من سجن جلبوع

"أرض اللبن والعسل" عن حوار بين الاسير كميل ابو حنيش ومعتقل جنائي (اسرئيلي) في البوسطة

المصدر / ​خاص مركز حنظلة للأسرى والمحررين

كان صباحا قارص البرودة في السابع والعشرون من كانون الأول لعام2016م ، وها نحن أثناء نقلي من سجن جلوع المركزي الى سجن نفحه الصحراوي ، أصعد الى سيارة البوسطة مكبلا بالقيود كانت السيارة تعج بالأسرى الفلسطينيين والجنائيين اليهود والعرب ، يرتدي الأسرى الفلسطينيين الذين يطلق عليهم (الأمنين) اللون البني بينما يرتدي الجنائيين الزي البرتقالي ، أخط خطاي داخل البوسطه باحثا عن مكان فارغ ولم أجد يومها سوى مكان واحد بجانب شاب من ذوي الزي البرتقالي وملامحة توحي بأنه ليس عربيا وهذا يعني أنني سأجلس بجانب سجين جنائي يهودي وهو أمر اعتيادي في رحلة البوسطة ، تختفي المشاعر العدائية بين السجناء العرب واليهود في مثل هذه الرحلات اليومية وينظر لتنشئ علاقات وصداقات بين الطرفين بالاكتفاء بالعبارات الترحيبية والحديث القصير ، فور جلوسي بجانب ذلك الشاب الذي تبادلت معه عبارات التحية المتعارف عليها بين البشر ، بدأ الشاب هادئا وخجولا وملامحة التي تحمل ذلك الخليط العجيب من السلالات البشرية ولكنها أقرب للملامح الشرقية ، أثار فضولي ملامحه التي أوعزتني نفسي بأن لا بأس من التعرف على هذا الشاب ، وتبادلت أطراف الحديث معه لعله يبدد عن نفسه في هذه الرحلة الطويلة التي ستمتد قرابة العشر ساعات حتى وصولنا الى سجن الرملة ابتسمت في وجهه وسألته ما اسمك؟ راج، أين تسكن؟ في مهاريا، كم عمرك؟   24عام ، عرفته بنفسي وبمكان سكني وسنوات أسري وتركت له الحديث في معظم الوقت ، من خلال سلسلة من الأسئلة من جانبي وهو بدوره يجيب بكل سلاسة وتلقائية وعن حياته بالطبع كان (سامار) باللغة العبرية تفاجأت بأنني أعرفه أكثر منه والدقائق الأولى من الحوار تكشف لي بأنه لا يعرف شئيا عن سكناه ولا عن البلد التي يعيش فيها ولا عن تاريخها أو جغرافيتها أو مجتمعها، أدهشني (راج) وهو يروي لي حكايته ببساطة وعفوية وكأنه صديق قديم، قال لي بأنه قادم منذ 3سنوات من المكسيك ووالده يهودي اسرائيلي هاجر منذ 30 عام الى المكسيك، فر تاركا أبويه هناك في اسرائيل، وهناك في المكسيك استقر بشكل نهائي ، تزوج من امرأه مسيحية مكسيكية وأنجب منها عددا من الأبناء والبنات أكبرهم راج ، نشأ راج وترعرع في المكسيك وتزوج هناك من فتاه مكسيكية مسيحية وانجب منها طفله اسمها كرستين ، ساءت أحوال راج الاقتصادية في المكسيك كان شابا في العشرين من عمره وليس لديه أي عمل ثابت ولم بجد أمامه خيار سوى الاستماع الى والده الذي دفعة بالهجرة الى (اسرائيل) والاقامة مع جدته العجوز في نهاريا وبمقدورة العمل في مزرعة جديدة ويبدأ حياته من جديد، تحمس راج للفكرة وداعبت خيالة أرض اسرائيل التي ستفتح ذراعيها لكل قادم جديد قرأ عنها في النشاط السياحي ووجد فيها كل ما يلزم الحياه برفاهية ، حزم أمتعته وهاجر الى أرض الأحلام وعند وصوله الى نهاريا استقبلته جدته بحفاوة الجدات بينما امتعظ  جده المتدين بسبب يهودية حفيده المنقوصة، استوقفته وسألته عن أصول جده وتبين أن جده ايراني الجنسية بينما جدته من مدينة حلب السورية، جده في 75 من عمرة وهاجر من ايران الى أرض اسرائيل منذ عام 1963م أما جدته الحلبية فعمرها بحدود ال 70 عام وهاجرت الأخرى قبل 60 عام، أثار فضولي أن أسأله عن مشاعرها هذه الفترة عن طفولتها بحلب وهي تشاهد الحرب الضاربة التي دمرت طوال تلك السنوات وهل هي حزينة على مدينتها أم انها مسرورة أم أنها غير مبالية؟ ، أجابني أنها حزينة جدا ورأيتها تبكي أكثر من مرة وهي تشاهد مدينة حلب تحترق والقنابل تضربها طوال تلك السنوات، المهم حاول راج الاستقرار في اسرائيل والعمل في مزرعة جده وتزوج فتاه يهودية اسرائيلية انجبا طفلا اسمتها والدتها (ياعيل) لم ينجح راج في اعمال الزراعة وساءت أحواله في أرض اللبن والعسل، اقترح عليه جده الانخراط في الجيش لكنه رفض الفكرة ووجد نفسه منخرطا في عالم تجارة المخدرات الى أن قادته قدميه الى السجن وحُكم بعامين أمضى منها عام وتبقى له عام أخر ، سألته ماذا ستفعل بعد الخروج من السجن اجاب حاسما سأعود الى المكسيك، وزوجتك وابنتك ياعيل؟ امتلأ بالحزن والحيرة وأجاب قلبي موزع هنا وهناك، أحب المكسيك وأحن اليها ولم أجد أي انتماء يربطني باسرائيل، لو لم تقبل زوجتي بمرافقتي الى المكسيك لانتهت المشكلة لكني بكل الأحوال سأغادر وأعود الى المكسيك ، كنت أتساءل وأنا استمع الى راج وهو يروي لي عن حياته كيف هذه التعددية في الهوايا أن تتعايش داخل الانسان جده من أصول ايرانية وجدته من أصول سورية ربطتهما أرض المعياد فهاجرا ولايزالان يحنان الى موطنهما الأصلي بعد أكثر من نصف قرن في الحياة بأرض اللبن والعسل ، ابنها الوحيد يرحل تاركا الأرض الأجداد ويهاجر بشكل نهائي الى المكسيك وهناك يقترن بامرأة ليست يهودية تنجب له أبناء وبنات لا تعترف اليهودية الأرثوذكسية بيهوديتهم وها هو ابنه راج يتزوج هناك من امرأه محلية وينجب طفلا مهاجر حاملا يهوديته الى اسرائيل ليعيش مع جديه اليهودين ويتزوج من فتاه صافيه يهودية وينجب منها طفلا صافي أيضا يهوديا بحكم يهوديته ، وما بين كرستين المسيحية في المكسيك وشقيقتها ياعيل اليهودية في أرض الميعاد ثمت مساحات من العنصرية والكراهية والغوغائية الدينية ، يضيف راج ويتمزق ألما وحزنا وها هي أرض اللبن والعسل وهو في العالم السفلي يلقى مصيره القاسي أخيرا في سجونها فهذه التعددية في الهويات تعكس اشكاليات الديانة اليهودية ومن جانب اخر تعكس احدى اهم دوافع المشروع الصهيوني في فلسطين والادعاء بمجتمع قومي ومتماسك ومتجانس ، فقضية راج تلخص طبيعة هذا المجتمع الضعيف والمفكك والغير متجانس ، مجتمع بارد لم يجد فيه راج أي دفئ في العلاقات الانسانية باستثناء جده وجدته المتسامحة التي لا ترى في راج سوى الحفيد بصرف النظر عن يهوديته المنقوصة ، تركته ينام ويأخذ قسطا من الراحة في هذه الرحلة الطويلة المتعبة ، وحين وصلنا الى ساحة سجن الجلمة أيقظته ليتناول وجبة الطعام الخفيفة التي يقدموها لنا في هذه المحطة التي نتوقف فيها ساعة قبل أن تغادر البوسطة باتجاه الجنوب في طريقها الى سجن الرملة ، وبعد ان أنهى طعامه سألته هل تعرف شيئا عن تاريخ هذا البلد وعن الصراع الدائر فيها ، وجدت راج يجهل كل شيء وهو لا يعرف شيئا عن تاريخ هذا البلد ولا حتى عن أرض صهيون أو المشروع الصهيوني ، وأين نشأت دولة اسرائيل لا يعرف ولا عن النكبة او حرب حزيران 67 لا يعرف ما هي القضية العربية وقطاع غزة ولا الضفة، كل ما يعرفه هو خليط مشوش من المعلومات التي يجمعها من هنا أو هناك ، وحين رويت له باختصار عن الصراع والحروب والتاريخ والادعاءات الصهيونية أبدى راج دهشته وبدا متعاطفا كليا مع القضية الفلسطينية وعندها أدركت تماما أن راج لا ينتمي نهائيا لهذه الدولة ولا للمشروع الاستيطاني ، استغربت جهله وسألت نفسي أين هي التعبئة الصهيونية للقادمين الجدد وأين هو الحلم السامي لبناء المجتمع والمواطن العصري والمتنور المنتمي لتاريخها وهويته ومنسجم مع دولته ، واستعداده للدفاع عنها والموت في سبيلها ، تحركت سيارة البوسطة وأخذت تشق طريقها جنوبا وسرح راج متفرغا في تفكيره ينظر الي بين الفينه والأخرى نظرت نظرات لا تشير بأي عدائية بل تشير الى التعاطف شعرت حينها بأنه أقرب لي من قومه اسرائيل وثقافتها العنصرية وبعد أكثر من ساعة كسر راج حاجز الصمت وقال لي أن معظم أصدقاءه من العرب وهو يحب الطعام العربي وخاصة (المقلوبة). وأنه تعلم بعض الكلمات العربية وتبين على حديثة ثمت كلمات عربية متشابهة مع بعض مفردات اللغة الاسبانية في المكسيك وسألته الا تعرف لماذا اجري الحديث معك وقد رويت له تاريخ العرب في اسبانيا وأنهم كاموا هناك ثمانية قرون ومن الطبيعي أن تختلط اللغة والثقافة ورويت له أيضا تاريخ القارتين الأمريكيتين وعن ابادة الهنود الحمر على أيدي الرجل الأبيض ، وعن اسبانيا التي استولت على القارة الأمريكية الجنوبية والوسطى وهكذا انتقلت اللغة الأسبانية بما تحويه من مفردات عربية الى المكسيك وغيرها وهناك أيضا تزاوجت العلاقات والسلالات الأوروبية والأفريقية والهندية والشرقية ، وهذا ما يفسر ملامحك الغربية يا راج وهي ملامح عابرة للأجيال والثقافات والأعراق وشاهد على الملامح الانسانية الخالصة كما يجب أن تكون ، أحببت راج من وراء تلقائية وملامحة المختلفة ونشأت بداية صداقة بيننا وطوال تلك الساعات المتبقية تحدثنا في كل شيء حدثته عن نفسي وهو حدثني عن حياته الحافلة بالمغامرات ، ضحكنا وسخرنا وقبل أن نصل سجن الرملة بقليل تمنيت لراج الحرية من كل قلبي، وكما أن نلتقي ويدعوني الى بيته في المكسيك، وانا بدوري شكرته على مشاعرة النبيلة ودعوته أن أزوره في المكسيك ، ورهنت ذلك بالمستقبل وما يخبئه لنا من مفاجئات تكسر المستحيلات وأن أكتب الحديث بما جاء في هذه الرحلة ، ابتسم بخجل وقبل أن نعبر بوابة سجن الرملة قلت له ، أتعرف ماذا يصف الصهاينة هذه البلد؟ بهدف تشجيع اليهود للهجرة اليها أجاب لا أعرف ، قلت له أنهم يوصفوها بالبلد التي بها لبن وعسل ، ابتسم راج بمرارة وصمت طويلا قبل أن يقول انها بلد اللبن الأسود والعسل المر وقفت وصافحت راج بحرارة ، ونزلت من سيارة البوسطة وتأملت هذا المجتمع المغلق عن الحكايات والأسرار والتفاصيل , أولئك الذين ألقت بهم الحركة الصهيونية وقوى الاستعمار في العالم بطاحونة هذا الصراع ونبذت معظمهم على هامش الحياة ، في ازقة الفقر والعرض في أرض اللبن والعسل أو في سجونها المنشرة من أقصى شمال فلسطين وحتى أقصى جنوبها .

بقلم الرفيق / كميل أبو حنيش