الأسير عاهد أبو غلمة يكتب "خطاب التأريخ والجماهير"

المصدر / خاص مركز حنظلة للأسرى والمحررين

الجماهير وصعودها على مسرح التاريخ أصبح موضوعاً يستحق التوقف، في ظل "استسلام" القادة السياسيين والأحزاب. فظاهرة التجييش الجماهيري لخدمة مصالحها وأهدافها، من خلال الإعلان في كل صباح ومساء بأننا سنكون أمام خطاب تاريخي مهم للرئيس الفلسطيني في مناسبة وبدون مناسبة، الهدف من ذلك بالطبع هو تجييش الجماهير الفلسطينية، لدعم نهج القيادة الفلسطينية ومشروعها في "إدارة الصراع" مع العدو الصهيوني.

في السنوات الأخيرة يبشروننا في كل عام أن هناك خطاباً تاريخياً ومهماً ومفصلياً في تاريخ القضية الفلسطينية سيقدمه الرئيس محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في اجتماعها السنوي، حيث يشكل هذا المنبر الدولي الجامع لكل زعماء وقادة الدول مناسبة لاستعرض برامجهم وخططهم ومشاكلهم وقوتهم وإنجازاتهم أمام جمهرة الزعماء الآخرين.

واعتقدنا هذه السنة أن خطاب الرئيس عباس سيكون "خطاباً ثورياً"، وسيقلب الطاولة الدولية رأساً على عقب، خاصة في ظل الصلف والعنجهية الأمريكية الغير مسبوقة بوضوحها وإعلان انحيازها التام للعدو الصهيوني بدون مواربة، من خلال إخراج ثوابت القضية الفلسطينية عن طاولة المفاوضات، والتبجح الترامبي في كل مناسبة بذلك، والذي دفع الرئيس الفلسطيني أن "يفهم" متأخراً أن الإمبريالية العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة، لا يمكن أن تكون يوماً مع إحقاق حقوق الشعوب المضطهدة أو تحقيق العدالة للشعوب المظلومة والمقهورة، بل أن وجودها كراعي لعملية التسوية، كان الهدف منه فقط المحافظة على رديفة الإمبريالية العالمية والحركة الصهيونية "دولة الاحتلال"، ولاستمرار مشروعها الاستيطاني على أرض فلسطين، كما وأن الخطاب جاء مترافقاً مع حملة إعلامية للسلطة الفلسطينية وحراكاً جماهيرياً واسعاً، تحت عنوان دعم الرئيس وخطابه في الأمم المتحدة، فكيف للجماهير الفلسطينية أن تُخدع مرة تلو الأخرى، بأن هناك ما يمكن أن يتغير على هذا النهج الذي يعبّر عن موقف طبقي، لا يحتاج إلى أي اثبات أنه سيبقى دائماً وأبداً متساوقاً مع أي مشروع يخدم مصالح تلك الطبقة التي تربعت على صدور الشعب الفلسطيني منذ سنوات طويلة؟!

وهذا يدفعنا للبحث عن الأسباب الموجبة وراء انسياق جزء من جماهير شعبنا الفلسطيني بهذا الشكل، ولا تعود لمراجعة القديم الجديد وربط الأحداث مع بعضها البعض، لتعلم وتدرك وتعي أن هذه القيادة أصبحت بل أمست مفلسة دائماً، ولا يوجد ما تقدمه لشعبها، وعليها أن تتنحى جانباً وتترك أصحاب الهمم والمدافعين والغيورين على المشروع الوطني والقضية الفلسطينية أن يستكملوا طريق النضال والمقاومة وإدارة الصراع حتى إحقاق حقوق شعبنا والعودة بقضيته بقوة إلى الساحة، وذلك لا يمكن أن يكون بالاستجداء والتباكي أمام العالم والتأكيد بأننا لن نستخدم أساليب المقارعة والمقاومة التي أقرتها المواثيق الدولية ونبقى نتمسك بالمفاوضات كبديل لكل البدائل الأخرى. فكيف للعالم وزعمائه أن يحترموا رئيس شعب وهو من على منصة الأمم المتحدة يهدد جزء أصيل من شعبه في قطاع غزة بقطع الصلة والعلاقة معه تحت حجج تمكين الحكومة وإعادة السيطرة للسلطة؟! وكيف لقادة دول العالم أن تحترم رئيس الشعب الفلسطيني وهو لم يتطرق للهبة الشعبية السلمية المستمرة منذ أكثر من ستة شهور وسقط بها عدد كبير من الشهداء والجرحى؟! وكان قد نادى وينادي هو وزمرته "بالسلمية" على أنها شكل أوحد ووحيد "للمقاومة" في خطابه الدائم، الذي للأسف لم يترجم إلى فعل في المناطق التي تسيطر عليها سلطته وباقي أراضي الضفة الغربية، والمُهيأة تماماً للانتفاض على الواقع المر، حيث الظروف الموضوعية والذاتية جاهزة لذلك. وكيف للعالم أن يحترم ويستجيب لقائد ما زال يتمسك بعدو الإنسانية الرئيس ترامب كأحد رعاة مشروع عملية السلام المفترضة والعبثية بعد كل تلك المواقف العدائية التي أعلنها ضد الشعب الفلسطيني وقضيته؟! وكيف للعالم أن يقتنع أن هذا الرئيس ينطق باسم الشعب الفلسطيني ويدافع عن حقوقه وهو لم يسلّط الضوء على الحصار الظالم والمستمر لسنوات طويلة على أهلنا في قطاع غزة من قبل الاحتلال الصهيوني بل وزد على ذلك الاستمرار بالتنسيق والتعاون الأمني مع العدو، بعد أن تجاوز العدو الصهيوني كل الاتفاقيات المُوقع عليها ذاك "الزعيم" شخصياً؟! وكيف لجمهرة زعماء العالم أن تأخذ عباس على محمل الجد وهو يستعرض قرارات أقرتها م.ت.ف التي استبعدت أكثر من نصف شعبنا الفلسطيني من التمثيل بها، مع ذلك لم يستجيب لتنفيذها، حيث عبّرت عن إعادة الصياغة للعلاقة مع العدو الصهيوني؟! وبعد كل ذلك وغيره هل نعتبر أن هذا الخطاب كان خطاباً تاريخياً وضع بصمة في تاريخ القضية الفلسطينية.!! وكان نقطة تحوّل يخدم الشعب الفلسطيني ومشروعه..!! أم كان خطاب تأريخ من ضمن خطابات الأمم المتحدة التي لا تغني ولا تسمن من جوع وتبقى حبراً على ورق ولا فائدة ترجى منها، إلا إذا اعتبرنا أن تهديد شعبنا في غزة باستمرار قطع رواتبهم ومستحقاتهم من الكهرباء والأدوية والمياه هو التأريخ في الخطاب.

وإذا لم يكن الخطاب محطة مهمة ستترك أثرها على القضية الفلسطينية، فلماذا نحتاج إلى كل هذه الدعاية والمطالبة بالتفاف الجماهير حوله؟ صحيح أن آراء الجماهير حسب رأي "غوستاف لوبون" تتشكل عن طريق الصورة والكلمة والشعار والأوهام والتجربة والعقل.

إن هذا "الزعيم" ما زال يزرع أوهاماً، بأن المفاوضات هي وحدها طريق الوصول لإحقاق حقوق شعبنا الفلسطيني، وهناك العديد ممن صدق وما زال يصدق ذلك في ظل غياب العقل والمنطق، والتأكيد للعواطف اللاواعية والمصالح "حيث يمكن حشد الجماهير". وقد استخدم رجال السلطة الفلسطينية، وسائل الإقناع التي تحدث عنها "غوستاف لوبون" المتمثلة في التأكيد والتكرار حيث سمعنا ونسمع وسنسمع، أن "بديل المفاوضات هي المفاوضات"، حيث انعكس ذلك على أي شكل من أشكال النضال، وأصبح هناك حالة تراجع في أي نشاط ضد الاحتلال من قبل الجماهير، وهذا ما تريده زعامة السلطة الفلسطينية، خوفاً من أن يتحول أي شكل بسيط إلى شكل مقاوم لا يمكن السيطرة عليه من قبلها، كما ويكرر مفهوم تمكين الحكومة في غزة ويؤكد عليه في كل لحظة لدرجة أنه أصبح كعدوى انتشرت في أوساط قطاع واسع من الجماهير، حيث غيّب العقل والمنطق وتم التمسك بهذا الشعار، كأساس للوصول للمصالحة، مع العلم أن هذا الشعار كان يهدف لاختباء السلطة خلفه من أجل تحقيق مآربها الحقيقية وهي إنهاء المقاومة وسلاحها في قطاع غزة، وهذا ما ظهر من خلال خطاب عبّاس في الأمم المتحدة من خلال تأكيده الدائم أنه لن يستخدم أي شكل من أشكال العنف تحت أي ظرف من الظروف.

وكان من الأفضل للرئيس عباس ألا يذهب ليتباكى ويستجدي العطف من زعماء العالم، لأنهم لا يمكن أن ينظروا بعين العطف ويتضامنوا مع من لا يستطيع الشعور بمعاناة قطاع واسع من شعبه، ولا يرى الطريق الصواب بعد كل تلك السنوات من الصراع مع الاحتلال لتحقيق أهداف شعبه وقضيته.