْ

حتى تراءى وجهك

" الضوء"

بوهج " رمادها "

كُتبتْ" ص6"

إن العلاقة بين الفراشة والنار أو الضوء هي علاقة عشقية وقدرية تشبه علاقة الأنثى وانجذابها للحب، فالأنثى تفني في الحب وتذوب كي يكون بوسعها أن تعيش. وتعطش الفراشة وشغفها بالنار يشبه تعطش الأنوثة للحب / الماء / الذكورة/ الخصب. والفراشة تحّفزها إرادتها العمياء الكامنة نحو النار والضوء كما تتحفز الإرادة العمياء الكامنة كتلك التي تنشد الخصب والحياة. فاحتراق الفراشة واستحالتها إلى رماد تعني انبعاثها، وشغف الأنوثة واشتعالها وظمأها تعني إرادة الحياة المشتعلة وتواصل الكاتبة استخدام رمزية الفراشة للتأكيد على هذه الفلسفة:

سأصطلي ناراً هجستَ

وكنتَ فراشاً يهوى

مخاصرة الجسد

هاكِ

بعضي رمادك

وقيامتي فردٌ صمد

فيك النار

آنسها

وحدي أؤجج

لثغَ شعلتها

فإذا ما تطايرتُ شرراً

قولي

معبوداً

لفرط الوجد

من ولهٍ سجد" ص12"

 

إن علاقة الذكورة بالأنوثة غايتها الالتحام بهدف الانبعاث الأبدي في الحياة، وهو يشبه التحام الفراشة بالنار إنها رمزية الشوق والشغف والظمأ والعشق الذي يدفع الفراشة للنار لتستحيل إلى رماد وتحيا وتنعتق وتحترق وكأن احتراقها هو تحررها وانعتاقها وللتأكيد على هذه الغاية تقول الكاتبة:

ربي ذرني عشقاً أتوقد"ص20"

إنه التوق للاحتراق والرغبة الجامحة في التحول إلى رماد وهو م  يرمز إلى اشتعال النار الأنثوية وحاجتها للخصب عبر العشق، عشق الذكورة  أداة الوصول إلى غاية الخصب، وتواصل القول:

والقلب قلب فراشةٍ
أزهقها اللهب
أنت في عمرها
النسغ
وسواك تب
"ص43"

وقلب الأنثى المتعطش والمشتعل على الدوام لم يعرف الإنطفاء إلا بملامسة الذكورة، لأنه لا معنى للأنوثة دون الذكورة فهي تسعى وتصبو من خلال الاحتراق والذوبان في الحب إلى الاستمرار في الخلق والتكوين كما تؤكد:

ومن اللهب أعاد

حكاية التكوين

ناراً ونور

نوراً ونار " ص20"

فاشتعال الأنوثة الكوني وتوقها للماء هو بهدف التكوين والخلق واستمرار الوجود.  إنها جذوة النار التي تنتج نور الحياة واستمرارها ليضيء دربها المعتم، ولأن الوجود لا يكتمل دون الخصب ولا يدرك ذاته دون الحياة  فإنه سيظل خالياً من أي معنى، دون جدلية الذكورة والأنوثة الكونية. فالخصوبة لا تكتمل دون الذكورة، فنجد الذكورة هذه المرة تخاطب الأنوثة:

فتعالي نداوي

بهذا الليل غربتنا

ونطفي النار بالنارِ " ص62"

هذا العماء والاغتراب والعبث في الوجود ينبغي أن ينتهي باكتمال الأنوثة والذكورة لتلد الحياة، وبهذا يصبح للوجود معنىًّ. إنه النداء والشغف الأزلي والأبدي، شوق الذكورة المشتعلة للأنوثة المشتعلة فترد الأنوثة على الذكورة بذات اللغة النارية:

ويحدث
إن تسير في دمي هويناً
هوينا
فيشتعل الهشيم
ويحدثُ
أن تسعّر ناري
برفقٍ
بنزقٍ
فيضمني
اللهب الرحيم " ص 73 "

 

ثم تعيد التأكيد على ذاتها المتعطشة للحب:

ويحدث أن
الفراش انبهار
بضوء المدى
حد التوقد
والاستعار
ويحدث أن أصيرك
قربان عشق
ويحدث أن
يصير البذل
انصهاراً " ص74 "

 

والأنوثة ليست وحدها في حالة اشتعال وإنما الذكورة أيضاً:

كم أجج فيك الوجد

من لهبٍ

لأراك كعود الند

محترقا " ص81 "

وعود الند لا تفوح رائحته إلا عند الاحتراق، كذلك الذكورة لا يمكنها أن تمارس وظيفتها إلا بالاشتعال شوقاً للاتصال بالأنوثة وارتوائها من خلال النار، إنها الشغف الذي يلد النار، ومن النار الرماد، ومن الرماد تولد الحياة وهو ما يجعل الأنوثة في حالة امتنان وهي تهتف:

أقرأ في ثناياي

 ثنائي

عليك

 كلك محترقٌ

بكلي

وبعضي

 عطايا

 يديك " ص90"

إن هذا الاحتراق يجعل الأنوثة ممتنة وتقر بالثناء على الذكورة نتيجة لهذا الامتزاج المشتعل كي تكمل الأنوثة رسالتها ودورها في الخصوبة والحياة ثم تواصل الأنوثة تراتيلها العشتارية لاستدعاء الإشتعال:

أوقدْني

 أنا ذوبُ الشمعِ

 المنصهر

 نذوراً لروحك

 أشعلْ بي

ما تبقى من ليلٍ

 انا الطينُ

 المنسكبُ صباً

 لهفاً

 ليسود نورك "ص94"

 

وسيادة النور هي استمرار الحياة وتطورها وإخراجها من حالة العماء لتدرك ذاتها ومعنى وجودها وتؤكد مرةً أخرى:

والروحُ فراشةٌ
آنستْ فيكَ نارَ
رمادِها
هأنتَ في دمها
" النشيد "
وتوقُها فيكَ
" عمادها " "ص110"

والنشيد هو الغاية والمعنى لوجود الأنوثة واحتراق الفراشة هو انعتاقها وانبعاثها من بين الرماد في حياة جديدة وتعاود الأنوثة الغزل على ذات المنوال:

وناري ونارك

نارُ المجوس

لا تخبو

وقد عقدوا أنّى تظل

تشتعلُ "ص115"

 

لا شك إنها جذوة النار الأزلية التي لا تنطفأ والنار تستدعي النار، والاحتراق يلد الرماد وما الرماد سوى الاشتعال والإرتواء على حدٍ سواء لتنبثق الحياة وتؤكد مرة أخرى:

" وما بينَ شوقٍ واشتياقٍ "

يدعوني الهوى فأصطلي

ووجدتني أفنى فيك احتراقاً

عّل ليلك ينجلي "ص126"

الفناء من خلال الاحتراق هو ولادة حياة أخرى فينجلي العماء عبر جدلية الاحتراق / الفناء / الإنبعاث،  وتواصل:

أُمكثْ في الحواسِ
قليلاً
هذا القليل الذي
يفتنُ الفراشات
ويشعلُ القنديلَ
أُمكث قليلاً لأبقى
لأحيا
لأموتَ فيكَ
وأُبعثُ
بعثاً جميلا "ص165"

إذن هي رحلة الظمأ والإشتعال والاتصال وافتراق الجسدين وفناءهما عشقاً لتنبعث الحياة وتنمو وتستمر.

 

ثالثاً - جدلية العلاقة بين الماء والنار / الموت والحياة:

إن ثنائية الماء والنار اللذان يرمزان إلى علاقة الذكورة والأنوثة تنطويان على فكرتي الارتواء والظمأ، وفي هذه النصوص الشعرية تتناوب الادوار والوظائف بين الذكورة والأنوثة فتارة تكون الذكورة هي عنصر الإرواء المائي وعلة الخصب، فيما تكون الأنثى مشتعلة كالنار لمياه الذكورة ثم لا تلبث أن تنقلب الأدوار فتغدو الأنوثة هي الماء وعلة الخصب، بينما تكون الذكورة هي عنصر الاشتعال والشغف والجفاف لنتأمل هذا النص الذكوري:

هاتِ سر أنوثتك

أعمّدك بمائي برعماً يتفتح تحت إزاري

شُّدي إليك صهيل الخيل

فإني آنس فيك جذوة

النخيل

وأرتحلُ، علّي آتيك

برماد رغباتٍ توهج " ص15 "

 

وحسب هذا النص فإن الذكورة تنطوي على الماء وسبب الخصب ثم تستحيل في آخر النص إلى رغباتٍ مشتعلة ومتوهجة، فالذكورة تنطوي على الماء والنار في آن معاً ثم لا تلبث الكاتبة أن تقلب المعادلة فتغدو الأنوثة تنطوي على الماء والنار حين تقول:  

وكانت الليلة الأولى، المرة الأولى التي يتصفح فيها المجنون بارق الثغر،

يسبر غور المياه، كلما ابترد منه عضو

تداعى له سائر الجسد، وكانت الشفتان نار.. " ص16 "

 

فبارق الثغر الذي تسبره الذكورة في شفاه الأنوثة كماء، لا يلبث أن يستحيل إلى نار، وهو ما ينجم عنه ثنائية البرد والحرارة والاشتعال والإنطفاء، ثم تتابع الكاتبة على لسان الأنوثة هذه المرة بالقول:

وجهكَ حين يمطرني، غيثكَ حين يخصّبني، فمك حين يسقيني، وأرتعش من بللٍ أصاب الروح لأؤمن من جديد، ثمةُ إيمانٌ يختصرنا، نتماهى فيه وجداً صوفياً وانجذاباً، ثمة احتراقٍ نعيشه ولا نراه، " ص22 "

فتبدو الذكورة في هذا النص هي التي تمطر وتروي وتسقي فترتعش الأنوثة أثناء ارتوائها وتستحيل الخصوبة والارتواء إلى عملية احتراق دونها لا تتم عملية الخصب، بيد أن الكاتبة تعود إلى تبادل الأدوار في هذه العملية فتقول:

واضطرم به الشوق حتى اضطرب:

وما الروح إلا بحرٌ
يشتهي فيك الغرق
أو كذوب شمعٍ
سيان أبقى
أو أحترق " ص31 "

 

والروح هنا هي روح الأنوثة التي تشبه البحر المائي أو البحر الناري المنصهر كذوب الشمع الذي تشتهي الذكورة الغرق فيه والاحتراق، الأمر الذي من شأنه أن يبعثها من جديد ويبقيها على قيد الوجود. الأنوثة إذن هي ماء ونار في ذات الوقت وتؤكد على ذات المنطق في نص آخر:

كذلك قال:

وانبثق نيلك في القلب

نهراً من أرق

أصابعي أشجارٌ تبري عودها

وحرائق الجسد

الورق" ص45 "

 

المرأة في هذا النص هي الماء الذي يغدو أشبه بالنهر والتي حولت الجسد أثناء الالتحام إلى حرائق مشتعلة، ثم لا تلبث أن تعود إلى قلب المعادلة، وهذه المرة لدى الذكورة:

وكيف تكون ناراً
من عسلٍ وأزرق
وأبحثُ في بحرك
عن طيف لونٍ
بك يضّرجني "
ص60 "

 

فالذكورة هي النار والماء التي تبحث فيها الأنوثة عن معنى وجودها الذي لا يتحقق إلا باستمرار عملية الخصب، ونجدها تلخص هذا الموقف في نص جميل، صالح للذكورة والأنوثة معاً:

وكم تشعل النار
غواية
الغرق " ص68 "

ولولا جذوة نار العشق والشغف الكامنة في الطبيعة لتحقيق غاية الخصب والحياة لما تواصلت شعلة الحياة في الوجود وشغفها للغرق والالتحام الذي من شأنه أن  يبعث النبض في هذا الوجود الجاف، وفي النصوص التالية سنجد الأنوثة والذكورة في حوارٍ يعكس هذا الشغف فتقول الأنوثة:

ويحدث أن
نفتقُ سترَ الليلِ
ليشتعلَ الفجر
يحدث أن
" تسكن " أضلاعي
ويفيض على
شفتي البحر
يحدث أن تتناوبني
برداَ وحراً
برداً وحراً " ص70 "

فترد الذكورة وهي تعزف على ذات النغم:

تعالي
تنّزلي ناراً
لأقولَ
سلاماً
وبرداً
" ص77 "

والكاتبة تستبطن الآية القرآنية " يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم " ، ثم ترد الأنوثة بالقول:

كم تعشق ذاكرتي

 تفاصيل يديك

 غيما توزع

حممها

 فوق الجسد

 وأهطل ناراً

 تؤاكل بعضها

 روحاً سجد " ص88 "

الذكورة تشبه الغيم الذي يهطل مطراً وناراً فترد الذكورة"

وأتيتُ عينيك لأشرب ففاضت على الأرض الحقول

**

يوماً سأقف قبالة عينيك لأصلي وأحدث العالم عن حدودٍ انصهرت آوان اشتعالنا " ص118 "

فترد الأنوثة:

امسحْ شفتيك بي
لأعيد وضوئي بعينيك
حيث لا جحيم أقرب
ولا نعيم سوى
احتراقنا "ص128 "

 

وتكرر ذلك في نصٍ آخر:

وأنهار عينيك احتوتني
وخدري الموسوم بك والاشتياق
وأنا الفراشة تسأل النار فيك
عن فتنة الاحتراق " ص159 "

فتنته الاحتراق إذن في أنهار العينين، ثم تواصل الأنوثة المتعطشة غناءها:

وكأسُ راحٍ

مازجتها شططاً بنا

حتى الوجد خمراً

صيّرك

وتهس نيراننا: اشربني

حلالاً – طيباً –

أكلما نذرتُ عنك

صوماً

أجرعك " 168"

وفي نص آخر فإن الارتواء والإرواء يكون متبادلاً، فالذكورة والأنوثة ماء ونار في ذات الوقت لتحقيق غاية الولادة والانبعاث الأبدي من رماد الاحتراق إذ تقول:

وأرقب جناح

فراشةٍ

اشتعلت

فيأخذني اللهب الجميل

ذاك جناحي

من لهبٍ

تعّمد

أرويك بي

أو ارويني بك

" وجعلنا من الماء.. "

أليس الرواء

أن أُولد "ص174 "

وهذا هو بيت القصيد في هذه النصوص إن الشغف والاشتعال غايته الارتواء، وغاية الارتواء هو الولادة والخصب. فترد الذكورة لتختصر المغزى الكامل في هذه النصوص:

أتعرفين يا غالية، سأقول: أنا حيثُ تمطر، وأنتظرُ سًقيا الأوراق الجائعة لعينين تراودها.
سأقول: أنا حيثُ تكورت أصابعها ببسط، كلما قبض جمرها المخاض أفاضت، وأنا أول أطفالها.
سأقول: ملء القلب أنتِ، وأنا ملء كفك. " ص180 "

وإذ تعود الكاتبة على بدء نصوصها في افتتاح الديوان، إذ ترى في الأنوثة الكونية لغز الطبيعة وسر بقائها وعلتّها الأولى، حيث يأتي ذلك اعترافاً على لسان الذكورة التي تقر بانبثاقها من رحم الأنوثة، وبهذا الإقرار فإن الذكورة تعلن عن عشقها للأنوثة وخضوعها التام لسلطانها " ملء القلب أنت، وأنا ملء كفك "، وكأنها تنشد تصحيح خطأ أعتدى فيه التاريخ الذكوري على الطبيعة، فالطبيعة هي الأنوثة، والأنوثة هي علة الوجود. ثم نختتم بهذا النص على لسان الأنوثة التي تقبل هذا الإقرار على لسان الذكورة ولكنها تعلن به أن الذكورة ضرورية للأنوثة حين تقول:

وأشعلتَ النار

في حطبي

لتغرق

فكيف أنت

بعد موتنا الأبدي

وعبورك النهر لننجو

أو لنهلك! "ص182 "

 

فالذكورة تشعل جذوة نار الخصوبة في الأنوثة لتنجو الطبيعة وبدونها فإنه لا سبيل سوى الهلاك والاندثار.

إن شغف الأيائل نص أدبي رائع ورغم التكرار لذات الفكرة في النصوص إلا أنه تكرار لابد منه. وقد كان لدى الكاتبة ما يسعفها دائماً لتأثيث هذه النصوص بالمفردات، والصور، والاستعارات، والألوان والاقتباسات فكانت تعرض الفكرة ذاتها بحلة جديدة تبعث على التأمل والدهشة والانبهار. فكانت نصوصها حقاً مشتعلة تسعى للارتواء فكان شغف النار وجذوتها المتأججة تتصاعد نحو السحب المتكدسة في الآفاق لتلامسها وتحفزها على الهطول.