من رحم المعاناة خلف القضبان

أن تستولد فرحاً من قلب الألم بقلم الأسير ثائر حنيني

1960f756740ef2215ab880a89ffc336e (1)
المصدر / ​خاص مركز حنظلة للأسرى والمحررين

للأشهر ذكرى، ويحدث أن تُهديك أكثر من مُناسبة، في ذات الشهر أو حتى اليوم، مناسبات موجعة مرة حد الألم ومرة حد السعادة وثالثة ترتطم بك وكأنها لا تعنيك بشيء، وبعض المناسبات تبقى الأغرب حتى وإن كانت ملتصقة بك سبب للسعادة وآخر لتعاسة، مُبرر للحياة وآخر للموت، ذريعة للحب وآخر للكره، قد يصيبك بها شهر واحد لا غير كأنما يقصد قتلك في المناسبة وفي أخرى يختار أن يكون فيها الضحيّة دون تدخلك وإنما من أجلك، وبعض الأشهر الأخرى لا تدوس عتبة بيتك حتى، وأخرى تقتحم عليك حصانتك مرة لتبعثك حيّاً من جديد ومرة لتبعثك من البرد المستعجل نحو قبر رخامي يضمّك في أحضانه.

تمر أشهر لم تربطك بها رابطة ما كأنما هي خُلقت محايدة لا يعنيك فيها شيء محدد، نعيشها ولا نُسجّل حتى في دفترنا السري أحد أيامها كمناسبة أو ذكرى، وذكرى ما نعبرها كأنما نعبر جسراً بين ضفتين لا يعنينا يوماً عدد الخطوات في حضرة الجسر إنما يعنينا بالقدر الذي يوصلنا فيه أو يبعدنا عنه شهر آخر أو مناسبة أو ذكرى عزيزة أو موجعة، يعنينا فقط أن يكون صالحاً من عبره بلا عناء تأجيلاً لفرحة ما أو من مناسبة أخرى هكذا شهورنا جسور وأماكن وذكريات لا ندري ما ستحمله لنا؟!

فهل لنا أن نحمي ذاكرتنا؟ وهل لنا يوماً أن ننتقي شهوراً لنصل أخرى؟ أو بالعكس نبتعد عن أخرى، ولكننا نتفاجأ عندما تجتمع ذكرتين بذات التاريخ، نريد الاقتراب منها والابتعاد عنها بذات المقدار ثم تحملنا ذاكرة واحدة فيها نواصل نحو ما نريد.

هكذا هو شهر تشرين الثاني مُصرّاً أن يبداً بفاجعته حيث يُصادف يومه الثاني مئوية وعد بلفور المشؤوم، هذا الوعد الذي أعطي لمن لا يستحق كما أعطت بريطانيا وعدها المشؤوم للصهاينة بإقامة وطن لهم على أنقاض شعبنا لتصبح المعادلة المزعومة صهيونياً وبريطانياً "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض."

وهكذا يشهد شهرنا على فاجعة شعبنا وتشتته وتهجره، وبعد مُضي عام على هذا الوعد مازالت حكومة بريطانيا مُصرّة على الاحتفال به في هذه الذكرى دون إبداء أي موقف ينم عن اعتذار لشعبنا الذي هُجّر في بقاع العالم.

يواصل تشرين مناسباته وكأنه شهر المناصفة بين الفاجعة والأمل، حيث يصادف صباح الخامس عشر إعلان الاستقلال الذي جاء تتويجاً لنضالات شعبنا الطويلة ليُشكّل أملاً بانتهاء الفاجعة واندحار مخططات وسياسات العدوان على شعبنا.

يواصل شهرنا تجديفه فعندما تطول لحظاتنا فراق وتموت الأشياء في اتجاه، تُولد في أماكن أخرى ذات نضارة واخضرار.

هكذا هو شهرنا، يصلح أن نُسميه شهر الميلاد والحياة والأمل ففي يومه الثاني والعشرين وُلد فادي، حيث أهداه حياة مفعمة بالحيوية بين طفولة جارحة وبلوغ في ظل معارك النضال، وشباب في ظل المطاردة والملاحقة، متوّجاً نضاله وملاحقته في استشهاده ليصبح من هؤلاء الرجال الذين يحيون بموتهم.

اختار فادي الموت ليشهد العالم أجمع أنه من الأحياء الذين أدركوا أنّ الحياة الذليلة ليست إلاّ موت ذليل وأنّ الموت المشرّف ليس إلاّ حياة كريمة حرة فلتحفر اسمه بحروف من دمٍ ونار.

هكذا هو شهرنا يكون شهر مناصفة بين الحياة والشهادة، يواصل شهرنا تجديف مع إصراره أن يغرس فيك فاجعته وكأنه يقصد قتلك، فهنالك أشهر لا تتركك دون أن تحفر في ذاكرتك ذكرى أخرى لذلك لا يغادر إلاّ عندما يتأكد أنه غرس في وجدانك ألمه ليكون بذلك أدى بغضه تجاهك، فاليوم الخامس والعشرين يُصادف ذكرى رحيل أعز الناس على قلبي أمي التي أصبح صوتها ينبوع بنفسجي دافق، رنين ألحان، فهل تعرفين أحداً يرى صوتاً؟ أنا، أرى صوتكِ وأعيش فيه وألمسه وأقبّله دوماً، فرنين صوتك هو الفرح هو الحد الفاصل بين الحياة والموت، هو رائحة الأرض بعد المطر ليختتم بذلك تشرين تجديف بفاجعته الأشد والأقوى قاصداً قتلي، لأول مرة أجد نفسي عاجزاً عن التعبير عمّا يراودني من مشاعر معبّئة بالأصوات والعتمات رُغم امتلاء الذاكرة صور من فقدنا صورهم واحتفاظها بأصواتهم بذكرياتهم بمواقفهم وبكل أشيائهم الصغيرة وهذا ما يبقيهم أحياء بنا على الدوام بعيداً عن فوضى واختلال هذه الحياة وقسوتها وملوّثاتها، لذلك قد نجد سبيلاً إلى التآلف مع حياة السجن ونعتبرها حياتنا لفترة ونتقبلها ونحفظ هذا الخافق تحت الثدي الأيسر أن ينقلب حجراً ليثقل الصدر بدل أن ينتفض ليضخ دماً حاراً في عروقنا، فقضاء السنوات الأربعة عشر أو أكثر ليس بالأمر المستحيل، إنها تنقضي شريطة ألا تسود الجوهرة التي تحت ثدينا الأيسر.

رغم معرفتنا بما يحل بنا بغضّ النظر عن القوة القبيحة التي تكمن وراءها، لا يهدف إلى إضعافنا وكسرنا وتجريدنا حتى من قدرتنا على ممارسة حزننا بشكل طبيعي وسوي، لذلك نحن نحتفظ برصيدٍ هائلٍ من المشاعر التي نرفض معها التسليم إلى اليأس والكراهية والإحباط، فخلف كل هذه العتمات لا يزال ثمّة أشياء جميلة تساعدنا على المضي رغم حجم الألم وعمق الجرح بعد هذا التتالي المُفجع الذي لا أدري بأي لغة أكتب مادام كل ما سأكتب سيعتبر صغيراً وتافهاً أمام جبروت الصمت، لكني سأحاول قدر ما أتعبني التعبير فقط عن فهم لهذا الاستحقاق الوجودي.

ففي البدء ينتابنا شعور لكراهية كل شيء بالحقد واليأس والخوف والفراغ، كل هذا في البداية، ثم الصمت أكثر من اللازم ثم نكتشف أننا نبتسم، أجل نبتسم لا لنخفي دمعة واريناها في أعماقنا ولكن لنسخر من هذه الحياة ولنلعنها وننجح في التغلب عليها، ننتزع منها فرصة كسرنا ونمضي حتى ولو كنا وحيدين، حتى لو كان الدرس الذي عمدت أن تعلّمنا إياه والسير لوحدنا، فهنالك أحزان كثيرة تختلط بالعدل أمام سطوتها وأمام قدرتنا على إفشائها ونرتكب الحماقات تلو الحماقات لدفنها في مجاهيل أنفسنا في وقتٍ يكون البكاء هو السبيل الوحيد والأنجع لغسل أرواحنا من كل غبار تكدّس عليها، لهذا صرنا نكتفي بالأفراح الصغيرة لمواجهة الأوجاع التي تحركنا من الداخل كالحطب اليابس، نحاول قمع حاجاتنا الإنسانية لذرف دمعة لمجرد أننا في واقع تجرّدت فيه حتى الدموع، فنحن مع الموت نكتشف كم نحن جبابرة وكم هي الحياة أمام زهدنا بها وأمام ابتساماتنا الصغيرة التي تطفو على ملامحنا حتى في أحلك الظروف وأشد المواقف صعوبة.

أن تكون ذاكرتنا صادقة بعيدة الأيام ليطرق جدران الجمجمة، أن تكون ذكرانا نغماً لا نعرف أين وكيف يبدأ، لكننا فجأة نجد أنفسنا نضيع في ساعاتها نلتقي بهذه الساعات المُفرغة بالمسافة بين الحارس ومفتاحه، بأغلى وأعز من زرعوا بذور محبتهم لتعلو أشجاره ولترتفع بيارق الذكرى، لذلك نحاول قدر استطاعتنا أن نفرح ففي دنيانا ما يكفي من قلة الفرح ليدفعنا نحو حزن الأيام التي كُتب علينا أن نكافح من أجلها ونحن لا نبتئس من كون كفاحنا هذا طويل وربما مقيت، فالكفاح هو الفرح، يجب أن نكافح لنتفادى أن نقع في مستنقع الجمود الذي يأسرنا بعيداً عن فرحة الحياة، فهنالك أخبار مفرحة وكم نحن بحاجة للفرح، ألم يقل الشاعر ناظم حكمت "أجمل الأيام تلك التي لم نعشها بعد."