شهيد الصراع مع سرطان الاحتلال

الأسير المحرر الشهيد: غسان الريماوي

الشهيد غسان الريماوي
المصدر / بقلم: نصير الريماوي

*سلطات الاحتلال حرمته من تكملة تعليمه المدرسي، ومن الثانوية العامة في المعتقل،

ومن العلاج لإنقاذ حياته من سرطان الدم الذي أصيب به في المعتقل الصهيوني

* ومصر كانت أمله الوحيد في إنقاذ حياته، إلا أنهم في مطار القاهرة منعوه من المرور لاستكمال علاجه هناك رغم وجود رسالة رسمية من السفارة المصرية

بقلم : نصير أحمد الريماوي

اقتحموا المنزل بقوة كبيرة بعد منتصف الليل في عام 2010 أثناء فصل الشتاء مع إطلاق قنابل صوتية والغاز المسيل للدموع، أرعبوا النِّيام.. وعاثوا فسادا في المنزل وخرّبوا الأثاث.. حشروا جميع الأسرة في غرفة واحدة بعنف وتحت الحراسة العسكرية المشددة والتهديد بالسلاح، أما "غسان" فحشروه في غرفة ثانية لوحده وبعدما أوسعوه ضربا قيّدوا يديه خلف ظهره.. وطلبوا من والده إحضار ملابس شتوية له ثم اقتادوه في غلس الليل إلى معتقل المسكوبية بالقدس وبعد التحقيق معه كانوا يريدون حكمه بـ(22) شهرا... وأعلنوا عن موعد تقديمه لمحكمة الاحتلال في معتقل "عوفر" الصهيوني ؟؟؟

ذهبت إلى المحكمة حينها.. أحضروه إلى المحكمة مكبَّل اليدين والقدمين، وهو لا يقوى على الحركة.. عندما نظرت إليه وجدت وجهه الذي كان يشع مثل النّور سابقا قد تحول إلى أبيض اللون مائل إلى الصُّفرة ؟؟ وصحته معتلّة، ولا ينبس ببنت شفة، وقد فوجئت عندما قال لي المحامي: اذهب على وجه السرعة لدفع(2000) شيقل إسرائيلي من أجل الإفراج عنه!!!!

لقد أثار استغرابي حديث المحامي، وشعرت بأن ولدي قد أصابه مكروه من التعذيب أثناء التحقيق معه هناك.. حاولت الاقتراب منه وضمه إلى صدري...منعوني عنه.. حاولت سؤال ابني عما جرى له.. لكنه كان ينظر إليّ بعينين حزينتين مجروحتين وبنظرات وَداعيَّة.. سحبوه غصبا وجبرا إلى داخل المعتقل وهو في حالة سيئة ويرثى لها..

خرجت مسرعا.. دفعت ابنتي المبلغ المطلوب في بريد قلنديا.. وثاني يوم خرج من معتقل "عوفر" وهو لا يستطيع السير على قدميه، ويعاني من آلام حادّة في ساقيه.. خفت عليه خوفا شديدا.. توجهت به إلى مستشفى رام الله الحكومي، وهناك فحصوا دمه أربع مرات للتأكد  من نسبته قوّة الدم فوجدوها (4) نسبة منخفضة جدا- تتراوح عادة نسبة قوة الدم الطبيعية للرجال "الهيميجلوبين" ما بين 14-18 جم/دسل- فاستغرب الأطباء من النتيجة، ومن كيفية استطاعته الوقوف على قدميه !!!

أدخلوه فورا...أجروا له فحوصات شاملة لتشخيص مرضه، وعلى مدار أسبوعين، ولم يتوصلوا إلى نتيجة.. ثم حوّلوه إلى مستشفى بيت جالا.. هناك أيضا فحصوه جيدا، وعرفوا بأنه مصاب بسرطان الدم، وقدموا له العلاج اللازم.. وذكر بعض الأطباء  لنا: بأن حالة غسان مأساوية وأعرب عن استغرابه بماهيّة المواد التي حُقن بها داخل المعتقل أو التي أُعطيت له دون علمه ؟؟..

على إثر ذلك تم تحويله إلى مستشفى الأمل للسرطان في عمان على نفقة السلطة الوطنية بتاريخ21/10/2011م حتى 3/3/2012م، هناك زرع الأطباء له نخاع أخذوه من شقيقه"محمد" المعتقل حاليا في سجن "ريمون" الصهيوني منذ عشرة شهور، وتحسنت صحته..

قبل عام تقريبا عادت صحته وتدهورت من جديد بحيث صار نحيفا، ولا يستطيع المشي، ويعاني من الإرهاق، والدّوخات، وضعفت شهيته للأكل وبدأت تتراجع شيئا فشيئا مع مرور الأيام.. أرسلناه إلى مستشفى رام الله الحكومي واكتشف الأطباء بأن السرطان وصل غدده اللمفاوية!! تم تحويله من وزارة الصحة الفلسطينية إلى مستشفى "المطّلع" بمدينة القدس، وحتى يصل إلى هناك يحتاج إلى تصريح من سلطات الاحتلال لدخول مدينة القدس!!..

لقد كان "غسان" يصارع مرض السرطان ويتحدى قيود الاحتلال الماثلة أمامه لمنعه من تلقي العلاج، وذهب إلى المستشفى عن طريق التهريب حاملا معه التحويلة.. هناك أدخلوه صباحا حتى العصر ثم اعتذروا عن علاجه، وقالوا له :علاجك في مستشفى نابلس؟؟، تم تحويله مرتين إلى مستشفى "المطَّلع" ولكن دون فائدة...

تخاذل عربي وإسرائيلي

أما في مستشفى نابلس فكان دائما يراجع هناك ويقدموا له العلاج الكيماوي ثم يردوه بسبب عدم توفر سرير فارغ له رغم وضعه الصعب، كما أبلغوه بأن العلاج انتهى ولا توجد زراعة عندهم؟؟ بعد ذلك تم تحويله إلى مستشفى "هداسا" الإسرائيلي لكن سلطات الاحتلال رفضت ذهابه للعلاج هناك رفضا قاطعا لأسباب أمنية رغم المحاولات المتكررة لإنقاذ حياته ؟؟؟؟... وبذلك حاصروه صحيا....

مع مرور الوقت اشتد عليه المرض بسبب سياسة التسويف والرفض الممنهجة ضد الأسرى المرضى، وبعد محاولات عدة يائسة أرسلناه إلى الأردن على نفقتنا الخاصة، وكانت تكاليف علاجه تقدر بـ(100,000) دولار، وكل خزعة بتكلفة(500) دينار أردني علما بأن وضعي الاقتصادي سيء للغاية، وقد أصبت بجلطة دماغية خلال شهر 8/2011م أدخلتني في غرفة الإنعاش بمستشفى رام الله الحكومي حتى تعافيت، وقد أثّرت على صحتي كليا أقعدتني عن العمل..

مضافا إلى ذلك كنت طالبا جامعيا في جامعة "باب الزوار" بالجزائر تخصص كيمياء في نهاية السبعينيات، وبقيت لي سنة على التخرج منها وأعود لوطني، وعندما عدت إلى الأردن لزيارة الأهل في عام 1980حجزوا جواز سفري هناك فحُرمت من إكمال تعليمي حتى هذه اللحظة...وكذلك حرمت سلطات الاحتلال "غسان" أيضا من تقديم بعض امتحانات شهادة الدراسة الثانوية العامة"التوجيهي" وهو في المعتقل ولم يستطع إكمال متطلبات النجاح حينئذ، حيث استغلت سلطات المعتقل يوم تقديم الامتحانات وقدمته للمحكمة عُنوة في نفس يوم بعض الامتحانات بهدف الحيلولة بينه وبين الحصول على شهادة الثانوية العامة، وهكذا قضوا على مستقبله التعليمي وعلى حياته..

نعود إلى وضع "غسان" الذي كان يعد أيامه الأخيرة عندما وصل الأردن بدأنا من داخل الوطن بِسَعينا الحثيث لإخراج تحويلة له من السلطة الوطنية ، ونجحنا في إخراجها لكن كانت التحويلة موجهة إلى جمهورية مصر العربية، كما أحضرنا ورقة رسميّة من السفارة المصرية الموجودة عندنا بالموافقة الأمنية وأرسلناها له، كما حجزنا له بالطائرة خلال شهر10/2015م وعندما وصل مطار القاهرة الدولي كانت سيارة الإسعاف تنتظره في الخارج ووضعه صعب للغاية ومع ذلك أبلغوه هناك: أنت مرفوض أمنيّا وممنوع المرور.. أظهر لهم ورقة السفارة المصرية عدة مرات ويردّون عليه: ممنوع من المرور!!، وظل حبيس المطار من الساعة الثامنة صباحا حتى الساعة الواحدة بعد ظهر اليوم الثاني، وأعادوه في طائرة إلى الأردن ثانية بعد الإهانات والتحقيق معه وهو يُقضِّي لحظات حياته الأخيرة ولا يستطيع السير يا عالم....

هذا التخاذل من بعض الأنظمة العربية زاده إيلاما، وعناء، ومرارة بعدما كان أمله الوحيد في إنقاذ حياته، وحَكَم عليه بالموت مثلما حكم الكيان الصهيوني الذي حاصره صحيا وحرمه من العلاج...

عندما لاحظت لجنة مستشفى الأمل للسرطان بالأردن وضعه الصحي المأساوي، وقد تَقطَّعت به سبل العلاج، قررت مشكورة معالجته ضمن الحالات الاستثنائية بالتعاون مع لجنة الزكاة على نفقتهما، وتحمل تكاليف علاجه لأسباب إنسانية...

 هذا ما رواه لي والده عباس محمود رحيمي الريماوي.

طبعا استمر "غسان" في تلقي العلاج الكيماوي في هذا المشفى المذكور حيث أمله الأخير، وتسابق أهل الخير مشكوين بالتبرع له بصفائح الدم اللازمة، كما اشتعلت النداءات للتبرع له بالدم لإنقاذ حياته، إلا أن الوقت قد فات، وبعد انتهاء العلاج الكيماوي تم عزله في غرفة لوحده يحيطون به أقرباؤه هناك.. بدأ يطلب منهم و بإلحاح شديد أن يحضروا له والدته من الوطن لرؤيتها.. ويسأل الموجودين بين الفينة والأخرى: أين وصلت أمي؟ طبعا اتصلوا بوالدته وطلبوا منها الحضور فوار.. حملت نفسها هي وابنتها من داخل الوطن وذهبت إليه..

تقول والدته"أسماء": عندما وصلت المشفى دلفت إلى غرفة الإنعاش حيث كان موجودا.. ومن خلف الزجاج أنظر إليه في بادئ الأمر.. جاء طبيب وسألني: ما هي صلتك بالمريض؟ قلت له: أنا أمه.. فقال لي: المريض عنده نزيف في معدته وحالته يُرثى لها، وأريد أن أقول لك شيئا مهما وهو: أننا إذا وضعنا المريض على جهاز التنفس الاصطناعي يجب أن تعرفي بأن" غسان" سيفارق الحياة، ويكون في لحظاته الأخيرة!!!!..ما أن سمعته يقول ذلك حتى فرَّت الدموع من عيني من حُرقتي عليه.. وطلبت منه أن يدخلني إليه.. ألبسوني مريول خاص، ودخلت إليه.. هجمت عليه احتضنته بين يدي، وصرنا نبكي معا وتعانقت دموعنا.. لم يستطع الحديث مع أحد، ولم يذق طعما للنوم من شدة الألم منذ أن كان في الوطن.. جلست بجواره.. أبكي حاله وحالنا كشعب فلسطيني لأني شعرت بقرب الأجل.. كان يوصيني بكلام متقطع وبصعوبة: ديروا بالكم على حالكم، ويسأل عن أحوال الجميع..ويقول: أحبك يا أمي.. أحبك... ويقول: حدثيني يا أمي، واستدعي لي، واقرئي لي من القرآن الكريم لترتاح روحي لسماعه.. بدأت استدعي له.. وأقرأ له الآيات من القرآن الكريم طوال الليل وهو واجم، ويتألم، وناحل الجسد، وعيناه ذابلتان، و يلفظ في أنفاسه الأخيرة.. قلت له استشهد يا أماه: فنطق الشهادتين ورددها عدة مرات وهي تبكي.. طلب منّي الكف عن البكاء وتلاوة القرآن لأنه أراد فراق الحياة على سماع آياته..

 خرجت من الغرفة قليلا لأخبئ عنه دموعي وبكائي فما أن عدت إليه حتى وجدت مجموعة من الأطباء يلتفون من حوله ويضعونه على جهاز التنفس الاصطناعي.. عندئذ جاءت شقيقته التي رافقتني واقتربت منه تنادي عليه: غسان.. غسان.. فلم يرد حيث فاضت روحه الطاهرة إلى خالقها فجر يوم 10/11/2015م تشكو ظلم الاحتلال وظلم الظالمين الذين ساهموا في حصاره صحيا، وتعليميا، ومنعه من تلقي العلاج في الأوقات المناسبة.. لقد صارع ظلم الاحتلال وسرطان الاحتلال ولم يحنِ لهم هامة ظل شامخا مثل شموخ الجبال حتى آخر رمق..هكذا هم أبطال بيت ريما يناضلون ويضحون بأنفسهم ثم يذهبون واجمين وبصمت ويتركون خلفهم للتاريخ ليكتب عن نضالاتهم المُشرّفة عبر تاريخ قضيتنا الفلسطينية...

لقد ولد غسان بتاريخ 2/8/1988 في جبل القصور بعمان حيث كان والده يعمل هناك ثم عاد إلى أرض الوطن مع أسرته في عام 1997، وقد حصل والده عباس محمود رحيمي الريماوي على كتاب من الشهيد المرحوم ياسر عرفات لتعيينه في وزارة الإسكان حينئذ ولم يتم تعيينه لغاية هذه اللحظة حيث أصبح يبلغ من العمر الآن (61) عاما.

لقد اعتقلت سلطات الاحتلال "غسان" وهو طفلا في أول مرة وكان يبلغ من العمر (12) سنة في معسكر تحقيق قرب مدينة نابلس لمدة (15) يوما ، واعتقلته مرة ثانية في تاريخ 23 كانون أول عام 2005م في معتقل "هشارون" للأشبال لمدة (19) شهرا ، وهو في الصف الثاني الثانوي أدبي شهور بتهمة الانتماء إلى الجبهة الشعبية، ورشق الحجارة، وفي المرة الثالثة في معتقلي"المسكوبية" و"عوفر" الصهيونية لمدة  سبعة شهور، وكذلك في شهري 1+2/2015 اعتقلته سلطات الاحتلال حيث اقتحموا منزلهم من الساعة1-4 فجرا جنود ومحققون إسرائيليون في ظل جو بارد وقارس وماطر واقتادوه إلى مستعمرة "حلميش" وشبحوه على عامود لمدة ساعتين تحت البرد والمطر خلال فترة مربعانية الشتاء التي تمتاز بشدة برودتها، وهم يعرفون بمرضه، وخلال هذين الشهرين ذاقت الأسرة مرارة ووحشية أساليب جنود الاحتلال البشعة أثناء الاقتحامات لثلاث مرات متتالية..

 بذلك حرموه من مواصلة تعليمه والانطلاق إلى الحياة مثل باقي أطفال العالم.. لقد كان"غسان" يحلم في حياته بأن يعمل مشروعا اقتصاديا من جهده وعرق جبينه لوالده لكسب قوت عيشهم ليرتاح في حياته القاسية بعد إصابته بالجلطة الدماغية ، وحرمانه هو الآخر من مواصلة تعليمه الجامعي، ومن الوظائف حتى بلغ من الكِبَر عتيا..

من الجدير ذكره بأن والد "غسان" خطب" لغسان على ابنة خاله "فهيم" قبل سنتين، واشتروا لها كسوة العُرس خلال هذه الفترة، لكن "غسان" أصرّ على الطلاق منها بعد اكتشافه المرض، وعلى الرغم من أن خطيبته كانت متمسكة به وسعيدة بذلك، إلا أنه آثر الطلاق لتذهب خطيبته في حال سبيلها وتعيش حياتها، أما هو فقد غادر الحياة راضيا مرضيا، ومتمسكا بحقوق شعبه التي ناضل من أجلها...