سجن ريمون في شهر آب

"النملة " بقلم الأسير والقيادي كميل أبو حنيش

المصدر / ​خاص مركز حنظلة للأسرى والمحررين

كان شهر آب هذا العام في سجن ريمون الصحراوي قائظ الحرارة، أتكلم في فراشي  عاجزاً عن نوم القيلولة بينما يتناهى على مسامعي أصوات بعيدة آتية من ساحة السجن، الحياة تمضي حتى في عالم الأصفاد والغرف المغلقة، منا من يذهب للنوم ولا يبالي بالحرارة، ومنا من ينشغل على التلفاز، وبعضنا يطالع وثمة من يجد لديه الفرصة للتمشي في الساحة رغم حرارة الجو، عيناي ساقطتان في الحائط على اليمين أتلمس حديد البرج فأجده حاراً يغلي بينما المروحة لا تبعث سوى هواء ساخن لا جدوى منه، ثمة ما لفت انتباهي أثناء انهماكي بسد ثغرة ضجري، نملة تتسلق الحائط ببطيء أتأملها وأحاول أن أتناسى ما أعانيه من الضجر والحرارة، تأملتها جيداً لدرجة أنني نسيت نفسي ومكاني وبات كل ما حولي هامشياً حتى أنا قد بت هامشياً وأنا أرقب هذه النملة التي لا يؤرقها شيء سوى الصعود نحو الأعلى.

 كانت تعد خطاها بكل ثقة من دون أن تحفل بما هو حولها، حاولت أن أتخيل نفسي مكانها، أتقمصها تراها لديها ذاكرة ؟متاعب وآلام وآمال؟ وإلى أين تغدو خطاها وأحاول أن أفكر بطريقتها ماذا نحن بالنسبة لها؟؟ كائنات عدوانية أم أليفة ؟ ما هو معنى وجودها؟ ترقبها حيادية وبوسعي أن اشاكسها...أن أعيدها إلى الوراء...أن أسد طريقها أو حتى أضع حداً لحياتها، لدى من الخيارات ما يكفي لتحديد مصير النملة والتحكم بقدرها، ربما كان بمقدوري أن أساعدها لو عرفت نيتها... أوصلها إلى أعلى الحائط... أو أوفر لها حاجتها، وماذا تكون تلك النملة؟  ذكر أم انثى؟ وهل بمقدورها تحديد هويتها ؟؟ هل تعي ذاتها لأي سلالة أو عرق تنتمي؟ وهل يؤرقها نفس المفردات كالحرية والحب والعدالة؟ هل تفكر بالموت؟ وهل يكون بوسعها الانعطاف من عالم الإرادة الغريزية وتعي ذاتها لتتأمل ما يدور حولها؟ أحاول أن أكون كما أسلفت نملة تسعى بلا أعباء... بلا ذاكرة ... تحبو بسعادة نحو الأعلى... إنها حرة في أن تواصل صعودها عمودياً أو تنحرف يميناً أو يساراً أو تعود إلى الوراء أو تخرج من النافذة وتغادر فضاء الغرفة إلى العالم الأكثر رحابة، خطر ببالي وأنا أراقب النملة أننا نحن الأسرى نشبه النمل أمام السجان، ندور في الساحة بينما يراقبنا السجان عبر الكاميرات المنتشرة في زوايا الساحة تراه كيف يرانا؟ مجرد نمل أمامه على الشاشة؟ بلا ذاكرة أو حاجيات ثانية؟ كيف يفكر بنا ككائنات؟ يراقب حركاتنا ودوراتنا في الساحة... بمقدوره أن يضغط على زر الإنذار ليجبرنا على دخول الغرف أو يبعث وحدة القمع لتعكر صفو نهارنا... يرشنا بالغاز نحن الكائنات التي تحبو وتسعى كالنمل قبالته... بمقدوره تجويعنا وقطع الماء عنا وصرفنا وحرماننا من الشمس والكهرباء والكتب... إنه يمتلك ويسيطر على حياتنا الخارجية مع أنه عاجز عن استلاب وعينا وإرادتنا.

سرحت بعيداً... تخيلت قمراً صناعياً يدور في الفضاء سيرانا نحن جميعاً كبشر أمامه أشبه بالنمل، حتى السجان ومن هم أعلى منه سيكون كالنمل أمام عدسة الكاميرا الصناعية، تصورت الكون عبارة عن عدسات من عدسة عيني وهي ترقب النمل مروراً بعدسة كاميرات السجن، القمر الصناعي، عدسة الشمس، عدسة المجرة، عدسة الكون، عالم لا نهائي من العدسات ترقب ببعضها البعض بلا انقطاع.

انقطع حبل تأملي بعد انقطاع التيار الكهربائي، عادت عدسة عيني تتأمل النملة كانت قد قطعت مسافة طويلة وأنا منشغل عنها لو أنها تمتلك الوعي لسخرت مني ومن تأملاتي بها، وأنا أفكر بامتلاك إرادتها بينما أنا مستلب الإرادة مثلها طالما أخضع لا إرادياً لعدسة كاميرا السجان، هذه النملة علمتني درساً مهماً في الحرية وكيف أفكر بالانعتاق وأن أتحرر من عدسات الكون، لدي حرية كامنة في أعماقي لو امتلك القدرة على تحريرها فهل أستطيع؟